أكبر خطر يهدد الأمة: انقسامها من داخلها.. في البيت والشارع.. الحقل والعمل.. المسجد والكنيسة.. إذ يمثل الانقسام أخطر سلاح يستعين به عدو الأمة عليها، يحصد منها غنيمة باردة دون حر القتال.. أما أبناؤها فيجنون ما كسبته أيديهم: فُرقة، وانقساما.. ذُلا، وجُوعا، وانكسارا. لقد دعانا الله شبحانه إلى الوحدة.. فهي في الإسلام أصل، وفرض.. قال تعالى: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ".(الأنبياء: 92).. ربط الحق هنا بين وحدة الأمة، وعبادة الرب؛ فالعبودبة الحقة تقود إلى وحدة القلوب، والمشاعر، والقصد، والعمل. ونظرا لأهمية الوحدة، واجتماع الكلمة، رأينا الأنبياء والرسل يحرصون على إرساء هذه القيمة في أقوامهم، ومجتمعاتهم. وهذا النبي هارون -عليه السلام- يتأنى ببني إسرائيل، ويتركهم على عبادة العجل حتى يرجع موسى، لا إهمالا لشأن التوحيد، ولكن حرصا على اجتماعهم، ليسمعوا كلمة الحق، لأنهم لو تفرقوا لنابذت كل طائفة أختها، وكانت فتنة لا يستقيم معها دعوة، ولا إصلاح. قال تعالى:"قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)". (طه). ويعلق الدكتور يوسف القرضاوي على الآيات بقوله: "إن هارون سكت على ارتكاب الشرك الأكبر، وعبادة العجل، الذي فتنهم به السامري، حفاظا على وحدة الجماعة، وخشية من تفرقها، وهي خشية موقوتة بمدة غياب موسى، حتى إذا عاد.. تفاهم الأخوان الرسولان في كيفية مواجهة الأزمة". ويضيف القرضاوي: "هكذا يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام، والعاملين له: الاتحاد والألفة، واجتماع القلوب، والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة، وكل ما يمزق الجماعة أو يفرق الكلمة، مما يوهن دين الأمة، ودنياها جميعا" وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشدد على وحدة أصحابه، وتآلف قلوبهم، وامتزاج أرواحهم؛ فيتصدى من فوره لدعوة "منتنة" تستهدف تمزقهم، ونشر البغضاء في أوساطهم، واستهدتف إحداث الوقيعة بين قلوبهم. فقد روى البخاري أن زعيم اليهود "شاس بن قيس" مرّ على جماعة من الأنصار، فيهم الأوس والخزرج، وهم جلوس يتسامرون في مودة وحب، فغاظه ما رآهم عليه من انسجام، وأخوة، فعهد إلى رجل من اليهود يحفظ أشعار "يوم بُعَاث" -الذي اقتتل فيه الأوس والخزرج قبل الإسلام بقرابة عقدين؛ فجاء اليهودي، وجلس بين الفريقين، وصار ينشد أشعاره الخبيثة التي قيلت في الجاهلية بينهماذ، تمجد العنصرية والقبلية، وتدعو إلى التناحر، والاقتتال. ولأن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولأن أشعارهم تلك كانت مواطن فخرهم، ولأن اليهودي الخبيث من شياطين الإنس.. فقد ثارت نفوس القوم، وامتلأت بالعنصرية والقبلية، وأهاجت الذكرياتُ المنتنةُ الخبثَ في نفوسهم، والفُرقة بين صفوفهم.. فقاموا يتنادون: "يا للأوس"، و: "يا للخزرج"، وعمدوا إلى أسلحتهم، فشهروها في وجوه بعضهم وبعض. ولمّا بلغ الأمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ترك ما في يديه، وقام مسرعاً يجر ثوبه، حتى بلغ القوم، وهو ينادي فيهم: "دعوها فإنها منتنة".. متسائلا: "أبدعوى الجاهلية، وأنا بين ظهرانيكم؟.. قال الراوي: "فألقى القوم أسلحتهم، وعانق بعضهم بعضاً". إن كل دعوة إلى الفُرقة والانقسام هي دعوة "منتنة" فعلا.. و"شاس" هذا الذي يبث الفتنة والوقيعة موجود في كل مجال ودرب.. إذ يعمل في التحريش والعنصرية، ويدعو للفُرقة والتمزق.. دعوة "منتنة" يجب الحذر منها، وتجنب الوقوع فيها، أيا كان مصدرها، وشخوصها. أخيرا: هذا أب كريم، يؤكد في نفوس أبنائه المعنى العظيم للاتحاد، ونبذ الفرقة.. إذ جمع لهم عددا من العُصي، فلم يستطع أي منهم، أن يكسر مجموعة العُصي المتضامة، في حين تمكن كل منهم، أن يكسر كلا من هذه العُصي، على حدة، عندما أصبحت فُرادى. هنا قال لهم الأب الحكيم: "كونوا جميعا يا بَني.. إذا اعترى خطب.. ولا تتفرقوا آحادا.. تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا.. وإذا افترقن تكسرت أفرادا". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد