تناول مقال الأسبوع الماضي بعضا مما جاء في السيرة النبوية الكريمة من حوادث تدل على تطبيق المفهوم العظيم للتسامح والاستيعاب مع الآخرين، وعددها نحو خمس حوادث هي: حلف الفضول، وتجديد الكعبة. ووثيقة المدينة، وصلح الحديبية، وفتح مكة. واليوم نتناول دعوة الإسلام إلى الالتقاء مع المخالفين في الرأي والعقيدة عند كلمة سواء، وتبنيه العيش المشترك الذي يجمع بين أبناء الوطن الواحد، على اختلاف عقائدهم، والتصدي لأي محاولات لبث الفتنة والعنصرية بين شركاء العقيدة الواحدة. كلمة سواء
قال تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?.(آل عمران: 64). إن الإسلام أول دين يوجه الدعوة الصريحة إلى المختلفين معه في الاعتقاد إلى درجة التضاد أن يبحثوا معه عن المساحات المشتركة من التفاهم والاتفاق. ويوجه الله تعالى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أن تكون له المبادرة في دعوة الآخرين إلى ذلك "قل يا أهل الكتاب تعالوا".. والخطاب هنا لمخالفين في الاعتقاد. "إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"..إلى كلمة عدل وإنصاف وحق.. وهي أغلى ما يملك المسلم، وهي أن نوحد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئا، وهي ركائز اعتقادية ثابتة لا يتخلى عنها المسلم أبدا. فليس معنى الدعوة للالتقاء (عند كلمة سواء) أن يتنازل المسلم عن عقيدته، أو أن يجعلها مادة للمساومة.."ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله".."فإن تولوا"..أي : فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك: "اشهدوا بأنا مسلمون". فدعاهم إلى لإنصاف، وأداء الشهادة، بأن المسلمين قد أدوا ما عليهم تجاههم، من المرونة، والاعتدال، والتوسط، والتفاهم. وهكذا: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مطالبا بالبحث عن منطقة توافق بين المسلمين وأهل الكتاب من النصارى واليهود.. فهو ليس مأمورا بأن يهاجمهم أو يتقول عليهم.. فلاشك أن المسافة بين المسلمين والمسلمين أو بين المسلمين وبني جلدتهم من أبناء الوطن الواحد من غير المسلمين أولى بهذا الخلق الرفيع.
تعايش مع المشركين الآية السابقة كانت تتحدث عن تفاهم واتفاق في مجال على الحد الأدنى في مجال الاعتقاد، وهو أصعب مساحة للحوار والالتقاء.. أما وعلى مستوى المعاملات، فإن الإسلام يحافظ على حق المخالفين، حتى لو كانوا ليس أهل كتاب، أو كانوا مشركين، في المعاملة الكريمة بديار الإسلام، وأن يُبسط لهم جناح الأمن والاستقرار. قال تعالى :"وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ". (التوبة :6). "استجارك" يعنى: طلب أن تجيره، وتحميه..فأجره: أعطه الأمان حتى يسمع كلام الله.."ثم أبلغه مأمنه": المكان الذي يأمن فيه على نفسه، وأهله، حتى لو كان في ديارالإسلام.، أي أنها دعوة للمشركين أن يعيشوا بين المسلمين بشركهم. وهذا بين المسلم والمشرك.. أما بين المسلم والمسلم فالأمر أعمق، والبحث عن المساحة المشتركة، والالتقاء المشترك أمر مهم..ولكن في عصور الانحطاط، والبعد عن منهج الإسلام وفقعت هذه القصة الخطيرة: "كان الخوارج إذا أصابوا في طريقهم مسلما على غير معتقدهم، قتلوه لأنه عندهم كافر، وإذا أصابوا نصرانيا استوصوا به وقالوا: تحفظوا ذمة نبيكم! وقد روي أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج، فقال لأهل الرفقة، وقد كادوا يهلكون من الخوف :"إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم". خرج واصل إلى الخوارج فقالوا له: ما أنت وأصحابك؟ قال: قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله، ويفهموا حدوده.قالوا: قد أجرناكم..قال: فعلمونا فجعلوا يعلمونه أحكامهم. فقال واصل : قد قبلت أنا ومن معي..قالوا: فامضوا صاحبتكم السلامة فقد صرتم إخوانا..فقال: بل تبلغوننا مأمننا لأن الله تعالى يقول "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه"، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا : ذلك لكم.. فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن!