أستغرب كثيرًا من محاولة البعض النفخ فى حكاية اعتذار الدكتور محمد البرادعى عن ترشحه لرئاسة الجمهورية، وكأنها كانت مفاجأة، وكأن الرجل كان المرشح الأول مثلا، أو أن فرصه فى النجاح إذا قرر خوض التجربة هى الأوفر، وأتصور أن جميع من يحاول النفخ فى الموضوع يعرف تمامًا الأسباب الجوهرية التى استدعت من البرادعى أن يسارع بانسحابه "الكريم" قبل الفضيحة. للتذكرة، ولأمن سوء اللبس، أذكر بأن كاتب هذه السطور كان من أوائل من طالبوا بدعم ترشيح البرادعى للرئاسة، وناشدت الإسلاميين أن يقدموا البرادعى لهذا المنصب بوصفه شخصية ليبرالية تؤمن بالحريات العامة، ولم يلوث فى النظام السابق، وقد انتقدنى بعض الإسلاميين بعنف زائد عندما قلت هذا الكلام قبل عدة أشهر، وكانت آمالى وقتها أن ينجح البرادعى فى أن يمد جسور الحوار والثقة مع التيارات الوطنية المختلفة، وأن يبدأ فى النزول إلى الناس فى الميادين والشوارع والقرى والمدن ويجرى حوارات جادة وعميقة مع الأحزاب المختلفة بدون حساسيات مسبقة، ويقدم رؤية لمصر المستقبل، إلا أن ظنى خاب تمامًا فى الرجل، بل وأقرب المقربين له خاب ظنهم فيه حتى ابتعدوا عنه الواحد تلو الآخر. مشكلة الدكتور محمد البرادعى أنه تعامل مع موضوع الرئاسة بوصفه أشبه بوجبات الطعام الديليفرى، التى ترفع سماعة الهاتف وتطلبها فتأتيك عبر مندوب خلال ساعة زمن على الأكثر، لم يبذل أى جهد يذكر للعمل السياسى، ولم يبذل أى جهد من أجل التواصل الجاد والفعال مع القوى السياسية والكتل ذات النفوذ والحضور الشعبى، والغريب أن يتحدث البرادعى الآن عن أنه لا يستطيع أن يترشح وسط أجواء من الصفقات السياسية والحزبية، وكأن هذه الصفقات اختراع مصرى وليست أحد أهم أدوات الصراع الديمقراطى فى أى مكان بالعالم، هناك أحزاب وقوى سياسية متباينة، وهناك صفقات تتم بين تلك الكتل من أجل تحقيق ما يرونه الأفضل لإدارة شؤون السلطة أو المعارضة أو أى مجال سياسى. فى تقديرى أن نتائج الانتخابات البرلمانية وما كشفت عنه من توازنات قوى شعبية جديدة أصبحت شديدة الوضوح، مثلت للبرادعى صدمة كبيرة، وأقنعته بأن فرص نجاحه فى سباق الرئاسة ضعيفة للغاية وهامشية، وأنها قد تنتهى بفضيحة تقارب فضيحة "توفيق عكاشة" فى انتخابات البرلمان، فآثر الرجل السلامة، وأن يكون خروجه من السباق مبكرًا وبشكل "مشرف"، البرادعى اكتشف أن القوى التى تدعمه لا تمثل 5% من القاعدة الانتخابية فى مصر، كما أن هذه النسبة ذاتها أصبحت منقسمة فى موقفها من ترشح البرادعى، وقد تحاورت بنفسى مع بعض من أبرز أعضاء الحلقة الصغيرة حول الرجل وكان هذا هو الانطباع. أقول هذا الكلام وأنا حزين بالفعل، لأنى ما زلت أحترم الرجل وأقدر نبله ورغبته الأكيدة فى تطور بلاده للأحسن، ولكن السياسة فى النهاية لا تدار بالأمانى ولا بالنوايا الحسنة، وإنما بالجهد العملى والتواصل والصبر على أشواكها. [email protected]