كان واضحاً مع النفس صادقاً معها، لم يداجن أحداً طوال حياته، وإنما اتخذ الصراحة مبدأ ونبراسا وحارب فى كل الجبهات كل الأفكار المارقة التى سادت عصره وصحح الشائع الذى رسخه المغرضون فى أذهان الناس ردحا طويلاً، ومازال على فكره هذا حتى لقى ربه ...إنه الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين أستاذ الأدب العربى القديم والمفكر الإسلامى الذى خاض غمار العديد من المعارك ..ظهر فى عصر زادت الحملة المسعورة على الإسلام وعلى اللغة العربية والحضارة الإسلامية والفكر الإسلامى وسط دعم من الدولة التى انحازت صراحة إلى هؤلاء وقربتهم وأغدقت عليهم الأموال فى صور جوائز ومنح ومناصب ورحلات..لقد عاش أديبنا فى عصر كان هناك اتجاهان على الحياة الفكرية والأدبية: اتجاه اصيل واتجاه معجب بالغرب حلوه ومره ما يحمد منه أو يعاب وكان الاتجاه الأخير كان من أعلامه بعض قادة الفكر والأدب وأبرز أولئك الدكتور طه حسين، وفي ظل تلك الظروف انخرط محمد حسين في هذا الاتجاه عَلِمَ أو لم يَعْلَم ويكتب متأثرًا به، وظهر ذلك جليًّا في رسالته (للدكتوراه) التي كانت بعنوان: (الهجاء والهجَّاؤون (ولكن الله تعالى بمنه وكرمه فتح بصيرة الرجل وأنار فكره وقلبه فتبيَّن له زيف ذلك الاتجاه وانحرافه واعوجاجه، فتركه ونحا منحى آخر، وسلك طريقًا معاكسًا له، سلك مسلك الطبيب الناصح والمجاهد المخلص الذي يدعو للفضيلة بفعله قبل قوله، ويوضح معالم الخير النقي الصحيح، ويفضح خطط الباطل ودعاة الشر، ويرد على مكائدهم وأباطيلهم. ويقول رحمه الله في سياق حديثه في مقدمة كتابه: (حصوننا مهددة من داخلها(: "كتبت هذه الصفحات حين كتبتها لكي أفضح هذا النفر من المفسدين، وأنبِّه إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم التي خُدِعْتُ بها أنا نفسي حينًا من الزمان مع المخدوعين، أسأل الله أن يغفر لي فيه ما سبق به اللسان والقلم. وإن مَدَّ الله في عمري رجوت أن أصلح بعض ما أفسدت مما أصبح الآن في أيدي القراء. وأكثره في بحث حصلت به على درجة (دكتور في الآداب) من جامعة القاهرة، ثم نشرته تحت اسم (الهجاء والهجَّاؤون( وقد كان مُصابي هذا في نفسي وفي تفكيري مما جعلني أقوى الناس إحساسًا بالكارثة التي يتردَّى فيها ضحايا هؤلاء المفسدين، وأشدهم رغبة في إنقاذهم منها بالكشف عما خفي من أساليب الهدَّامين وشِرَاكهم". ولد الدكتور محمد محمد حسين فى سوهاج عام 1912، وتلقى تعليمه الابتدائى والثانوى فيها باستثناء السنة الأولى التى قضاها فى مدرسة اسيوط الثانوية لأنها كانت المدرسة الوحيدة فى صعير مصر آنذاك ، بعد ذلك التحق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول "القاهرة" وحصل على الليسانس سنة 1937م ودرس له نخبة من الأساتذة منهم طه حسين وزامل العديد من الطلبة الذين صاروا أعلاماً بعد ذلك على رأسهم الدكتور شوقى ضيف رئيس مجمع اللغة العربية الأسبق، وعين معيداً فى سنة تخرجه وكانت هذه السابقة الأولى التى يعين فيها معيدا سنة تخرجه ويكلف بإعطاء الدروس، وعقب حصوله على الماجستير والدكتوراه عين مدرسا للأدب العربى فى كلية الآداب بالإسكندرية وكانت تتبع جامعة فؤاد ثم نقل إليها بعد استقلالها عام 1942 وظل يتدرج فى وظائف إلى أن عين أستاذ كرسى الأدب العربى سنة 1954، وأعير اثناء عمله بالجامعة الليبية وجامعة بيروت العربية، ثم تعاقد مع جامعة بيروت العربية عند بلوغه سن التقاعد سنة 1972، وظل بها إلى أن تعاقد مع جامعة الإمام محمد بن سعود 1976.
أثرى الدكتور محمد محمد حسين المكتبة العربية بالعشرات منن الكتب والأبحاث التى خدمت الفكر الإسلامى، واللغة العربية، والأدب العربى، والحضارة الإسلامية، وقد لاقت هذه المصنفات الرواج فى مصر وخارجها وعكف عليها المختصون بالدرس والتحليل كما استفاد منها العامة الذين كانوا متعطشين إلى الحقيقة التى سار خلفها الدكتور حسين فى كل مكان، ومن كتبه المطبوعة: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" (في جزأين) أهم كتبه على الإطلاق وقد استقصى فيه التيارات الأدبية والسياسية والفكرية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان ينوى إخراج جزء ثالث له وحال دون ذلك رحيله، و"الإسلام والحضارة الغربية"،و"أزمة العصر"، وأصله ثلاثون حديثًا كتبت لتبث من إذاعة الرياض عام 1397ه، و"حصوننا مهددة من داخلها"، وأصله مجوعة مقالات شهرية نشرت في مجلة الأزهر المصرية في عامي 1377ه، 1378ه، و"الهجاء والهجَّاؤون في صدر الإسلام"، وهذا الكتاب جزء من بحثه في (الدكتوراه)، و"أساليب الصناعة في شعر الخمر والأسفار"، وهذا الكتاب (كما يذكر المؤلف في مقدمته) فصلان من بحث مرحلة (الماجستير)، و"شرح وتعليق على ديوان الأعشى الكبير (ميمون بن قيس)"، و"المتنبي والقرامطة" وهذا الكتاب (كما يذكر المؤلف في مقدمته) في الأصل محاضرة ألقاها في كلية الآداب بالجامعة الليبية ببنغازي عام 1383ه، و"الهجاء والهجَّاؤون في الجاهلية"، و"مقالات في الأدب واللغة"، وهذا الكتاب يحوي ستة بحوث هي: تطوير قواعد اللغة العربية، وبين سينية البحترية وسينية شوقي، وفقه اللغة بين الأصالة والتغريب، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين التأييد والمعارضة، وأثر الأدب الغربي في الأدب العربي المعاصر، واقتراحات للنهوض بمستوى اللغة العربية. وكتاب " الروحية الحديثة دعوة هدامة"، وهذا الكتاب في الأصل محاضرة ألقيت في جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية عام 1379ه، وكانت بعنوان: الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها. كما أن للدكتور محمد محمد حسين مؤلفات أخرى وكتبًا بعضها لا يزال مخطوطًا، وبعضها طبع مرة واحدة فقط ثم نفد ولم يعد يوجد، ومنها: - رواية الدموع. - الأعشى صناجة العرب، بحثه في (الماجستير)، وهو لا يزال مخطوطًا فيما نعلم. - فتح مكة. - اتجاهات هدامة في الفكر العربي المعاصر، وهو في الأصل محاضرة ألقيت في جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية. بدأ ملتزماً بالمنهج الديكارتي العلمي الذي نادى بتطبيقه أستاذه الدكتور طه حسين في الدراسات الأدبيّة، وما يقتضيه هذا المنهج من حريّة في البحث، وموضوعيّة في التفكير، ثم ندم على ما فرّط، وأصلح ما أفسد، وتخلّى عن مراحل التأمّل الفلسفي، ومسألة تحضير الأرواح التي استهوته فترة من الوقت، وكتب في بطلانها: (الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها)، وأعاد بناء ثقافته الإسلاميّة على أساس الموروث السلفي، وشغل بقضيّة الوحدة العربيّة، والتماس سبلها، والإلحاح في ضرورة التمسّك بشخصيّتنا العربيّة في ملامحها الإسلاميّة، ورأى من الواجب نقل حضارة الغرب الماديّة، والتخلي عن فكر الغرب وثقافته. وهاجم الدعوات الهدّامة كالعالميّة، والاشتراكيّة، والصهيونيّة، والدعوة إلى العاميّة، وتحضير الأرواح، وطبع دراسة الأدب العربي بالمفاهيم الإسلاميّة، وواجه الغزوالثقافي والتغريب، وحارب الاتّجاهات الهدّامة في كتابه (حصوننا مهددة من الداخل في أوكار الهدّامين) الذي كشف فيه أساليب الدسّ والتزييف والهدم والتخريب التي يمارسها دعاة الإلحاد والانحلال، والموجّهة إلى اللغة كالعاميّة، والأحرف اللاتينيّة، والأدب الهدّام الذي يتستر تحت اسم المذاهب الفنيّة والدراسات العلميّة، ودعا إلى اليقظة قبل التسليم بكل القيم المعاصرة، وكان يعتبر الدين عاصماً في الظلام من التردّي في الهاوية، واعتبر الدعوة إلى تطوير قواعد اللغة العربيّة محاولة خبيثة للتحلل من القوانين التي صانت اللغة العربيّة، هدفها: حل الروابط التي تقوم عليها المجتمعات البشريّة، وكان يدخل إلى أعماق المذهب الهدّام فيقوضه من خلال الفكر الذي يحمله، ويجعل هدمه بيده وبطريقته ؛ ويرى أن الهجوم على الهدّامين هوأفضل وسائل الدفاع. ودعا إلى إعادة تقييم الرجال، الذين قدّموا في المجتمع على أنهم معصومون من الخطأ، واعتبر كثيراً من مشاهير الأعلام أصناماً معبودة، أمثال: جمال الدين الأفغاني، وأمين الخولي، وإبراهيم مصطفى، وعلي عبد الرازق وغيرهم، وفى هذا يقول: "ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال، لا نريد أن ننقص من قدر أحد، ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، حتى إن المخدوع بهم، والمتعصب لهم، والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إمامًا من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهيجون فيه، ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما لا يقبلون أن وصف به زعماؤهم المعصومون". ونبّه إلى خطر الدعوة إلى تطوير الإسلام لكي يوافق الحياة العصريّة، ورأى أن الغرب يريد محاربة المسلمين باحتواء الشريعة الإسلاميّة تحت اسم التطوير، بحيث تصبح أداة لتبرير القيم الغربيّة، وتقريب ما بين المجتمع الإسلامي والغرب، وإلحاق التعليم بالمناهج الأجنبيّة، بدعوى رفع مستوى التعليم، وإصلاح شؤون الجيل، وبعث التاريخ القديم بهدف تلوين الحياة المحليّة في كل بلد من بلاد دار الإسلام بلون خاص يستند في مقوماته إلى أصوله الجاهليّة الأولى، وتدمير المجتمع الإسلامي بفرنجة المرأة المسلمة، وحملها على أساليب الغرب في شتّى شؤونها، وكان يعمل على كشف سموم بعض الكتب المترجمة واستخراج خبيثاتها، ورفض الأدب الشعبي لما ينطوي عليه من فساد يجر إلى إفساد الذوق العام، وكان يتطلّع إلى الكمال الفني، متمثّلاً في الروائع من النصوص، وكان له موقف واضح تجاه المذاهب الأدبيّة الوافدة، وخاصّة إذا اتسمت بالطابع الثوري وفى هذا يقول: "الاجتهاد في الشريعة حق لكل عالم قادر عليه، ومن القدرة عليه أن يُلم بكل ما قيل في المسألة التي يبحثها؛ لأنه لا يدري إن فاته بعضها أن يكون هذا الذي فاته سببًا في عدوله عن رأيه لو اطلع عليه؛ لأن فيه من الحقائق ما غاب عنه، ولم يدخل في تقديره، ونشأت الاجتهاد الديني في ذلك هو شأن الاجتهاد في كل فرع من فروع المعارف والفنون، فليس يباح للطبيب أن يجتهد حتى يبلغ من الإلمام بالطب حدًا يعترف له عنده أصحاب هذا العلم بالقدرة على الاجتهاد فيه، فالاجتهاد إذن لم يغلق بابه، ولكن المسلمين أحسوا في العصور المتأخرة من أنفسهم عدم القدرة عليه، وأحسوا أن أصول المسائل وفروعها في مختلف احتمالاتها قد فصلت تفصيلا". نشر كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) 1373/1954 في جزئين، ومات قبل أن يكمل الجزء الثالث منه، بسط الكلام فيه عن المناخ الاجتماعي، والسياسي، والفكري، الذي ظهر بين القديم والجديد، وتحدّث فيه عن قضايا أخلاقيّة واجتماعيّة تمس في نظره الأخلاق الشرقيّة، والآداب الإسلاميّة وله: (اتجاهات هدّامة في الفكر العربي المعاصر)، و(أزمة العصر) 1399/1979 و(الإسلام والحضارة الغربيّة) و(الهجاء والهجّاؤون) و(حقق ديوان الأعشى الكبير) وكتب مقالات كثيرة في المجلات الأدبيّة والإسلاميّة، وخاصّة في (مجلة الأزهر) عن الثقافة العربيّة والاستعمار، ونشرت مجموعة من البحوث كان قد كتبها قبل وفاته في (مقالات في الأدب واللغة) وفيها بحث قيّم بعنوان: (أثر الأدب الغربي في أدبنا العربي المعاصر)، كتب في سيرته إبراهيم عوضين (الدكتور محمد محمد حسين بحوث ومواقف) بالاشتراك. وبعد رحلة طويلة من العلم والجهاد فى محرابه رحل الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين سنة 1982عن عمر ناهز السبعين عاماً.. وقد لقيت كتب ورسائل هذا الأديب من طلابه وغيرهم عناية واهتمامًا، ومن أفضل من اعتنى بها كتاب نفيس بعنوان (موقف الدكتور محمد محمد حسين من الحركات الهدامة) ألفه الدكتور إبراهيم محمد عوضين، وفيه تناول المؤلف بالدراسة بعضًا من كتب محمد حسين وأبرز من خلال تلك الدراسة شجاعتة وجرأته وغيرته على الدين والعقيدة والمثل الإسلامية، وقد نشرت الكتاب مؤسسة الرسالة في بيروت، الطبعة الأولى 1406ه - 1985م. وبعد وفاة هذا الأديب - رحمه الله - أُعِدَّتْ رسالتا (ماجستير) عن حياته وأدبه؛ فقد أعد الباحث: عليان بن دخيل الله الحازمي رسالة (ماجستير) في كلية اللغة العربية بالرياض في جامعة الإمام عام 1407ه بعنوان: (محمد محمد حسين حياته وآثاره الفكرية والأدبية)، وبلغت صفحاتها حوالي ثمانمائة صفحة، وفي عام 1414ه أعد الباحث محمد عبد الحميد محمد خليفة رسالة (ماجستير) في قسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية بعنوان: (دراسة النص الأدبي عند محمد محمد حسين)، وبلغت صفحاتها حوالي 330 صفحة. ولكنَّ الرسالتين المذكورتين لم تنشرا - فيما نعلم.