التيار السلفي في مصر هو الأكثر حضورا على المستوى الشعبي ، وتلك حقيقة يمكن إدراكها بسهولة لمن يعايش المجتمع وحناياه والشارع ومعالمه ، كما أن قدرته على الحشد تجلت بوضوح أكثر في الاستفتاء الدستوري الشهير ، ولذلك كانت أجهزة أمن مبارك حريصة على تهميش هذا التيار ووضعه تحت الحصار والضغط والمتابعة ثم الملاحقة والتي وصلت إلى حد فرض حظر على التنقل داخل مدن مصر لبعض رموزه واعتقال آخرين ، ولم تبدأ الحلقة تنكسر إلا بعد ظهور الفضائيات التي أربكت حسابات الجهاز الأمني ما بين المنع أو التضييق أو السماح بحدود ، وأذكر أني استضفت شخصية سلفية وافرة الاحترام والقبول والاعتدال أيضا في برنامج تليفزيوني كنت أقدمه قبل سنوات ، وفي الأسبوع التالي لظهوره معي اتصل به الجهاز الأمني وحذره من الظهور مجددا في برامج تليفزيونية . هذا التهميش ، وانسداد أفق أي نشاط سياسي حقيقي ، وعزلة الشعب نفسه عن السياسة فرض نفسه على خبرات التيار السلفي ، فانزوى بعيدا عن السياسة ، ورأي أن الأجدى هو الانشغال بالعمل التربوي والدعوي ، ونظرا لتتالي المواجهات العنيفة والدماء والاضطرابات التي ولدها صدام بعض الحركات الإسلامية مع أجهزة الدولة الأمنية نزع غالبية السلفيين إلى تجنب الصدام بكل أشكاله مع النظام ، ولا شك أن بعضهم كان له أيضا موقف متردد من الثورة المصرية الجديدة لنفس الأسباب السابقة والخبرات السيئة ، لكنهم اندفعوا بعد ذلك بكل قوتهم في دعم الثورة وحمايتها بعد أن أقنعهم الحراك الشعبي الكبير بجدية الثورة وتململت قواعد سلفية كثيرة وتمردت على شيوخها وشاركوا في الثورة ، فتواصل السلفيون مع الثورة وأصبحوا جزءا منها . لكن تبقى المشكلة الأهم والأصعب في الحالة السلفية هي نقص الخبرة السياسية ، وضعف القدرة على التعامل مع مفردات العمل السياسي وما يتصل به من الإعلام المسيس بشكل احترافي ورصين ، وهذا الجانب يدركه كثيرون من المشتغلين بالعمل العام ، والعمل السياسي ، ويدركه أيضا كثيرون ممن يعملون في مجال الإعلام ، وبدلا من الأخذ بيد هذا التيار الوافد حديثا إلى شارع السياسة والتواصل معه بأمانة وشفافية لجعله داعما للإصلاح ورافدا للثورة وأهدافها وتطور المجتمع ، راح الكثيرون يحاولون التصيد له والإيقاع به في مطبات سياسية أو إعلامية غير مسؤولة وغير لائقة ، حيث انتصرت الحسابات الشخصية أو الحزبية الضيقة على حسابات المصلحة العامة ، بل إن حملة إعلامية ضخمة تورط فيها الإعلام الرسمي مع الإعلام الخاص الجديد قبل عدة أشهر لمحاولة تشويه صورة التيار السلفي وشيطنته ، ولكنها فشلت في النهاية لعمق تواصل ذلك التيار مع الشارع . بيد أن الأمانة والمسؤولية تقتضي مني نصيحة أتوجه بها إلى أبناء التيار السلفي ورموزه ، وهي التحوط كثيرا في التعامل مع الإعلام الجديد ، حتى لو كانت القضية المطروحة للحوار بعيدة "شكلا" عن السياسة ، حتى ولو كانت قضية فقهية أو شرعية ، لأن كل قضية الآن يمكن تسييسها أو وضعها في إطار سياسي معين ، يحاول بها البعض الإساءة إلى التيار السلفي ، والبراءة الشديدة تدفع رموز السلفيين إلى المبادرة بالإجابة العفوية على أي سؤال أو استفزاز فكري بشكل مباشر وصارم ، رغم أنهم غير ملزمين بذلك ، ولا يوجد من يضطر للإجابة على أي سؤال ، وأنا لا أعرف الضرورة السياسية والثورية التي تجعل مقدم برامج وصحفي يوجه سؤالا لرمز سلفي : هل أهل الكتاب كفار أم لا ؟ ، هذه محاولة غير أخلاقية لصرف قضية الوطن إلى الفتنة ، وتفخيخ الحياة السياسية ، وكنت أتمنى أن يخرج الداعية من هذه اللعبة الرخيصة بسؤال صاحبها عن قيمة هذه القضية في أولويات الوطن الآن بدلا من الاستغراق في تفصيلات شرعية لا مبرر ولا ضرورة للاستغراق فيها عبر قناة فضائية ، والآن . أيضا لا داعي للخوض في قضايا مثل التماثيل أو ما شابه ذلك ، لأن هذا محاولة للاستنزاف الفكري لا أكثر ، فلا القضية مطروحة الآن للعمل ، ولا هي بأي شكل من الأشكال في أولويات مصر الثورة ، ولكن طرحها يأتي في سياق محاولات تفتيت القوى الوطنية وضرب بعضها ببعض واصطناع معارك بعيدة عن معركة الشعب من أجل الحرية والعدالة والكرامة ، .. الخطاب السلفي في حاجة إلى المزيد من الوعي السياسي والإعلامي هذا صحيح ، ولكن الذين يتصيدون له في حاجة إلى دروس في أخلاقيات العمل الوطني بكل تأكيد . [email protected]