كى تعود أفريقيا إلينا.. يجب أن نعود إليها، وفى أديس أبابا مجال واسع لعودة الوصل واستعادة الصلات».. بهذه الكلمات تحدث محمد إدريس، سفير مصر الجديد إلى إثيوبيا، البلد الذى يمد مصر بنحو85 بالمائة من حصتها من مياه النيل، والذى توترت معه العلاقات إلى حد مقلق مع نهاية حكم الرئيس السابق حسنى مبارك ثم عادت لتنفرج قليلا عشية ثورة 25 يناير ثم لتنفتح نحو التحسن بعدها. إدريس الذى تم اعتماده سفيرا، وصف رئيس الوزراء عصام شرف، لدى افتتاحه ندوة مجلس الأعمال المصرى الإثيوبى بالقاهرة مؤخرا، ترشيحه بأنه أحد مظاهر التعبير عن الأهمية التى يُنظر إليها فى دوائر صنع القرار المصرى لأديس أبابا على أنها تضاهى أكبر معاقل الدبلوماسية فى العالم، خاصة أن السفير إدريس قد سبق له العمل فى عدد كبير من سفارات مصر فى عواصم مهمة من أبرزها واشنطن وأنقرة ودمشق، فضلا عن مهمته السابقة مندوبا مناوبا لمصر فى الأممالمتحدة بنيويورك.. يعتزم التوجه لأديس أبابا خلال أسابيع قليلة ليبدأ مهمة دبلوماسية يصفها بأنها «شرف لى ومسئولية كبرى لتمثيل شعب عريق لدى شعب عريق آخر». مهمة إدريس فى أديس أبابا هى أيضا صعبة، حيث تأتى فى توقيت تبدو فيه إثيوبيا عازمة على المضى قدما فى تنفيذ عدد من المشروعات المائية يُخشى فى العديد من الدوائر المعنية فى القاهرة أن تكون مؤدية فى النهاية للنيل من حصة مصر السنوية من المياه، وذلك رغم وعد قطعه رئيس الوزراء الإثيوبى، ميليس زيناوى، لوفد الدبلوماسية الشعبية الذى زار العاصمة الإثيوبية قبل أسابيع بتأجيل التصديق على مشروع الاتفاقية الإطارية لمياه النيل حتى تستقر الأوضاع فى مصر ويتم انتخاب حكومة ورئيس جديد، وتأكيده أن المشروعات الإثيوبية المزمعة لن تؤثر سلبيا على مصر. إدريس يبدأ مهمته فى العاصمة الإثيوبية أيضا فى وقت تُحكم فيه مصر بصورة مؤقتة من خلال حكومة انتقالية بالتعاون مع المجلس العسكرى الأعلى القائم على تسيير شئون البلاد منذ تنحى مبارك 11 فبراير الماضى. «لكن المرحلة الانتقالية لا تعنى أن كل الأمور مؤجلة، فهناك الكثير من الجهد الذى يبذل خلال هذه المرحلة الانتقالية على أصعدة مختلفة، وبالتأكيد فإن تطوير العلاقات بين مصر وإثيوبيا أولوية لا تنتظر انتهاء المرحلة الانتقالية»، حسبما يقول إدريس للشروق. مضيفا أن «رسالة شعب مصر التى يحملها لشعب إثيوبيا بأن هناك مساحات لا نهائية وفرصا واسعة للتعاون هى رسالة لا تنتظر انتهاء المرحلة الانتقالية، وما يمكن اتخاذه من خطوات فى هذا الصدد للوصول إلى أفضل العلاقات مع إثيوبيا تمثل إرادة شعبية لا تحتمل التأجيل وستتأكد وتتعزز بالضرورة لدى وصول حكومة منتخبة». إدريس يقول ل«الشروق» إن الحديث عن ملف مياه النيل سيكون مطروحا بالضرورة خلال محادثاته فى أديس أبابا بوصف أن ذلك أحد الملفات الحيوية «والتى يجب أن تكون مساحة أكيدة للتعاون وليس للخلاف» بين العاصمتين المصرية والإثيوبية، لكنه يصر فى الوقت نفسه أن ملف مياه النيل ليس الأوحد، على أهميته، خاصة فى ضوء القلق الذى ساد مصر بعد توقيع عدد من دول منابع النيل بما فيها إثيوبيا على اتفاقية إطارية جديدة لمياه النيل. «ملف المياه مهم ولكنه ليس الملف الأوحد فى العلاقات المصرية الإثيوبية»، يقول إدريس، ثم يضيف أن وجهات النظر المختلفة للتعامل مع هذا الملف المتعدد الأبعاد فنيا وقانونيا وسياسيا» تحتاج لرؤية واسعة متكاملة وتعاون وثقة من قبل مصر وإثيوبيا». ويؤكد إدريس أن الموقف المصرى الوطنى سواء الرسمى أو الشعبى هو أن «ملف المياه يجب أن يكون بمثابة تيار متجدد تطفو فوقه وتزدهر العلاقات، ولا يتحول إلى دائرة مغلقة تغرق فى ركودها علاقات مصر وإثيوبيا». وبحسب سفير مصر الجديد إلى أديس أبابا، فإن المهمة القادمة والتى ستتضافر فيها جهود سفارة مصر لدى إثيوبيا مع العديد من الجهات الرسمية والأهلية هى تطوير وتنمية مجمل العلاقات الثنائية بما يسمح، «وبصورة طبيعية ومنطقية» بالتوصل إلى «رؤى وأفكار مشتركة للتعامل مع مختلف جوانب العلاقات بما فى ذلك ملف المياه على قاعدة المصالح المشتركة وهى عديدة وأكيدة». وبحسب إدريس، فإن نهر النيل هو «شريان حيوى يربط بين بلدان متشاطئة عليه وقيمة الشريان هى فى بقائه وصلا بين الأعضاء ليغذيها معا، فتعمل كلها بكفاءة دون خلل، أما انقطاع الشريان عند أحد طرفيه فيصيب بالضرر كليهما معا». ويشير سفير مصر الجديد إلى إثيوبيا إلى أن مبادرة حوض النيل التى انطلقت فى أواخر التسعينيات «هدفت أساسا لتحقيق المصلحة المشتركة لكل دول حوض النيل فى إطار من التعاون، وبالتالى فإن التعاون والمصلحة المشتركة هما أمور أساسية يجب التفاهم والاتفاق حولهما». ولا ينكر إدريس أن الحساسيات حول هذا الملف قائمة ليس فقط بين القاهرةوأديس أبابا ولكن بين عدد من عواصم دول حوض النيل إجمالا، ويصر أن الأمر «يتطلب العمل الجاد على إعادة بناء مساحة كافية من الثقة». وفيما يتعلق بسد النهضة الذى أثارت رغبة إثيوبيا فى بنائه جدلا واسعا يوضح إدريس أن هناك مشاورات مزمعة بين مصر وإثيوبيا والسودان فى هذا الشأن بهدف دراسة أبعاد وفنيات بنائه وأثره على مصلحة شعوب الدول الثلاث، بهدف بلورة توافق لم يتم بعد «مع الأخذ فى الاعتبار أن مصر لا يمكن أن تكون ضد أى خطوة فى مصلحة الشعب الإثيوبى، وأننا أيضا على ثقة أن الشعب الإثيوبى سيبادلنا بالمثل». ويشير إدريس إلى أن زيارة رئيس الوزراء عصام شرف مؤخرا إلى إثيوبيا تمخضت عن تفاهم مشترك على أن التعامل مع ملف المياه سينطلق على أساس المصالح المشتركة والمكاسب للجميع، فضلا عن إطلاق مسار تعزيز التعاون فى العلاقات بمختلف جوانبها. وردا على استفسار الشروق يشدد إدريس على أن التصريحات التى أدلى بها رئيس وزراء إثيوبيا ميليس زيناوى» وهو سياسى محنك يتمتع بالذكاء الذى يجمع التاريخ والخبرة السياسية والرؤية المستقبلية لمكانة إثيوبيا على الخريطة الأفريقية والدولية»، والتى أشار فيها إلى أن مشاريع إثيوبيا المائية لا تضر بمصر ولو ثبت العكس فى رأيها فستعيد النظر فيه، يجب أن يُنظر إليها من زاويتين: الأولى أن تصريحات القادة السياسيين لا تطلق على عواهنها وتُعد بمثابة التزام مُعلن محسوب على مصداقيتهم فلها التقدير اللائق، والثانية أنها تُعبر عن رؤية زعيم حكيم يدرك أن مصالح شعبه هى بالفعل فى علاقات طيبة مع مصر وعدم الإضرار بشعبها. ويقول إدريس إن مهمته حساسة ومعقدة ولكنها ليست متعذرة أو مستحيلة لأن العلاقات بين مصر وإثيوبيا ومصالحهما المشتركة لا تبدأ اليوم. وإنه متفائل بمستقبل العلاقات وبالرغم مما وقع أو قد يقع من خلافات فى وجهات النظر، فإن العلاقات عبر مراحل عديدة شهدت قدرة على التعاون الإيجابى يمكن تطويرها ودعمها بما يخدم مصالح الشعبين، لأن مصر لا تسعى أبدا لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الشعب الإثيوبى أو أى من شعوب القارة الأفريقية التى نفخر بجذورنا المنتمية إليها وتحرص مصر على وصل ما انقطع معها.. ويقر إدريس بواقعية أن السنوات الماضية لم تشهد الجهد الكافى فى التواصل مع أفريقيا ويصر على أن مصر ما بعد 25 يناير تضع بوضوح أولوياتها فى المكان الصحيح بالتأكيد على التواصل الكثيف مع أفريقيا. لقد جمعنا يوما مع باقى بلدان القارة الكفاح من أجل التحرر من الاستعمار والآن أمامنا معا معركة التحرر من الفقر والكفاح من أجل التنمية، حسبما يشدد السفير المصرى الجديد لدى أديس أبابا. التجارة والزراعة والطاقة الكهربائية وتقنيات الاتصالات والمعلوماتية والثقافة والتدريب الفنى كلها مجالات يرى إدريس إمكانية واقعية لتطوير التعاون المصرى الإثيوبى فى إطارها. الثقافة بوجه خاص أرضية خصبة للتواصل والتعاون بين شعبين لكل منهما تاريخ وحضارة عريقة. يقول إدريس. ويضيف أن هناك أيضا المساحة الضرورية فيما يتعلق بالتعاون بين القاهرةوأديس أبابا فى مجالات تعزيز السلم وتسوية النزاعات فى القارة الأفريقية، خاصة فيما يتعلق بمنطقة شرق أفريقيا مثل الوضع فى الصومال والسودان الذى تحول إلى سودانين فى التاسع من شهر يوليو. ويعتبر إدريس أن اللجنة المشتركة بين مصر وإثيوبيا والتى تم الاتفاق على إنشائها فى عام 1987، والتى لم تجتمع سوى ثلاث مرات كان آخرها فى 2010 بعد تأزم مسألة اتفاقية حوض النيل الإطارية، سيكون تفعيلها أساسيا فى العمل على النظر فى مشروعات مشتركة لتطوير مجمل العلاقات الثنائية، ويشير إلى أنه يجرى الإعداد لعقد دورة جديدة قريبا لهذه اللجنة، إضافة إلى مجلس الأعمال المصرى الإثيوبى الذى نشط فى الفترة الأخيرة ليحقق قفزة فى الاستثمارات المصرية فى إثيوبيا. ويضيف إدريس أن شقا رئيسيا من مهمته لتطوير العلاقات بين مصر وإثيوبيا سيكون قائما على تجاوز فكرة ارتهان هذه العلاقة الثنائية بعلاقة أى من البلدين ببلد ثالث، ومن هذا المنطلق يقول إن علاقة القاهرة بأسمرة أو علاقة أديس أبابا بتل أبيب لا ينبغى أن تكون عائقا لتطور العلاقات بين القاهرةوأديس أبابا. ويكرر سفير مصر الجديد إلى إثيوبيا فى لقائه مع الشروق أن أولوية أى سفير لمصر فى الخارج يجب أن تكون «المواطن المصرى مقيما أو زائرا أو عابرا». ويؤكد أن الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية الرسمية يجب أن تكونا وجهين لعملة واحدة هى إرادة الشعب، والتكامل بين جهودهما ضرورة ومصلحة وطنية، «أشكر وفد الدبلوماسية الشعبية على جهده فى تحسين الأجواء التى سأبدأ فيها مهمتى» يقول إدريس.