لم أسترح يوماً ل( أبي مازن ) ومدرسته في إدارة الصراع مع ( تل أبيب ) ، بشرها الموتور وحقدها التدميري الذي سحق معالم النماء والحياة في الضفة والقطاع بغل أسود لا نظير له ، وتسميهما أدبيات الإعلام الصهيوني ب ( المناطق ) ، وهو مسمي بالغ المكر والتبلد ، وكأن معالم الأمكنة ومسمياتها أوهام غير محددة ! وبدا لي أن مدرسة أبي مازن تحكم شريحة كبيرة من ( الفتحاويين ) الذين لا يستريحون ، في العموم ، لأدبيات المقاومة الميدانية المسلحة ، مهما تكن ضربات الغل السادي التي يلحقها جيش الكيان بالزروع والمدائن والبشر وكل ما يمت للحياة بصلة ! وكأن الانقياد ( المازوخي ) للمقصلة الجائرة هو عين الحكمة كما تطنطن ماكينة الإعلام الرسمي العربي ! وقد ترسخ داخلي هذا الانطباع وتأ كد غير مرة ، فقبل أعوام كنت ألقي كلمة مصر في معرض تأبين الكاتب الفلسطيني الراحل ( إبراهيم عباس ) صاحب موسوعة ( بيت المقدس ) ، وتقع في عدة مجلدات ، وجلس في الصفوف الأمامية قبالتي الدكتور (بركات الفرا )و حشد من الرموز الفتحاوية الشهيرة ، فضلا عن أسرة الراحل ، وجهر لي بعض قيادات ( فتح ) بالقاهرة برغبتهم في عقد مؤتمر ضخم حول الرواية الفلسطينية. وحين تكلمت عن ( رواية المقاومة ) ، لاحت في عيونهم مظاهر التشكك والارتياب ، ولم أفهم لماذا أزعجتهم كلمة ( المقاومة ) إلي هذا الحد ! ! وكيف يمكن تخفيف قبضة احتلال استيطاني دموي عن الأرض ، فضلا عن إزاحته ، بغير مقاومة ولو في أضعف تجلياتها ! ودار الفلك دورة كاملة ، وأدارت معي قبل أيام فضائية ( الفلسطينية ) حواراً حول ( الملحمة الغزاوية ) - كما أسميتها- فأشدت بالكفاءة العسكرية والاستخباراتية والتقنية الجديدة التي أبدتها فصائل المقاومة ، هذه المرة ، وأذهلت بها الدوائر العسكرية ، خصوماً وأصدقاء. وهو ما تبدي ، بصورة نوعية مذهلة ، في عمليتي ( زكيم ) و( ناحال عوز ) ، بصفة خاصة ، وكم كان صراخ الجنود الصهاينة العشرة وأنينهم ، قبل أن يحصدهم رصاص المقاومة في عملية ( ناحال عوز ) تحديداً ، سمة حاسمة في مجري المواجهة من الناحية النفسية ! وحين أنهيت حواري مع المذيع لاحظت في طريقته الأدائية بعض الاستياء ( الفتحاوي ) النمطي حين تطفر إلي الحوار كلمة ( المقاومة ) ! وقلت في نفسي : لله دركم يا ليوث غزة ، يحاصركم الجميع حتي من بعض بني جلدتكم ! لاح للعيون ، كشمس الهجير ، درجة الاحترافية النوعية لضربات المقاومة الفلسطينية ، هذه المرة ، باعتراف الخبراء والمحللين - عالمياً - فيما عدا الإعلام المصري الذي أصر علي استبلاه المشاهد واستغباء الرأي العام للتغطية علي كارثة المعابر والخسارة التاريخية لدور الوسيط ، مستثمراً، بانتهازية سياسية رخيصة ، ما أحدثته فترة ( مبارك ) من تجريف وتسطيح للوعي يغري بطمس المسلمات وتلوين الحقائق ، بطريقة إكروباتية مقززة ، كانت محل تندر دولي نصب من الإعلام المصري أضحوكة موجعة ! أعرف أن الضريبة الدامية التي قدمتها غزة لم تكن هينة الشأن ولا محدودة الكلفة فقد بذلت ألفاً وخمسمائة من الشهداء وما يشارف عشرة آلاف مصاب لحظة كتابة هذه السطور ، لكن فلاسفة التاريخ ، من ( جيبون ) حتي ( توينبي) ، علمونا أن للمعارك الكبري أثماناً وكلفة ثقيلة لا بد من احتمالها لتغيير المواقع والخرائط ! وأعرف أنه سيكون مؤلماً للحزب ( المتصهين ) المصري والعربي الجديد أن يدرك بوضوح أن غزة نفضت التراب عن ثيابها وقامت واقفة وهي تباشر الآن ، بصورة جذرية ، تغيير المواقع والخرائط ، فقد برزت الإمكانات الصاروخية والعسكرية الجديدة للمقاومة ، وتركت أخاديد موجعة في وجه ( عسقلان ) و( النقب) و( حيفا ) و ( سيدروت ) ، وحين باشر الطيران الإسرائيلي الملتاث تسوية بعض أحياء غزة بالأرض ، تواصلت العمليات النوعية بصواريخ ( كورنيت) المضادة للدروع، واضطر رمز الكذب ( أفيخاي أدرعي )أن يعترف بالخسائر المتنامية في الجنود وضباط الصف راغماً. لقد أمكن بأنفاس المقاومة الجديدة مرمطة سمعة الجيش الصهيوني ( الطروادي ) الذي هزم سبعة جيوش عربية فيما استقرت كتائب ( محمد الضيف ) في منتصف حنجرته ليسعل أمام العالم بذلة وافتضاح ! أما الأنظمة العربية التي أدمنت صفقات ( البورنو ) فأقول لهم - دون ديباجة - : ليس بعد قرارة القاع مساحة عمق باقية لمزيد من السقوط !!