منذ سيطر حزب البعث على السلطة في سوريا بانقلاب عسكري عام 1963 ثم تكرر الانقلاب من داخل الانقلابيين عام 1970والنظام كغيره من النظم الجمهورية العربية يتبع سياسة القبضة الحديدية في الحكم. ومن المفارقات أن شعار الحزب " حرية، اشتراكية، وحدة " لا علاقة له بالواقع، فلا وحدة تحققت بل هو الحزب الذي أطاح بالوحدة المصرية السورية، والاشتراكية مجرد كلمة بلا معنى أو روح فالفقر يضرب الناس بعنف، أما الحرية فان نهر الدماء الذي يسيل في ميادين وشوارع سوريا للمطالبين بالحرية هو ابلغ رد على نوع الحرية التي يعتمدها الحزب، هى حرية النظام في أن يفعل ما يشاء بشعبه، وحرية الشعب في أن يقول "نعم" فقط لما يريده النظام والحزب القائد. كان هذا هو أيضا مسلك "البعث" في العراق، فتجربته في الحكم منذ وصل للسلطة عبر انقلاب عسكري أيضا عام 1968 وحتى سقوطه بسقوط بغداد 2003 كانت شديدة المرارة والدموية. البعث السوري يترنح الآن، والعنف المفرط في مواجهة التظاهرات السلمية تؤكد أزمة النظام وحزبه الذي فشل بعد أكثر من 47 عاما من احتكار السلطة في إقناع المواطنين بأن سياساته قادرة على توفير حياة كريمة لهم. لم يصل البعث للسلطة في سوريا والعراق عبر انتخابات حرة إنما بانقلابات يبدأ بعدها القمع لإخضاع الشعب، فمثل هذه الأنظمة العسكرية لاتعرف الانتخابات وتكره كلمة الديمقراطية، هى اخترعت الاستفتاء على شخص واحد فقط هو الحاكم، والنتيجة ابتكرها نظام عبد الناصر وتم تعميمها عربيا وهى الخمس تسعات سيئة السمعة. النظم الجمهورية تحكم بالقهر والإذلال ولا تقدم لشعوبها إلا الفقر والبطالة والفساد، فلا نظام واحدا حقق لشعبه حياة كريمة يمكن أن يستعيض بها عن غياب الحرية، وتونس التي كنا نتصور أنها حققت ازدهارا اقتصاديا أغنى شعبها عن المطالبة بالحرية ثبت أنها كانت خدعة كبيرة روج لها الإعلام الذي اشتراه نظام بن علي أو على الأقل لم تكن التنمية بالمستوى الرائع الذي كنا نسمع ونقرأ عنه. وبعد عقود من الديكتاتورية فقدت خلالها الشعوب الأمل في الإصلاح فإنها اضطرت للثورة السلمية للمطالبة بالتغيير، وبدل أن ينصت الحاكم لشعبه وينتبه إلى خطورة الأمر ويعالجه جذريا فإنه يلجا إلى العنف الذي لايعرف غيره فهو نفسه وصل للسلطة بالقوة وليس بالسياسة والانتخابات. من قبل كانت دماء الشعوب تسيل في مواجهة المستعمر الأجنبي، الآن تسيل على أيدي الحاكم الوطني. هل هى مصادفة أن البلدان التي تشهد ثورات كلها ذات نظم حكم جمهورية، بدأت الشرارة في تونس وانتقلت لمصر والآن في ليبيا واليمن وسوريا. والجزائر والسودان وغيرها ليست في مأمن، ولا أي نظام قمعي فاسد يستطيع القول إنه في أمان من الاحتجاجات. شرعية النظم في الجمهوريات قامت على الانقلابات ومهما حاولت أن تكون مدنية وان تغلف الطابع العسكري بوسائل مزيفة من الديمقراطية والانتخابات والبرلمانات الشكلية فان الشرعية مشكوك فيها لأنها ليست مستمدة من الشعوب صاحبة الحق الحصري في منح الشرعية أو حجبها، والحكام يعلمون أنهم غير مرغوبين من شعوبهم فلو كانت الشعوب اختارتهم وتؤيدهم لم تكن تثور عليهم وتطالب برحيلهم بل كانت انتظرت أقرب استحقاق انتخابي لتصرفهم من حيث أتوا ولو كان الحكام يدركون أنهم يخدمون شعوبهم لفترة معينة ثم يغادرون إلى الحياة العادية لما كانوا فكروا في استخدام العنف بأي درجة لقمع المتظاهرين. بن علي في تونس بقي 23 عاما في الحكم، ومبارك في مصر 30 عاما، والقذافي يحكم ليبيا منذ 42 عاما، و صالح باليمن طوال 33 عاما، وبشار في سوريا أقلهم مدة 11 عاما، لكن حكمه مفتوح، ووالده قبله بقي 30 عاما، ماهذا..؟. هل منصب الرئيس في جمهورياتنا أصبح وظيفة بدون تقاعد أم انه منصب رفيع لخدمة الشعب له مدة محددة ثم يذهب شاغله ؟. الرئيس ليس موظفا إنما هو خادم لوطنه وشعبه يأتي لتنفيذ سياسات معينة ثم ينصرف, ويأتي آخر وهكذا حتى يتطور البلد بتنافس الرؤساء في تقديم أفضل ما لديهم لخدمة أوطانهم. لم يكتف الرؤساء بالسنوات الطويلة التي قضوها في الحكم دون تحقيق طموحات شعوبهم في حياة محترمة إنما هم يقتلون الشعوب عندما تحتج على سوء الأوضاع، كل حاكم عربي في بلدان الثورات أياديه تلوثت بدماء شعبه ولذلك سقطت شرعياتهم المشكوك فيها أصلا، فمنهم من رحل ومنهم من يجاهد للبقاء إلى حين، لكنه في نظر شعبه سقط حتى لو بقى سنوات أخرى. كيف يحكم شعبه بعد أن أسَال دمه وبعد أن خرج الناس عليه وهتفوا برحيله، والذين ينافقون ويدعون أنهم مؤيدين يفعلون ذلك خوفا أو طمعا، ويوم يسقط فإنهم أول من يحتفلون، حدث ذلك في تونس ومصر، والأيام بيننا لنرى نفس المشهد من الفرح العام برحيل الآخرين. الكارثة لم تعد في أولئك الحكام فقد كان ممكنا للشعوب أن تصبر عليهم سنوات أخرى حتى يأتي الرحيل الطبيعي لهم إلى الآخرة، لكنهم لايريدون للحكم أن يغادر أسرهم فابتدعوا توريث أبنائهم وهذا هو الذي فاقم الغضب الشعبي وجعل الناس تثور، صحيح أن البوعزيزي التونسي الذي حرق نفسه كان الشرارة في اندلاع الثورات إنما هناك أسباب متراكمة فجرتها ومن أهمها التوريث، ففي تونس كانت زوجة بن علي تخطط لتجلس هى أو زوج ابنتها مكانه، وفي مصر كان جمال مبارك قاب قوسين أو أدنى من القصر، وفي ليبيا كان سيف الإسلام القذافي يتجهز لخلافة والده، وفي اليمن احمد علي صالح، أما سوريا فان الحاكم هو أول وريث في الجمهوريات العربية، وهى السُنّة التي استنها النظام السوري وبدأ الآخرون يعجبون بها ويعملون على تنفيذها. حتى الأوطان اختزلها الحكام في أسمائهم فأصبحنا نقرأ: زين تونس ، ومصر مبارك، وسوريا الأسد، والله وليبيا ومعمر وبس، وصالح اليمن، والى آخر هذه المساخر التي جعلت الأوطان مزارع خاصة للحكام. لامقارنة إذن بين تلك النظم المتغطرسة القامعة لشعوبها تحت اسم خادع وهو الجمهوريات، وبين النظم الملكية - خصوصا في الخليج - التي تحكم وفق عقد اجتماعي ورضاء من شعوبها حيث وفرت للشعوب الحياة الإنسانية الكريمة بل الرفاهية وصانت حقوقهم الإنسانية وجعلتهم الأفضل على أشقائهم من شعوب الجمهوريات التعيسة البائسة. خدِعت الشعوب طويلا وهاهي تستفيق أخيرا في ربيع الحرية الذي يستحق التضحية بالغالي والنفيس.