مثلت "جمعة الشهداء" في أول إبريل في سوريا، استمرارا لمسلسل الاحتجاجات الشعبية، بدءا من " جمعة الغضب " في 18 مارس، "ويوم العزة في 25 مارس "، استجابة لنداء أطلقته الفعاليات السورية مؤداه" استعد أيها الشعب الثائر". وجاءت هذه التطورات في سياق لحظة فارقة تمر بها سوريا، وبعد أن ألقي الرئيس السوري بشار الأسد كلمته التي انتظرها الشعب، ترقبا لخطة إصلاحية يعلنها الرئيس، غداة قبوله استقالة حكومة محمد ناجي عطري، وتكليفه بتسيير الأعمال لحين تشكيل حكومة جديدة، يكون من مهامها الرئيسية (حسب توقعات الشعب السوري) العمل علي تنفيذ الخطة الإصلاحية التي يتعين أن تتناول إطلاق الحريات، وتعديل صيغة الحكم في سوريا في اتجاه صيغة ديمقراطية يقبل بها الشعب السوري، يكون من أهم سماتها ضمان الحريات والحقوق السياسية .وبدلا من إعلان خطة سياسية إصلاحية مفصلة وموسعة، فقد أعاد الرئيس بشار الأسد في كلمته حديث "المؤامرة " و"الفتنة" التي تتعرض لها سوريا، محذرا من أن التسرع في الإصلاح يعرض البلاد لما وصفه بالمخاطر المدمرة، ومشيرا إلي أن من يتربصون بالاستقرار السوري خلطوا بين ثلاثة أمور : الفتنة، والإصلاح، والحاجات اليومية، وبُعيد انتهاء الرئيس من كلمته بدون إعلان أية خطة إصلاحية، سُمع إطلاق نيران كثيفة، في حي الصليبة، جنوب اللاذقية، بدون أن يتمكن أحد من معرفة أية تفاصيل أخري، وانتشرت علي الانترنت دعوات علي غرار ما أطلق عليها "جمعة الغضب ". وكانت سوريا قد شهدت تظاهرات قوية منذ 15 مارس، انطلقت من مدينة درعا الجنوبية، في ضوء حركة احتجاجات الغضب الشعبي، لتنتشر في باقي المدن السورية، دمشق وحمص واللاذقية وحماة، للمطالبة بالحرية والديمقراطية والتغيير السياسي، وليستمر المشهد العربي " ثوريا " ،من دولة إلي أخري، ويتكرر شعار " الشعب يريد إسقاط النظام "، والتي يرددها الملايين، لاقتلاع جذور الاستبداد في العالم العربي . ومرة أخري، اختار النظام السياسي في سوريا قمع المظاهرات والاعتصامات السلمية، بقسوة مفرطة، ليسقط الضحايا بالمئات، في مرحلة مبكرة من عمر المواجهات بين الشعب والسلطة، ليتأجج الغضب الشعبي، وصولا إلي إسقاط تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد، وليسقط كليا حاجز الخوف من نيران الأجهزة الأمنية ومحاولات الترويع التي دأبت عليها هذه الأجهزة علي مدي عقود من عمر النظام، ولتثور من جديد التوقعات بأن يصل المشهد السوري بدوره مجددا إلي لحظة الخيار الحاسمة للقيادة السياسية. وكان النظام السوري قد أكد مرارا أن الانتفاضات الشعبية والثورات التي اندلعت في الدول العربية ليس لها مجال في سوريا بدعوي أن سوريا هي الدولة التي ترفع شعار "المقاومة " والعداء لأمريكا وإسرائيل، وترفع راية القومية العربية في مواجهة حلفاء الغرب وأصحاب خطيئة " كامب ديفيد". ولكن في خضم حالة الغضب الشعبي والتظاهرات التي شهدتها المدن السورية ، أعلنت القيادة أنه سيجري تنفيذ حزمة من الإصلاحات، والتي تتناول زيادة رواتب العاملين في الدولة، وإطلاق سراح عدد من السجناء السياسيين، وإلغاء قانون الطوارئ، والسماح بحرية التعبير والتجمع، وهي الإصلاحات التي كان يتوقع أن يطرحها بقوة بشار الأسد علي الشعب، ولكنه اختار بدلا منها أحاديث "المؤامرة " . وكان الأسد في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال في أوائل يناير الماضي قد أكد علي أن سوريا مستقرة، ولن تصلها شرارة الثورة التي حدثت في تونس ومصر، ولذلك فإنه ليس في عجلة من أمره لإقرار الإصلاحات، لأنه في موقع أفضل من الرئيس السابق حسني مبارك، ولديه متسع من الوقت ليتسني له بناء ما وصفه " بالنظام السياسي المنفتح ". سوريا .. مكانة خاصة يبدو أن حديث " الإصلاح " يتكرر كثيرا في الأجواء السورية، دون أن يعني ذلك البدء بتحديد برنامج محدد لتنفيذ الخطة الإصلاحية، وبعد اندلاع الأحداث الأخيرة، جاء حديث الإصلاح مجددا، و حرصت المستشارة الإعلامية والسياسية في الرئاسة السورية بثينة شعبان، والتي تولت الإعلان عن حزمة الإصلاحات التي تعتزم القيادة السورية تنفيذها، علي التأكيد علي استقرار سوريا، ودرجة السماحة العالية التي يتمتع بها النظام السياسي السوري، وعدم التمييز بين الأديان، والاستجابة لكل المطالب الشعبية علي قدم المساواة بين جميع الطوائف، ولم تكن كلمات بثينة شعبان سوي إشارة معاكسة لواقع سوري محمل بأسباب الغضب الكامن، بالنظر إلي حقيقة الواقع في سوريا، وخصوصية تكوينها التاريخي والسكاني. ومن المعروف أن سوريا تتمتع بتنوع سكاني شديد نظرا لأنها منطقة حيوية تاريخيا، وكانت مسرحا لكثير من المواجهات الكبري بين عدة امبراطوريات، ومسرحا لغزوات تاريخية وتيارات الهجرة، ومن ثم تتعدد فيها الانتماءات حتي ولو كان العرب المسلمون يشكلون أغلبية السكان البالغ عددهم 22 مليون نسمة . وبحسب الإحصاءات المتاحة، ففي سوريا 70 % من السكان من السنة العرب، و8 % من السنة الأكراد، وأقل من 1 % من السنة الشركس، و1 % من الشيعة من العرب وسواهم، ومن 8 9 % علويين، ومن 2 3 % من الدروز العرب، و 8 % من المسيحيين العرب الأرثوذوكس، وأقل من 1 % أقليات أخري كاليزيدية والإسماعيلية، وعدة آلاف من اليهود . وبينما توجد في سوريا مناطق يختلط فيها التكوين السكاني، فهناك مناطق أخري يغلب علي تكوينها طائفة معينة، ويتركز العلويون تاريخيا في قري الساحل السوري، وبعض المناطق الداخلية، بينما تتركز الأغلبية السنية في محافظات دمشق وحمص وحماة وحلب والرقة ودرعا . أما الشيعة فغالبيتهم في دمشق والرقة، والدروز في الجنوب، وينتشر المسيحيون في عدة انحاء وبعض القري، ويتركز الأكراد في المناطق الشمالية (حوالي مليون كردي). ومن المشكلات التي تطفو علي سطح الحياة في سوريا شعور الأكراد مثلا بالغبن الشديد خاصة بعد أن صدر في عام 1962 قانون إحصاء يجرد الأكراد من الجنسية، لذلك تتركز مطالب الأكراد في ضرورة الاعتراف بهم وثقافتهم ولغتهم وتقاليدهم ضمن الخريطة الوطنية السورية، ويعتبر الأكراد أنفسهم شعبا محروما في سوريا من كل الحقوق السياسية والإنسانية في ظل النظام السوري الحالي. وفي تعليق لأحد قيادات الأكراد علي أحداث المظاهرات والاعتصامات التي عمت المدن السورية مؤخرا قال: إنهم شاركوا بقوة في الاحتجاجات طلبا للحرية والديمقراطية مثل بقية الشعب السوري . وكانت المستشارة بثينة شعبان في كلمتها قد أشارت إلي عيد النيروز عند الأكراد، كعيد لكل السوريين، فيما وصف بأنه (أول إشارة رسمية ) لمسئول سوري، ينطوي بصورة ما علي اعتراف ثقافي بالأكراد ضمن الثقافة السورية، وفي إشارة أخري علي قلق القيادة السورية إزاء الأحداث الأخيرة، تم تكليف لجنة ببحث حالة الأكراد، وموضوع الجنسية. ومع ذلك، ففي جمعة الشهداء، تظاهر أكراد سوريا للمرة الأولي في القامشلي وعامودا للمطالبة بحق الجنسية وإطلاق الحريات. سوريا.. التحدي السياسي مثلت الاحتجاجات الدامية التي انتشرت من درعا في الجنوب السوري باتجاه عدة مدن، وتجددت في 1إبريل في دوما شمال دمشق، وعدة مدن سورية اخري، مثلت أكبر تحد بهذا الحجم والقوة لسلطة الرئيس السوري بشار الأسد، علي مدي 11 عاما، والذي يصفه البعض بأنه لا يزال يتمتع بهامش من الدعم الداخلي الذي يمكن أن يستند إليه في تحركه المستقبلي تجاه الأحداث . هذا، شريطة أن تتخلي السلطة في سوريا عن منهاجية العنف وإهراق الدماء، والذي يهدد المستقبل السياسي للرئيس السوري، وقد يصل به إلي المصير النهائي بالمطالبة برحيله. وربما لاينسي كثيرون أن الرئيس بشار الأسد هو الرئيس الذي دشن وصوله إلي السلطة، علي الصعيد العربي سنة "التوريث"، خلطا بين ما هو جمهوري وما هو ملكي، في إطار صيغة عربية معدلة وراثيا. ووفقا لتقرير من مجموعة الأزمات الدولية التي تتخذ من بروكسل مقرا لها، يقول إن القيادة السورية تمر بلحظة مصيرية، وتواجه خيارين : إما القبول بمبادرة سياسية إصلاحية، تقنع الشعب السوري بجدية النظام في إجراء إصلاحات جذرية، وإما تصعيد القمع الذي يؤدي إلي النهاية المحتومة . وفي جمعة الشهداء، سقط مجددا عشرات منهم، ليعني ذلك الكثير بالنسبة للأيام المقبلة. ومن المؤكد أن أحداث درعا، ومظاهرات المدن السورية فاجأت القيادة السورية، بالرغم من أنها تأتي في سياق الانتفاضات والثورات التي تعم المنطقة العربية، ومن ثم اندفعت القيادة السورية في اتخاذ إجراءات احترازية تستبق بها التصعيد، غير أن التساؤلات ظلت ماثلة حول مدي كفاية حزمة الإجراءات الإصلاحية في تمكين القيادة من عبور المحنة، ومدي كفاية الإصلاحات الاقتصادية والمعيشية، حيث لا يزال هناك حاجة ماسة لإصلاحات سياسية عميقة وشاملة، حسبما تؤكد المعارضة والناشطون في سوريا . ومن المعروف أن الأقلية العلوية تهيمن علي السلطة في سوريا منذ الانقلاب الذي نفذه حزب البعث في 1963، وقد مارست أسرة الأسد السلطة عبر سلسلة معقدة من المصالح المتداخلة بين الطائفة العلوية التي تنتمي إليها وتشكل أقلية بين السوريين، وعدد من الأقليات الدينية الأخري بينها المسيحيون وطبقة نخبوية من أصحاب الأعمال التجارية السنة. وينسب للأسد الأب ارتكاب مجزرة بشعة في عام 1982 عندما قصفت القوات الجوية السورية مدينة حماة، بهدف القضاء علي انتفاضة الإخوان المسلمين، وذلك بعد محاصرة المدينة بحوالي 12 ألف جندي بأوامر من رفعت الأسد شقيق الرئيس، الأمر الذي أسفر عن مقتل حوالي 30 ألف شخص في حماة، بعد حصار دام ثلاثة أسابيع. وحماة هي رابعة أكبر مدن سوريا بعد دمشق وحلب وحمص، ويسكنها حاليا نحو 700 ألف نسمة ينتمون إلي الطائفة السنية. أما مدينة اللاذقية فتتنوع تركيبتها بين علويين وسنة ومسيحيين وأرمن وتركمان وبها عدد كبير من السكان، ممن يعانون التهميش، وصولا إلي مدينة الصنمين في محافظة درعا، وهي مدينة قبلية عشائرية، وكانت مدن حماة، وحمص، واللاذقية والصنمين، هي المدن الرئيسية التي شهدت أكبر تظاهرات منذ 15 مارس للمطالبة بالحريات والتغيير السياسي في سوريا. وتشكل الانتفاضة الشعبية في سوريا مصدر قلق بالغ للقيادة السورية، خاصة وأنها اندلعت أساسا من مدينتين تعدان من معاقل النظام فمدينة درعا تقطنها أغلبية قبلية سنية شكلت منذ أمد بعيد قاعدة لتأييد الصفوة، وهي موطن عدد من القيادات السياسية والعسكرية. أما اللاذقية فتضم أغلبية علوية. ويعلق ناشط سياسي من الرابطة السورية لحقوق الإنسان علي الأحداث الأخيرة بقوله إنه " ربما يكون غالبية السوريين متعاطفين مع الرئيس بشار الأسد بصورة ما، ويفضلون أن يكون هو عامل التغيير، ولا يريدون تدمير بلادهم، ولكن إذا أصرت الحكومة السورية علي اعتماد سياسة " القبضة الحديدية " فإن الموقف السياسي في سوريا سيكون مرشحا للانفجار، ولا يعرف أحد ما سيكون عليه الوضع مستقبلا " . ولطالما تجاهل بشار الأسد منذ توليه السلطة خلفا لوالده الراحل في عام 2000، إجراء إصلاحات سياسية طالبت بها المعارضة ممثلة في إلغاء قانون الطوارئ المفروض منذ عام 1963، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، والسماح بحرية تكوين الأحزاب والجمعيات، وضمان استقلال القضاء، وكبح سيطرة الأمن المتغلغل في البلاد، وإنهاء سيطرة حزب البعث علي السلطة. سباق مع الزمن في محاولة لإقناع السلطة في سوريا بأخذ جانب الإصلاح، قبل فوات الأوان، أكد مثقفون وحقوقيون سوريون في بيان لهم بعنوان " العهد الوطني" ضرورة بناء الدولة الديمقراطية المدنية، واحترام التنوع، وعدم استخدام العنف تحت أي ظرف كان . وأكد الموقعون علي البيان ضرورة السعي المشترك لضمان المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وحرية الأفراد، واحترام المعتقدات وخصوصيات كل أطياف الشعب السوري، وعدم الإساءة إليها أو انتهاكها، وتشجيع التواصل والتفاعل الودي والإيجابي السلمي والأخوي بين جميع الأطياف بلا استثناء، وعدم السماح بإثارة الخلاف أو الفرقة أو التوتر أو البغضاء بينها بممارسة أية سياسة تمييزية أو إقصائية أو مجحفة ضد أية طائفة أو جماعة إثنية سورية. ومن موقعي البيان المفكر صادق جلال العظم، ومحمد ملص، وسمير ذكري، وهيثم المالح، وميشال كيلو وآخرون من رموز المجتمع السوري .ويبدو أنه مع اندلاع تظاهرات الغضب الشعبي للمطالبة بالحريات السياسية في درعا والمدن السورية الأخري، هناك محاولات من جانب نشطاء سوريين، والمجتمع المدني لإقناع السلطة في سوريا بأنه جاء الأوان لبدء إصلاحات حقيقية، وأنه لم يعد مقبولا استمرار سياسة كبت الحريات، وإخماد الصوت الشعبي. غير أن النظام السوري الذي فوجئ بالأحداث لم يجد بدا من اللجوء مجددا إلي الروايات المعتادة في النظم العربية لإشاعة الأكاذيب حول حقيقة الانتفاضات الشعبية، فهي مرة من صنع " مؤامرة خارجية " أو " قلة مندسة "، وصولا إلي كونها " إثارة للنعرة الطائفية " أو من تدبير " جماعات مسلحة " وهي الرواية السورية التي دأبت عليها وسائل الإعلام، بالرغم من أن المستشارة بثينة شعبان في أثناء إعلانها عن حزمة الإصلاحات أقرت بأحقية المطالب الشعبية، الأمر الذي ألمح إلي تعدد وجهات النظر داخل تركيبة السلطة، واختلافات سياسية وأمنية في التعاطي مع الأحداث . وكانت السلطات السورية رفضت بصرامة السماح للفضائيات العربية بتغطية الأحداث، خاصة وأن الأمن السوري تعامل مع المتظاهرين بوحشية، عكست مايعتبره كثيرون "هوسا أمنيا" تحكّم في مفاصل المجتمع السوري لعدة عقود، طال خلالها اعتقال المعارضين السياسيين، وأفراد عائلاتهم، إذا ما طالبوا سلميا بإطلاق سراحهم، الأمر الذي يعني أن سوريا اعتبرت من أكثر الدول العربية تضييقا علي الحريات، وإقصاء للمعارضة، وخنقا لقنوات التعبير السياسي . وباندلاع الانتفاضة الشعبية في المدن السورية، وجد النظام نفسه في سباق مع الزمن لاستباق الغضبة الشعبية وتطوراتها المستلهمة من ثورات الحرية والديمقراطية في الدول العربية. فالدعوات تتواصل علي شبكة الانترنت للخروج إلي الشوارع ،وتنتشر المنشورات الداعية إلي الاحتجاج والتجمع أمام المؤسسات كالإذاعة والتليفزيون، والأوبرا، والمكتبة الوطنية، وحديقة تشرين في دمشق . وتسابق السلطات هذه الدعوات بالإعلان عن الإصلاحات، والإفراج عن سجناء الرأي، حيث يتردد أنه تم الإفراج عن أكثر من 260 سجينا، بينما أنكرت بثينة شعبان أن لدي سوريا أصلا هذا العدد من سجناء الرأي. وعندما أعلنت السلطات في سوريا رفع قانون الطوارئ، أثارت هذه الخطوة ارتياحا مشوبا بالحذر لدي كثيرين، كون هذا القانون يفرض قيودا علي حريات التجمع، ويتيح اعتقال المشتبه بهم وأشخاصا يهددون الأمن، واستجواب الأشخاص، والمراقبة المسبقة للاتصالات والمنشورات والإذاعات وجميع وسائل الإعلام . وفي محاولة لاستباق الأحداث، تم تكليف لجنة قانونية لإعداد دراسة تمهيدا لرفع قانون الطوارئ، وإعداد قانون جديد لمكافحة الإرهاب . أما الإصلاحات الأخري التي أعلنتها السلطة وسط حالة عامة من الشك والغموض فتتضمن : اجراءات لمحاربة الفساد، وإصدار تشريعات لأمن الوطن والمواطن، ومشروع قانون الأحزاب، وزيادة الرواتب، وإيجاد فرص العمل، وتقويم الآداء الحكومي والإداري. في ظلال السلطة ألمحت مصادر ودوائر سورية إلي أن خطاب الأسد للشعب السوري أشاع حالة من خيبة الأمل لدي فئات كبيرة، لأنه لم يعلن جدولا زمنيا للإصلاح، وتساءل عن نوع الإصلاح الذي يريده الشعب السوري، وقال إن خطة الإصلاح معروفة في سوريا منذ عام 2005، واعتبر الأسد أن التظاهرات مجرد "مؤامرة" خارجية، ووصف ثورات العالم العربي بأنها مجرد "حالة شعبية". ويصف دبلوماسي غربي مجريات الأحداث الظاهرة والكامنة في سوريا حاليا بأنها أشبه ب "الحريق الهادئ"، وأن الموقف في سوريا هو "مسألة وقت" بالنسبة للنظام السوري، الذي يعتمد علي سياسة القبضة الحديدية في الحكم، تنفيذا لقاعدة القوة والاستقطاب واحتكار السلطة . فالدولة في سوريا تعتمد علي خمس وكالات استخبارية، ومحكمة عسكرية، وأخري خاصة بأمن الدولة، وينص القانون علي أن موظفي الخدمات الاستخباراتية لا يحق محاكمتهم عن جرائم اقترفوها خلال عملهم. وفي ظلال السلطة السورية، فقد تؤدي حالة التوتر والخوف والاحتقانات المكتومة إلي بداية تآكل النظام ،فإذا ما انتقلت الاحتجاجات إلي مدن سورية عديدة، فإن ذلك يمس مباشرة شرعية النظام . أما بالنسبة لبنية السلطة، وتركيبتها، فهناك من يؤكدون أنها حاليا تسودها انقسامات وخلافات مكتومة، فهناك من يؤيد قمع التظاهرات بالقوة، وهناك من يدينون إطلاق النار علي المتظاهرين، ويتردد أن الرأي يتعدد بين سياسيين، وأمنيين، وإعلاميين، وعسكريين، وهناك رأي حكومي، ورأي يخص حزب البعث . ومثلما يحيط الغموض بأجواء السلطة، فإن الغموض يشمل أيضا حالة الشارع السوري في ظل تعتيم إعلامي قسري من جانب السلطات. وفي حمص هناك اعتقالات واسعة، وجري احباط محاولات خروج للاعتصام في سوقي الناعورة والمسقوف، وفي درعا يسود الحذر الشديد، وتنتشر قوات الأمن والبحث الجنائي في الأسواق التجارية بالزي المدني، ويجري إطلاق الأعيرة النارية للتخويف، وتجري أيضا عمليات نهب للمحال التجارية، وتقوم قوات الأمن والجيش بتفتيش السيارات، واعتقال من تضبط معه كاميرا، ووسائل الاتصال شبه مقطوعة، كما تقطع الكهرباء بالساعات. وفي هذا السياق، يتساءل كثيرون لماذا لم يعلن الرئيس بشار إنهاء حالة الطوارئ في خطابه؟ غير أنه حتي هذه الخطوة التي لم تتم ليست كافية في حد ذاتها لحل الأزمة . ذلك أنه لابد أساسا من إلغاء العمل بمحكمة أمن الدولة، ومؤسسات أخري انشئت في السنوات الأخيرة لإحكام قبضة النظام، لذلك يتعين إنشاء هيئات مستقلة تشرف علي وكالات الأمن السورية، وتسن قوانين تتوافق مع معايير حقوق الإنسان التي يعترف بها العالم. غير أن مايبدو حاليا هو عجز النظام عن التغيير، وفهم مجريات الأمور، وربما دخل النظام السوري في متاهة "فوبيا التغيير". وعندما خرجت عشرات الآلاف فيما أطلق عليه "مظاهرات تأييد الرئيس" فما كان ذلك إلا نتيجة شعور النظام بخطورة مايجري، وما هو قادم، في إطار أزمة عميقة تنبئ بثورة عارمة، فالمسألة في سوريا تطال جوهر نظام سياسي في حاجة إلي تغييرات شاملة، وليس فقط مجرد إصلاحات جزئية في حرية الإعلام والأحزاب والضمان الصحي للموظفين. فالسلطات السورية تحاول حاليا المزج بين القوة الأمنية، والإصلاحات التي يعتبرها البعض تنازلات غير مسبوقة، غير أن سلطة الرئيس بشار تواجه تحديا حقيقيا، يعرّض بقاءه لاختبار قاس. وفي السياق يثور السؤال: هل يقبل حزب البعث تقاسم السلطة في سوريا بما يمهد لتهدئة الأوضاع؟ وفي حقيقة الأمر، فإن حزب البعث ليس مؤهلا لإجراء إصلاحات ديمقراطية، فالزمن تغير، والحزب العقيدي لم يتغير، وتحكُمه العقلية الواحدية. وتعلق مصادر إعلامية عالمية بأن هناك محاولة من قبل المتشددين في النظام السوري، بقيادة شقيق الرئيس، ماهر، لتهميشه، وهناك خلافات وسط ما يطلق عليه " العائلة الحاكمة "، ويتجه النظام إلي الحلول الأمنية بالبطش والقهر والعصابات المأجورة، وهناك انطباع حول صعود " الصقور " في السلطة، ونشر أعضاء من " عصابة شبيحة " المرتبطة بعائلة الأسد، وسيئة السمعة، في شوارع وضواحي دمشق، وعصابات مسلحة بالعصي والبنادق، ضربت المعارضين. ولابد هنا من ملاحظة أن التعددية الطائفية داخل حزب البعث قد مالت في العقدين الأخيرين باتجاه الطائفة العلوية، بسبب تكرار محاولات الانقلاب من جانب ضباط سنة، وأيضا نتيجة احتقان طائفي بين السنة والعلويين بسبب أحداث حماة. وفي المحصلة تثور احتمالات: هل يدخل النظام السوري في دائرة الفوضي التي تستنزف النظام والدولة معا ؟ وهل يتطور الصدام بين ما يطلق عليه "جبهة الرئيس" و"جبهة الحزب"؟ أم أن هناك قوي ستقدم علي هندسة التغيير في سوريا باتجاه إصلاحات وقوانين جذرية، بما في ذلك تنظيف الأجهزة الأمنية، ومحاربة الفساد، ونزاهة القضاء ؟ وبشأن ما يعتري الساحة السورية من مخاوف حقيقية، يقول الكاتب ياسين الحاج صالح الذي قضي 16 عاما في السجون السورية " هناك مخاوف من الطائفية، ومن النظام، ويدفع هذا الكثيرين إلي التماهي مع النظام، وطلب الحماية منه، ويدرك النظام ذلك جيدا، فتلك هي الاستراتيجية التي يتبعها. حديث "الصفقات" كان ملفتا إلي حد كبير، في بداية الأحداث السورية، أن تصرح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بأن الولاياتالمتحدة لن تتدخل في سوريا، مثلما هو الحال في حالة ليبيا . ويعلق علي هذا التصريح الخبير الأمريكي المتخصص في الشئون السورية آندرو تابلر بأن مقولة هيلاري كلينتون تمنح الأسد "رخصة" لقتل المزيد من السوريين وليس لإجراء إصلاحات حقيقية. هذا، علما بأن افتتاحية صحيفة واشنطن بوست دعت الرئيس أوباما إلي وضع الرئيس بشار وعائلته والمقربين منه علي قائمة المقاطعة ومنع السفر وتجميد الأموال. كذلك، دعا إليوت أبراهامز مستشار الشرق الأوسط في إدارة بوش السابقة إلي تدخل الرئيس أوباما لإسقاط نظام الأسد، بسبب القمع والفساد وحكم العائلة، كما كان الحال مع زين العابدين بن علي ومبارك والقذافي، وطلب أبراهامز من أوباما نقل موضوع سوريا إلي مجلس الأمن وإدانة العنف والقسوة ضد المواطنين السوريين، وتوجيه طلب إلي الجامعة العربية لعقد جلسة حول سوريا . كما علقت دوائر أمريكية بأن هناك مخاوف من " حماة " ثانية في سوريا. وبينما نظر البعض إلي "موضوع سوريا" علي أنه مشكلة نظام لم يعرف بعد كيف يتصالح مع شعبه، فإن آخرين بحثوا فيما يمكن أن تكون سوريا لا تزال تمتلكه من "أوراق إقليمية " تمكنها من لعب الدور الإقليمي نفسه، الذي راهنت عليه عشرات السنين، في عهدي الأسد الأب والإبن، وقايضت من خلاله الشعب السوري مقابل حقوقه وحرياته. فالنظام السوري اعتمد علي الخطاب الثوري ( الثوروي )، رافعا شعار المقاومة، ومعاداة إسرائيل، والغرب، والممانعة في مواجهة خطط السلام، مقابل ما يعتبره استقرارا، وتحديا، وصمودا، مما جمّد إلي حد الشلل صيغة الحياة السياسية في سوريا، ومنح الشرعية لمن يخدعون الناس، ويتحصنون بالسلطة في جميع أشكالها، ثراء ومناصب، وصولا إلي الفساد وجميع أشكال العنف المادية والمعنوية. وعلي الصعيد الإقليمي، فإن هناك من يهادن بشار الأسد إلي حد اعتبار سوريا الأسد: بوصلة العرب، وحصن الممانعة، ومسطرة قياس الموقف العربي من قضايا الأمة، وحضن الحرية، وقلعة المقاومة والممانعة. ولكن، اليوم، وفي خضم ظرف تاريخي مختلف بامتياز، أصبح علي النظام السوري أن يحسب جيدا ما يحوزه من أوراق القوة علي الصعيدين الداخلي والخارجي. فالعالم تغير، والحرب الباردة انتهت، وتغيرت جذريا جميع التوازنات الإقليمية، واضطرت سوريا إلي سحب قواتها من لبنان قسرا، وغزت الولاياتالمتحدة العراق، ومنه تكشف حاليا حوالي 80 كيلو مترا في العمق السوري عسكريا واستخباراتيا، ولم يعد ممكنا تمرير خطوط الإمداد مع الحلفاء التقليديين (إيران وحزب الله وحماس) علي أساس أن سوريا قوة إقليمية، تملك كل عناصر القوة . غير أن أهم ما يتعين علي نظام الأسد إدراكه أن الشعب السوري الذي طال انتظاره للحرية، شب عن الطوق، ولم يعد راغبا في إعطاء الدروس في القومية والعروبة للأخوة العرب، وقد شقوا بدورهم دروبا ثورية جديدة لحرية أوطانهم، بأساليب تحررية، ليس من بينها الخطاب "القومجي" المعتاد. أما علي الصعيد الدولي، وفي ضوء تصريحات كلينتون بأنه لن يتم التدخل في سوريا، فإن هذا في حقيقته يعد من قبيل الدروس المعادة والفاشلة، ذلك أن وزيرة الخارجية الأمريكية وصفت الرئيس بشار الأسد بأنه "رئيس إصلاحي" .. وهناك من استلهم من هذا "التأمين" دلائل خطة أمريكية لهندسة التغيير في سوريا، مع الإبقاء علي النظام، "منزها " و"بائعا"وبعيدا عن أية صلة بحلفاء الطريق السابقين والحاليين .. غير أن هذا الوفاق غير الودي لم يعد في ظل الظرف الدولي والعربي الراهن آمنا، فقد سبق للولايات المتحدة أن وصفت، منذ وقت ليس ببعيد، الرئيس الليبي معمر القذافي بأنه "رئيس إصلاحي"، وفي غالب الأحوال، فإن الموقف الأمريكي في نهاياته، يختلف كثيرا عن الموقف الأمريكي المبدئي .