ذكرنا فيما مضى من مقالات مجموعة ممن حاربوا الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثاني، ونكمل هذه المرة فنذكر من هؤلاء الذين حاربوا دولة الخلافة: أبو الضياء توفيق (1849م- 1913م) وهو من الأدباء العثمانيين الأتراك المعارضين للسلطان عبد الحميد الثاني. تعلم في أوروبا فترة و أجاد الفرنسية، وشغل عدة مناصب هامة في الدولة العثمانية منها: مدير المدرسة الفنية، وعضوية مجلس الشورى. أصدر مجله باسمه هي (مجلة أبو الضياء) وكلمة مجلة كلمة تركية تعني (مجموعة) وكان اسم ابنه الأكبر ضياء. أبعده السلطان عبد الحميد إلى رودس وقونية، ولكنه عاد إلى إستانبول بعد انقلاب 1908م الذي دُبّر ضد السلطان عبد الحميد. أصبح بعد ذلك نائباً برلمانياً عن مدينة أنطاكية. كانت له مطبعة مغلقة، فأعاد افتتاحها، ثم أعاد إصدار جريدة أستاذه شناسي (تصوير أفكار). من أعماله (نماذج من الأدب العثماني- الأمة الإسرائيلية- ابن سينا- نابليون- العثمانيون الجدد). ومن هؤلاء أيضا: جمال باشا الذي وُلد عام (1290ه- 1870م) في إستانبول وكان ضابطاً في الجيش العثماني، وواحد من الثالوث الذي حكم الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. انضم إلى اللجنة السِّرِّيَّة للاتحاد والنرقّي وهو ضابط ركن. أصبح عضواً في الإدارة العسكرية بعد حركة 1327ه، ثم حاكماً إدارياً قوياً لإحدى الولايات، ثم تقلّد منصب قائد قُوى الأمن في إستانبول، ثم وزارة الأشغال العامة، وحينما نشبت الحرب العالمية كان جمال باشا أحد المشاهير من الرجال ذوي النفوذ إضافة إلى طلعت باشا و أنور باشا. بعد المحاولة الفاشلة لمهاجمة مصر خلال الحرب عُيّن حاكماً لسورية، فسحق الأقليّة الأرمنية، وقام بإعدامات عامي 1915م، 1916م، ثم خدم الدولة بعد الحرب حتى اغتيل من قبل الأرمن أثناء مروره بمدينة تفليس بجمهورية جورجيا. ومن هؤلاء أيضا نجيب عازوري وهو ماروني لبناني، ولد في قرية بلبنان، واسم والده جريس حنا عازوري. التحق بمدرسة العزيز في بيروت، وتابع دراساته العليا في العلوم السياسية بباريس. تبوأ منصب مساعد حاكم القدس، ثم غادرها إلى باريس، وأصدر الاستقلال العربي وعاد بعد سقوط عبد الحميد الثاني لخوض الانتخابات، فحُكم عليه بالإعدام لقيامه بنشاطات تمس أمن الدولة، فهرب إلى القاهرة وعمل بالصحافة، وأسَّس محفلاً ماسونياً بهدف مشابه للكاربوناري (تحرير الوطن) كما أسّس حزب جامعة الوطن العربي، واتصل بالعديد من رجالات الدول الكبرى. وقد خُدع بعض العروبيين بعناوين كتبه ومقالاته الحافلة بالحقد الصليبي والدفاع عن كل ما هو غربي، وتبرير الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والأمريكي للبلدان العربية عامة. وقد ردّ على مشروع (الجامعة الإسلامية) – الذي طرحه عبد الحميد الثاني وهو يقدّر أهميته- بصورة عملية؛ فدعا عام 1904 إلى تأسيس حزب أسماه (جامعة الوطن العربي) ثم أصدر في باريس مجلة أسماها (الاستقلال العربي) كما عمل في الصحافة المصرية، وشارك في عدة مؤتمرات عربية. وفي كتابه (يقظة الأمة العربية) يطرح فكرته فيقول: (لا شيء أكثر تحرراً من برنامج (جامعة الوطن العربي) فهي تريد قبل كل شيء لمصلحة الإسلام والأمة العربية فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية (دعوة صريحة للعلمانية الأوروبية) وإقامة إمبراطورية عربية تمتد من الفرات ودجلة إلى خليج السويس ومن المتوسط حتى بحر عُمان، وستتخذ الحكومة شكل السلطنة الدستورية المرتكزة. ويدلك ذلك على حجم التآمر الذي كان يفكر فيه هذا الرجل بألاّ تقوم للإسلام قائمة ولا تقوم في الأرض العربية حكومة مسلمة، ويحاول أن يهيئ الذهن العربي المسلم لهذا بإظهار السلطان عبد الحميد ودولة الخلافة في ثوب الاستبداد والطغيان. يقول عن السلطان عبد الحميد الثاني: (يعتبر عبد الحميد من بين جميع الطغاة الذين سيطروا على تركيا أكثرهم إضراراً ببلاده! لذلك سيكون آخر ملك من السلالة العثمانية! لقد خسر منذ تولّيه العرش على التوالي كلاًّ من رومانيا والصرب والجبل الأسود وبلغاريا ومنطقة كارس وباطوم وقبرص ومصر وتونس و رومانياالشرقية و تساليا وكريت، وتشكّل هذه البلدان أكثر من نصف الإمبراطورية (!) وسيشهد عبد الحميد تفكك ما تبقّى من إمبراطوريته (!) قبل وفاته). ويقول: (لقد حاول عبد الحميد أن يسحق نهضويي البلغار والبوسنة بمجازر رهيبة، لكن وحشيته كلها لم تنته إلا بالمعاهدة المذلة (سان استيفانو) التي كرّست استقلالها جميع الشعوب في الجزء الأوروبي من إمبراطوريته(!)). ويقول: (لقد أراد أن يخضع الألبان للخدمة العسكرية، فأصبحوا أكثر استقلالاً من قبل، كما قادت وحشيته إلى خسارة كريت، و أخيراً أراد يفني الأرمن بواسطة الأكراد، لكن هؤلاء وهم على تماس بضحاياهم تذكروا أنفسهم منذ عهد قريب وقد كانوا أحراراً في ظل أمير اسمه بدر خان، وفهموا أن إفناءهم لجيرانهم الأرمن لا يفيد إلاّ في جعل سلاسل عبوديتهم أثقل، وهكذا من جبال أرمينيا وكردستان اجتاز التتار سهول الفرات، ومن هناك انتشرت في كل البلدان العربية). ويقول: (... ومن جهة أخرى يحاول عبد الحميد السيطرة على البطريركية المارونية بمحاولات خادعة، ويهدف إلى القضاء على الحكم الذاتي في لبنان شيئاً فشيئاً، وهو الذي يشكّل الطريق الوحيد للحرية في البلدان العربية! ويريد أيضاً السيطرة على مختلف التجمعات للمحافظة على استقلالها في سورية والعراق والجزيرة العربية، كذلك يحاول بالقوة ودون جدوى إخضاع دروز حوران والسلفيين في نجد والخليج الفارسي(كذا) والقبائل والمتمرّدة في اليمن، والتي يشكل استقلالها نداء الحرية الموجه إلى العرب في سورية والعراق). ويقول: (لقد اجتمعت في مكة في السنة الأخيرة (1903م) جمعية مؤلفة من بعض العلماء للتداول بشأن إنشاء خلافة عربية محضة دينية مركزها مكة، قرّرت الجمعية أن يتولى هذه المكانة العالية مسيحي، غريب (كذا!!) أفضل من أن تتركها للقذر (!) عبد الحميد، لأنه ورد في كتاب الإسلام المقدّس أن أميراً كافراً عادلاً خير من أمير مسلم غير عادل (!) وعَلِم السلطان بوجود هذه الرابطة وأخذ علماً ببعض مقرّراتها، ولمنع هذه الحركة الخطيرة من الانتشار حول قبر النبي العربي (!) أَمَر والي الحجاز أن يرتكب مجزرة بين الحجاج ليجعل رحلة الحج بالنسبة لجميع المسلمين المثقّفين محفوفة بالمخاطر). ومن هؤلاء الذين حاربوا دولة الخلافة جورجي زيدان وهو أديب لبناني صليبي ماسوني انخدع به كثير من المسلمين. انضم إلى جمعية (شمس البر) التي أُنشئت في بيروت عام 1869م كفرع لجمعية الشبان المسيحيين) في إنجلترا، والتي ضمّت بالإضافة إليه من العرب د. يعقوب صروف. و د. فايز نمر وسليم البستاني وجوزيف أسير. ثم هاجر جورجي إلى مصر عام 1883 فعمل محرراً في صحيفة الزمان اليومية لصاحبها (ملكان ضرافيان) الأرمني الذي هاجر إلى قبرص، وكانت الجريدة اليومية الوحيدة في القاهرة، بعد أن عطل الاحتلال البريطاني جميع الصحف الأخرى. وفي عام 1884م رافق الحملة الإنكليزية النيلية إلى السودان مترجماً وكانت الحملة تستهدف إنقاذ (غوردون) من ثورة المهدي. وفي عام 1886م زار لندن بعد أن ضمّه الدكتور (فانديك) إلى المجمع العلمي الشرقي ببيروت، كما عُيّن عضواً في المجمع الآسيوي الملكي البريطاني. وفي ستة 1891م أنشأ مطبعة التأليف بالاشتراك مع نجيب متري التي انفرد بإدارتها بعد عام وسماها مطبعة الهلال، بينما أنشأ الآخر مطبعة المعارف ثم أصدر الهلال في عام 1892م. عكف جورجي زيدان على التأليف والنشر، فألّف في التاريخ (التمدن الإسلامي) مستفيداً من مؤلفات المستشرقَيْن (فول كريم جولد تسهير) و(جوستاف لوبون). اتهمه محمد حسين هيكل في مقال له بجريدة عام 1912م بأنه لم يكن دقيقاً في ضبطه للحوادث وتحريّه للتاريخ في كتابه (تاريخ آداب العرب)، كما اتهمه مرة أخرى بأنه لم يدخل روح العرب كي يستطيع أن ينثرها أمام نظره، ويفتش فيها ويعرف دقائقها. كما تعرّض جورجي زيدان لحملة نقدية مماثلة من المصلح الهندي الشيخ شلبي النعماتي. بينما قال (طه حسين) في (أعلام الفكر والأدب) ص187: إن جورجي زيدان هو الذي نقل إلى الأدب العربي مذهباً من مذاهب الأدب الأوروبي، هو القصص التاريخي. كما كتب الدكتور زكي نجيب محمود في (قصة الأدب في العالم) الجزء الثالث ص 431: (وأخيراً جاء جورجي زيدان ففتح بالتاريخ نحواً جديداً، اتبع فيه أسلوب الفرنج في جرح النصوص وبحثها والاستنتاج منها ودراسة الأسباب والنتائج). تولّى جورجي زيدان الدعاية المضادة للخلافة العثمانية تمشياً مع ماسونيته وخدمة الإنكليز ولقد لعب دوراً مهماً في الدعاية ضد السلطان عبد الحميد على وجه الخصوص، وأخذ على عاتقه مهمة تهيئة الأذهان لقبول إلغاء الخلافة وساهم بقلمه عبر العديد من الروايات والمؤلفات والمقالات، واستقطب مجموعة من الأقلام في صفحات"الهلال". كتب جورجي زيدان في "الهلال" عام 1920م تحت عنوان "لا يصحّ إلا الصحيح" عن السلطان عبد الحميد، كتب يقول: (.. وأقرب الشواهد على ذلك ما كان يقوله بعض المتعلمين في عصر الاستبداد عبد الحميد، وفيهم من ألّف كتاباً في ذكر فضائل العصر الحميدي الأنور.. ونسب لذلك الطاغية سعياً حميداً في بث العلوم و إنشاء المدارس، فعدّد ما آتاه الله من الإصلاح في الدولة والأمّة، كانوا يفعلونه تملقاً يلتمسون به رزقاً مغموساً بالدم، وقد يتبادر إلى ذهن القارىء أن حقيقة عبد الحميد لم يخفها ذلك التمويه، وأن الناس كانوا يعرفون حقيقة الرجل الغريب الأطوار، لكن الواقع أن كثيرين كانوا ينخدعون بتلك الأقوال ويعتقدون فضل عبد الحميد، فلما حُكم عليه بالخلع بعد حادثة 13 أيلول تصدّى بعض الكتبة لإقامة الحجة، وأنكروا على الأحرار علمهم، وتوالت التلغرافات على الأستانة من أنحاء العالم الإسلامي يطلبون إلى الدستوريين ألا يلحقوا الأذى بشخص ذلك المخلوع. وما يصحّ على عبد الحميد يصحّ على المتقدّمين من رجاله وأمثالهم، فقد كان بعض كتّاب الصُحف يصورونهم أجمل الصور، وينسبون إليهم أفخر الفضائل، فلما انقلبت الحكومة ظهرت الحقيقة(!)). أقول: ذلك مما يشهد للسلطان عبد الحميد على المكانة التي كانت له في قلوب المخلصين من المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وإلا فلماذا انهالت الاتصالات والرسائل على الأستانة بشأن السلطان المخلوع؟). كما حارب جورجي زيدان فكرة الجامعة الإسلامية، وهوّن شأنها، فكتب مموِّهاً يقول: (الجامعة هي الاستمساك بمبدأ أو اعتقاد أو غرض يجتمع حوله جماعة من الناس يشتركون في الأخذ به والدفاع عنه، والاجتماع فطري في الإنسان لكثرة حاجاته وعجزه عن القيام بها وحده، فاضطر إلى الاستعانة على قضائها بالاجتماع مع أبناء جلدته للتعاون وتبادل النفع، فهو يتذرّع إلى الاجتماع بأسباب مع الآخرين أقدمها القرابة أو جامعة النسب، وتعرف بالعصبية، ويدانيها في القدم جامعة اللغة - والتفاهم يقرب القلوب ويوحّد الأغراض. فإذا تكاثر الأقوياء وتشعّبت القبلية إلى فروع أقام كل منها في بلد واشترك وأبناؤه في الدفاع عن ذلك البلد، وهي جامعة الوطن مع بقائهم مشتركين في جامعة اللغة أو النسب، لأنهم من أصل واحد، ويغلب في أهل القبيلة الواحدة أن يدينوا بدين واحد مهما كثرت فروعها (!) فهي تجتمع بجامعة الدين زيادة على اللغة والنسب (!) وقد يتفق وجود أمة أخرى في بلد آخر تتكلم بلسان غير لسانها، لكنها تدين بمثل دينها، فتجعلها معها جامعة الدين، وقس على ذلك سائر الجامعات وهي عديدة. فأهل البلد الواحد يقسمون إلى جامعات، يجتمع بعضهم بجامعة المهنة، وآخرون بجامعة الجنس واللون أو الزواج أو العزوبة (!) فيكون المتزوجون حزباً واحداً تجمعهم جامعة الزواج (!) وكذلك العزّاب والكهول مع اشتراك كل فرد من إحدى تلك الجامعات بصفة أخرى مع جامعة أخرى فيكون شريكاً مع بعض الناس في جامعة النسب، ومع غيرهم بجامعة الدين وغيرهم بجامعة اللغة. وهكذا من حيث المهنة والعادة والسن والطول والقصر وغيره (!) كأن يكون طبيباً فيجتمع مع الأطباء بجامعة المهنة أو محامياً فمع المحامين أو طويلاً فمع الطوال أو قصيراً فمع القصار أو أسمر اللون فمع السمر، أو أبيض فمع البيض وقس عليه. فتتضارب الجامعات وتتقاطع على شكل عجيب، فأهل القاهرة مثلاً تجمعهم مدينة القاهرة ولكن ابن هذه المدينة يجتمع مع ابن الاسكندرية على غير المصري ويجتمع مع أهل الشرق على أهل الغرب، والمصري المسلم مع المصري غير المسلم بجامعة الوطن، ومع السوري والعراقي بجامعة اللغة (!) ومع الفارسي والهندي بجامعة الدين، واعتبر هذا التفرّع كل بلد ودين ولغة، فترى الجامعات عديدة يشترك بها الناس بعضهم على بعض أو مع بعض على التقاطع والتضارب. ولو رسمنا تلك العلائق خطوطاً بين الإنسان ومن يشترك معهم بجامعة أو غير جامعة لرأينا كلاً منها ممركزاً تنبعث منه الخطوط انبعاث الأشعة من جسم منير حتى تتقاطع وتشتبك الخطوط المنبعثة من جسم آخر على شكل مرتبك متقاطع. فالجامعات عديدة لا يمكن حصرها، ولا يخلو إنسان من اشتراكه في عشر أو عشرات منها ولكنه لا ينتبه لهذه الجامعات أو تلك، إلا إذا اضطر إلى الاجتماع لدفاع أو هجوم، فإذا خاف أهل عصبية أو قبيلة من عدو يسطو عليهم اجتمعوا عليه بجامعة النسب وهم الأهل أو الأقرباء، فإذا لم ينفعهم ذلك استعانوا بجامعة الوطن أو الدين أو اللغة أو غيرها)!. ثم يبالغ جورجي زيدان جداً في التهوين و الهبوط والازدراء من شأن الجامعة الإسلامية، ويطعن من خلالها في نية السلطان عبد الحميد فيقول: (... وإذا أمعنت النظر فيما عددنا من الجامعات العديد رأيت مرجعها عند العمل إلى جامعة لم تذكر في جملتها مع أنها أساسها كلها، نعني جامعة "المنفعة" أو المصلحة، وهي اشتراك الجماعة في عمل يعود نفعه عليهم، وهي الأصل في قيام الناس بالأحزاب والعصبيات، فإذا توسّموا لأنفسهم نفعاً في عمل مع جماعة تذرّعوا إلى التقرب منهم، واستخدامهم بجامعة تجمعهم بها، فإذا رأوا بقاءهم على هذا الاجتماع مُضِرٌ بمصالحهم أغضوا على تلك الجامعة وانتحلوا سبباً يجمعهم بجامعة أخرى، فالجامعة الحقيقية إنما هي جامعة المنفعة (!) والتاريخ غاصّ بالشواهد على ذلك). ويقول: (متى عرفنا أن الباعث الأصلي للتكاليف على القيام بأمر من الأمور إنما هو جامعة المنفعة، ولأن سائر الجامعات لا يتخذها القائمون بهذا الأمر إلا وسيلة للاجتماع، لم تعد تغرنا الدعوة باسم الدين (!) أو اللغة أو الوطن لعمل من الأعمال، وإنما ننظر إلى الباعث الحقيقي عليها، فإذا وجدنا فيه مصلحة حقيقية لنا أو لذوينا تساوي المنفعة التي سيحرزها الداعون إلى ذلك الفعل وافقناهم). أقول: لقد آثرت أن أنقل كلامه في التهوين من موضوع الجامعة الإسلامية الذي طرحه السلطان عبد الحميد ونادى به، لا لأهميته، ولكن لأريك كيف تكلّف الرجل شططاً وكيف أنه يحاول بطول مقاله أن يضلل الناس ويصل بهم إلى أن مشروع الجامعة الإسلامية الذي ينادي به عبد الحميد إنما هو لمنفعته الشخصية ولمصلحة العرش والسلطة!. وصفوة القول أَنّه ساهم في كتابه (الانقلاب العثماني) وغيره من مؤلفاته التي تناول فيها التاريخ العثماني بترويج العديد من الأكاذيب كنوع من الدسّ؛ للإساءة لسمعة عبد الحميد والخلافة الإسلامية. ومن هؤلاء: أنور باشا (1881م- 1922م) أحد أبرز قادة الاتحاد التَّرقِّي (وما أدراك ما الاتحاد والتَّرقِّي!). تولى وزارة الحربية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى ودخل الحرب مع ألمانيا. وكان طوراني النزعة. ندم كثيراً على إفساحه ليهود الدُّونمة الماسونية التي أطاحت بالاتحاديين بعد معاونتهم للإطاحة بالسلطان عبد الحميد. أقول: التدبير من الشخصيات والمؤسّسات بل والدوّل، كان في عهد عبد الحميد، ولكن إذا كان الطعن في أتقى سلطان في الفترة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، فكيف بغيره ممن عندهم أخطاء عظيمة في حق الأمة وحسابهم على الله، ومع ذلك لم يحظ سلطان مغمور من سلاطين آل عثمان بما حظي به السلطان البطل عبد الحميد من الطعن في شخصه وسيرته. ومن هؤلاء أحمد رضا بك مؤسّس جمعية (تركيا الفتاة) وواضع لائحتها الإصلاحية! الذي أرسل إليه السلطان عبد الحميد الثاني مساعدات لتأمين معيشته في منفاه الاختياري بباريس؛ لئلا تضطره الحاجة لمعونة الفرنسيين. لعب دوراً خطيراً في تقويض دولة الخلافة، رغم الرعاية التي خصّه بها السلطان عبد الحميد حتى حين القبض على السلطان عبد الحميد في حادث 31 مارس. ومن هؤلاء سعيد باشا (1838م- 1914م) وهو صدر أعظم أسبق في الدولة العثمانية وأحد الاتحاديين. تنقَّل في عدة وظائف في الدولة العثمانية منها مدير المطبعة العامرة (مطبعة الدولة) باستانبول، ومدير جريدة (تقويم وقائع). عُين في عدة وظائف أكبر بعد تولّى عبد الحميد السلطة، منها باشكاتب المابين، وهو عقدة الوصل بين القصر والحكومة، وناظراً للداخلية. نُفي إلى ولاية (خدا وندكار) بعد محاولة إعادة السلطان مراد الخامس محل عبد الحميد الذي كان يقلقهم. لما صَدر العفو عنه عمل في عدة مناصب منها ناظر العدلية، ومنصب الصدر الأعظم، كما انتُخب رئيساً للمجلس الوطني بدخول جيش الحركة إستانبول، وقيام حادث 31 مارس، وأصبح سعيد باشا عام 1911م صدراً أعظم لحكومة الاتحاد والتَّرقِّي. بعد فترة اعتقله الإنكليز ونفوه إلى مالطة بعد احتلالهم لاستانبول. ومن هؤلاء ضياء باشا كوك ألب الذي يعتبر أبو القومية التركية، وهو الدماغ المفكّر لها. وُلد في ديار بكر عام 1876م. عمل وهو في السابعة عشرة من عمره موظفاً في أمانة الصدارة العظمى، كما نظم الشعر بلغته التركية، وباللغة الفارسية، ونهج في نظم أشعاره - في بدء حياته الأوروبية - على المنهج السلفي. عمل في حقل التعليم في بداية شبابه فتأثر بمدير معهده اليهودي ذي الميول المتطرفة، كما تأثر ببعض الأشخاص الملحدين، وبأحد أساتذة اليونان. سافر إلى إستانبول عام 1315ه ثم انتسب إلى كلية الطب البيطري وكان عمله بالسياسة أكثر من التعليم، لذا انتخب عضواً في جمعية الاتحاد والتَّرقِّي، وهو أحد منظري جمعية (الشبيبة العثمانية) السرية الخطيرة التي تقدم الكلام عنها. وهو أحد دعاة الطورانية فهو من مفكّريها رغم أنه من أصل كردي، ويعتبر بحق من الذين ساهموا بدور خطير في تقويض الخلافة. ومن هؤلاء محمد توفيق فكرت (1868م- 1915م) وهوشاعر كبير، ومجدِّد في الأدب التركي. ولد عام 1868م. وجد العون في أوائل حياته من السلطان عبد الحميد الثاني. عُرف بالنظرة المتشائمة في كثير من أشعاره، كما عُرف عنه الإلحاد. وقد ظهر كشاعر ملحد ورائد لجماعة (ثروت فنون) التي تعرّف عليها عام 1896م. جمع ديوانه عام 1890م بعنوان (رباب شكسته) أي الرّبابة المكسورة. دعا لتتريك اللغة، والبعد عن تأثير اللغة العربية والفارسية. نظم قصيدة ممجداً التآمر لاغتيال عبد الحميد، رغم احتضانه له في مطلع حياته الأدبية، إلاّ أنّ دراسته في أمريكا جنت عليه، حتى لقد أصبح فيما بعد من كبار رجال الدين المسيحي في أمريكا!!!. كتب في ابنه أشعاراً كثيرة، وابنه كان قد تلقّى تعليماً عالياً في أوروبا وأمريكا وتنصّر (!) وأصبح من كبار رجال الدين المسيحي في أمريكا!!! (ومن أشبه أباه فما ظلم). مات الشاعر الكبير(!) محمد توفيق فكرت عام 1915م. ومن هؤلاء الذين حابوا دولة الخلافة نامق كمال الذي ولد عام 1840م. ويلقب بشاعر الحرية. وكان كاتباً وشاعراً، عُين في قلم الترجمة عام 1863م. كتب في جريدة (تصوير أفكار) التي كان يصدرها الكاتب التُّركي (شناسي) رائد التجريد في أدب الأتراك، واتجاهه نحو الأخذ عن الآداب الغربية. تولّى نامق كمال إدارة (تصوير أفكار) بعد سفر صاحبها شناسي إلى أوروبا. التحق نامق كمال بجماعة (تركيا الفتاة) أو (العثمانيون الجدد) وهرب مع ضياء باشا إلى أوروبا، حيث اشترك في إدارة جريدة (حريت) في لندن عام 1868م. سُمح له بعد ذلك بالعودة إلى إستانبول، فأصدر مسرحية (الوطن) ثم أُبعد إلى قبرص عام 1873م، وعاد إلى إستانبول بعد إعلان المشروطية الأولى. كتب المقالة والشعر والمسرحيَّة والرواية، وكان أول من تحرّر في شعره من العروض، متأثراً في ذلك بالآداب الأوروبية. من أبرز أعماله مسرحيات: جلال الدين خوارزم شاه، الوطن، عاكف بك. وروايات: انتباه، مغامرة على بك، جزمي. ودراسات بارقة الظفر، السلطان سليم الأول، محاضرة سلسترة. يعتبر نامق كمال أول من بذر بذور القومية في الأتراك. ومن هؤلاء لطفي السيَّد. كان لطفي السَّيِّد ممن حاربوا الخلافة الإسلامية والسلطان عبد الحميد وفكرة الجامعة الإسلامية، وكان يتجاهل وجود أي أثر لها في مصر، وكان يرى أن النفعية هي القاعدة للأعمال السياسية. وكان يقول: (الجامعة الإسلامية لا أثر لها في مصر، ولا نظن أن لها وجوداً في غير مصر) [(الجريدة) 7 مايو 1907م]. ويقول: (إن فكرة الجامعة الإسلامية قد تجول أحياناً بخواطر بعض الناس الذين لا يزالون بعيداً عن الاشتغال بالسياسة والنظر في الأمور العامة بشيء من التدقيق... ولكن تلك الفكرة لم تخرج عن حيز الخواطر التي تظهر وتختفي تبعاً للحوادث). ويقول: (كلما رأى المصريون اتفاق رجال السياسة الأوروبية على شيء يضر بمصلحة مصر أو يبعد ميعاد استقلالها، أو يفيد استمرار الاحتلال إلى الأبد، قارنوا بين مصر وغيرها من الولايات). وكان دائماً يؤكد أن الجامعة الإسلامية ليست موجودة وجوداً حقيقياً، كما أنها ليست مقصداً من المقاصد التي يسعى المسلمون لتحقيقها!. ويرى لطفي السَّيِّد أن (الدين ليس بكافٍ وحده ليجمع بين الأمم... إذ لا يجمع بين الناس سوى المنافع، فقد علمنا التاريخ وطبائع البشر، إنه لا شيء يجمع بين الناس إلاّ المنافع، فإذا تناقضت المنافع بين قبيلتين استحال عليهما أن يجتمعا لمجرد قرابة في الجنسية أو وحدة في الدين، وإن أبلغ مثال على ذلك هو انشقاق المسلمين على أنفسهم في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) مما هو مشهور ومأثور) . أقول: إنك تلاحظ أن (لطفي السيد) يهوّن من مشروع الجامعة الإسلامية التي نادى بها السلطان عبد الحميد الثاني في فترة كان العالم الإسلامي يحتاج لمثل ذلك، بنفس الاسلوب الذي استخدمه أخوه جورجي زيدان. وعندما انتشر في مصر الدعوة للاكتتاب لصالح إنشاء أسطول عثماني، بث لطفي السَّيِّد بمقال إلى الجريدة - وكان وقتها في زيارة لأوروبا - هاجم فيه الدعوة لهذا الاكتتاب وقال إن مصر أحق بكل دعم: (إنّ الغرض من هذا التبرّع الدفاع عن الأمّة العثمانية وتقويتها، فإن تقوية مصر والدفاع عنها أوجب على المصري من كل واجب يميّزه، وأما إذا كانت قيمة المساعدة أدبية صرفة معناها ارتباط الأمة المصرية بالأمّة العثمانية، فذلك ألغ في العبث من المساعدة الحقيقية المادية) (!). وعندما وقعت الحرب الإيطالية الطرابلسية عام 1911م وقادت صحف الحزب الوطني الدعوة إلى مساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد الإيطاليين في ليبيا، كتب لطفي السَّيِّد مجموعة من المقالات بعنوان(سياسة المنافع لا سياسة العواطف) اعترض فيها على هذه (الحركة التي ابتدأت بفكرة الجهاد الديني والتي هي من أكبر الأخطار على مصر، لأن أي حركة من حركات التَّشيُّع أو إظهار (الحزبية الدينية) من شأنه أن يزيد مركز مصر ارتباكاً على ارتباك... فالمصريون لا يجهلون أنهم أحق الناس بالمساعدة من كل وجه، فمن العبث أن يكون المرء غريقاً ثم هو يتشبث بمساعدة غيره، مساعدة لا تنفع الغير، ولكنها تضرّ به ضرراً بليغاً). ويرى لطفي السيد (أنه يجب على المصريين لمصلحة بلادهم أن لا يجعلوا الدين- في هذه الظروف- قاعدة لأعمالهم السياسية، بل يجب عليهم أن ينفوا عنهم اليوم كما نفوا عنهم في الماضي كل تهمة من تهم التعصّب الديني.. )!. ويردّ لطفي السيد على كُتّاب (الحزب الوطني) و(كان أستاذهم آنذاك البطل المجاهد مصطفى كامل رحمه الله) فيقول: الذين يدعون إلى الجهاد الديني والخطباء الذين يخطبون بما لا يفيد، فما بالهم يجرون بعيداً إلى طرابلس... وطرابلس تحتلها دولة مسيحية- كما إن مصر تحتلها دولة مسيحية، فلماذا يختارون أن تكون طرابلس هي مسرح الحرب الدينية ومصر أقرب ما يكون... أقول: وقد تولّى المجاهد العظيم الشيخ عبد العزيز جاويش- آنذاك- الردّ على هذا المقال وسيأتي ذلك في الكلام عنه. ثم يلخّص لطفي السيد موقفه من المسألة كلها فيقول: نظريتنا هي تقوية شخصيتنا، واثبات شعور الحرية في نفوسنا والالتفات إلى داخليتنا وإصلاحها. وبذلك نكون قد ساعدنا أنفسنا قبل أن نتشدّق بمساعدة لا تفيد، ولكن تضر (!) بنا من الوجهة السياسية... وبالرغم من وطأة الاحتلال البريطاني وتأثيرها على حرية الرأي، فإن الكتّاب والمفكرّين كانوا ينادون بالإسلام وبالجامعة الإسلامية. ولعلّه من اللاّئق هنا أن نذكر طرفاً مما ردّ به حامل لواء الدعوة لهذا الجهاد الديني الذي يقلق لطفي السيد، وهو المجاهد الشيخ عبد العزيز جاويش إذ وجّه إليه خطاباً مفتوحاً في مقال له قال فيه: (أي عدو الإسلام، نقمت منّا أن ندعو المسلمين لنجدة المسلمين ونستنفر الموحدّين؟! فماذا كنت تريد؟ أأردت أن نتقدّم إلى البابا بيد مبسوطة ورؤس خاشعة وأبصار مغموضة، وأدعية ضارعة أن يرفع عنّا بلاء أمّة تقول بصليبه وتدين يمذهبه، إذن لقد ضل عقلك، وخطل رأيك، فلقد نشر إمام النصرانية ذلك المنشور، الذي بارك فيه الحملة الإيطالية على طرابلس، ثم دعا فيه أهل المسيح باسم المسيح وشفاعة المسيحيين أن يستبيحوا المحارم، وألاّ يكون فيهم غير ظالم... ذلك قول خليفة المسيح في الأرض وممثل المسيحية في العوالم البشرية). وقال له في نفس المقال والخطاب المفتوح: (... من الذي دعا باسم الدين؟ انحن مسلمو مصر أم بابا روما؟... خبرّنا ماذا كنت تريد من مخالفتك الإجماع ومناهضتك أهل البر والمروءة؟؟ أأردت أنْ يضع الفرنجة على رأسك الأكاليل؟ أم أردت أن تجهر بمعاداتك العالم الإسلامي لتطابق بين العمل والعقيدة.. لقد ضلّت- والله- مذاهبك، وشاهت غاياتك ومآربك.. إن واجبي نحو ديني ووطني هو كل شيء في حياتي، أما أطفالي فلهم الله. أي عدو نفسه.. تزعم أن لك حزباً من ذوي التفكير والرأي، فهل هذا كل آراء حزبك ومبلغ تفكيره، إذن فلتُعَزَّ مصر في شيوخ من أبنائها راهقوا الثمانين من عمرهم فهم زمرتك الطائشة الرعناء كالكرة بين أقدام اللاعبين).