من صور التآمر على الدولة العثمانية لإسقاط الخلافة الإسلامية، الدعوة للقومية العربية، ويمكن القول أن دور العرب في هدم الخلافة تمثل في عنصرين بارزين هما: التآمر مع فرنسا ضد العثمانيين. الجمعيات السِّرِّيَّة.
أولاً: التآمر مع فرنسا ضد الدولة العثمانية (دولة الخلافة): كان اتصال العرب بفرنسا - وهي الدولة القوية آنذاك - مبنياً على أساس هو استقلال العرب عن الدولة العثمانية، وإِقامة خلافة عربية مقرها مكة المكرّمة، ولقد مثّل (المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913م) رأس هذا الاتصال.
وتبدأ قصة هذا المؤتمر حيث كان خمسة من الشباب العرب يدرسون في مدارس باريس العالية، اتصل هؤلاء الشباب الخمسة بآخرين من شباب العرب ورجالاتهم في باريس وفاتحوهم بفكرة الاستقلال عن الدولة العثمانية، وذلك لمعاناة العرب في ظل دخولهم تحت سلطان الخلافة العثمانية (!) ولتمكين العرب من بناء دولة حديثة مستقلة، فلقوا تحبيذاً عظيماً، فكوَّنوا تكتّلاً يزيد على ثلاثمائة، معظمهم من الشام، وتم الاتفاق على تأليف لجنة تحضيرية مهمتهم الاتصال بالشخصيات والهيئات العربية في مختلف الأقطار، وتهيئة أسباب عقد المؤتمر وزمنه وجدول أعماله، وارتبطوا مبدئياً بحزب اللامركزية في مصر بصفة رسمية، وأرسلوا إِلى الحزب يعرضون عليه فكرة المؤتمر والحافز إِلى ذلك، فوافق، وكانت أبحاث المؤتمر هي: 1- الحياة الوطنية ومناهضة الاحتلال.
2- حقوق العرب في المملكة العثمانية.
3- المهاجرون من سورية.
وانعقد المؤتمر فكان له دوري عظيم، أحدث ضجّة قوية داخلية وخارجية، أثرت بالحكومة الاتحادية تأثيراً بالغاً وجعلتها تسعى لعقد وفاق بين العرب والترك الذين عملوا للنزعة الطورانية التي ألّبت العرب ضدهم.
ثانياً: الجمعيات العربية السرية: تعدّدت الجمعيات العربية السرية، مثل جمعية النهضة اللبنانية وجمعية العربية الفتاة وجمعية العهد وجمعية بيروت الإِصلاحية، وحزب اللامركزية وجمعية الحلقات الذهبية ولجنة تحرير سورية ولبنان، وجمعية سورية الفتاة والجمعية العلمية السورية، وقد تقدم الكلام عن بعضها بإِيجاز.
وتعتبر جمعية العربية الفتاة بمثابة الأم لكل تلك الجمعيات والأحزاب بما فيها جمعية العهد وحزب اللامركزية.
كان جميع أعضاء هذه الجمعيّات ماسونيين، ولم تكن الجمعيات تقبل في صفوفها إِلا من كان ماسونياً!...
وكانت الجمعية اللبنانية جميع أعضائها من المسيحيين الذين توزعوا فيما بعد لتأسيس وقيادة معظم الجمعيات والأحزاب السياسية والعربية الهادفة لتقويض الخلافة العثمانية.
لعب مؤسِّسُو هذه الجمعيات دوراً خطيراً في البلاد العربية عقب انهيار الخلافة الإِسلامية، فقد استعانت سلطات الانتداب البريطاني والفرنسي بأولئك الماسونيين الذين تربّعوا على كراسي الحكم والوزراء، كما عمد الاستعمار إِلى تسليط هؤلاء (الفلاسفة) لغسيل أدمغة الأمة بأدبهم وشعرهم وقصصهم ومسرحياتهم ورواياتهم وأقلامهم، فلم يتركوا فرصة لم يجرحوا فيها الخلافة، أو ينفذوا لطعن الإِسلام تحت ستار الإِصلاح والتجديد والتحديث والتطوير.
وعملت يد الاستعمار على إِغراء هؤلاء الأعضاء في كل بلد بالحكم الذاتي كي يتم فصلهم جميعاً وبالتدريج - عن دولة الخلافة التي يهابونها (أي الاستعمار) ويهابون وحدتها تحت راية واحدة.
وأما النوع الثالث من أنواع التآمر على دولة الخلافة، فهو التآمر الشخصي على مستوى أفراد لهم تأثير فكري أو سياسي ضد الدولة العثمانية (دولة الخلافة)...
وفي هذا العنصر الثالث من أسباب ضعف الدولة العثمانية وسقوط الخلافة الإِسلامية، نتناول 20 شخصية مارست التآمر ضد دولة الخلافة: تيودور هرتزل (1860م- 1904م): وهو يهودي بولندي، وُلد في بودابست، عام 1860م وأقام في فيينا، واشتغل في التأليف المسرحي والصحافة، وتأثر بقضية الجاسوس الفرنسي اليهودي (دريفوس) وألّف كتابه (ديريود نيشتات) يعني الدولة اليهودية وذلك عام 1896م وترأس أول مؤتمر صهيوني في بازل بسويسرا في 28 أغسطس عام 1897م.
والمعروف أن الصهيونية بقيت مفتقرة إلى التخطيط حتى تمكّن هرتزل من عقد ذلك المؤتمر الذي حضره 204 أعضاء من سائر الجمعيات الصهيونية في مختلف أرجاء العالم.
ويعتبر تيودور هرتزل هو أبو الصهيونية، والذي كان من أكبر أحلامه إقامة دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
وقد كان حلم اليهود القديم في إقامة وطن قومي لهم لجمعهم بدلاً من تشرّدهم في الأرض، وأخيراً وقع الاختيار على فلسطين لتكون وطناً لهم، ظل هذا الحلم بلا تنفيذ حتى جاء تيودور هرتزل فعقد عدة مؤتمرات من سائر الجمعيات الصهيونية في مختلف أنحاء العالم، وانعقدت المؤتمرات الكثيرة - على النحو الذي تقدّم ذكره - على هدف واحد هو إقامة دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
ولكن السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تصدّى لهذه المحاولات المتكرّرة بنظره الثاقب؛ فلم يكن غائباً عن علمه ما تخطّط له الصهيونية، ولعل الموقف الذي وقفه من فلسطين والصمود الذي أبداه تجاه جميع المحاولات التي بذلها زعماء الصهيونية العالمية يبرز دور السلطان عبد الحميد في الحفاظ على وحدة الأراضي الإسلامية وعدم التفريط في شبر واحد منها، رغم المتاعب السياسية والمالية والعسكرية التي كانت تعاني منها الدولة العثمانية إِبّان تلك الفترة والتي استغلتها الصهيونية أبشع استغلال لتنفيذ وعيدها له، بإسقاطه عن عرشه عندما لم يتجاوب مع الوعود والإغراءات اليهودية.
حاول تيودور هرتزل مقابلة السلطان عبد الحميد لاستدراجه لتحقيق مآرب الصهيونية، وتكرّرت المحاولات منه ومن غيره، واختلفت الوسائل والأساليب، وعلى كل حال لم تصل الصهيونية إلى ما تريد إلا بعد أن نجحت في مخطّطها لإبعاد السلطان عبد الحميد الثاني عن عرش الخلافة العثمانية، وكان ذلك بعد موت هرتزل.
فلقد عرض اليهود - كما رسم هرتزل - عروضاً مغرية للسلطان عبد الحميد، وكانت العروض عبارة عن: 1- الوفاء بجميع الديون المستحقة على الدولة العثمانية.
2- بناء أسطول لحماية الدولة! .
3- تقديم قروض بخمسة وثلاثين مليون ليرة ذهبية دون فائدة لإنعاش مالية الدولة وإنماء مواردها.
كل ذلك مقابل: 1- إباحة دخول اليهود إلى فلسطين في أي يوم من أيام السنة للزيارة (وكان السلطان عبد الحميد قد حدّد لهم وقتاً معيناً ثم يخرجون).
2- السماح لليهود بإنشاء مستعمرة! ينزل بها أبناء جلدتهم قرب القدس أثناء الزيارة.
وكان ردّ السلطان عبد الحميد على مطالبهم واضحاً، إذ ردّ قائلاً لمن نقل إليه هذه العروض اليهودية: (وكان هو تحسين باشا): (قل لهؤلاء اليهود الوقحين: إن ديون الدولة ليست عاراً عليها، لأن غيرها من الدول كفرنسا مدينة، لا يضرها ذلك، وأن بيت المقدس الشريف افتتحه للإسلام أول مرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولست مستعداً أن أتحمّل تاريخياً وصمة بيع الأراضي المقدّسة لليهود وخيانة الأمانة التي كلّفني المسلمون بالحفظ عليها، ليحتفظ اليهود بأموالهم، فالدولة العليّة لا يمكن أن تحتمي وراء حصون بُنيت بأموال أعداء الإسلام، وأخبرهم أن يخرجوا وألا يحاولوا مقابلتي أو الدخول لهذا المكان بعدها).
كان تيودور هرتزل في ذلك الوقت رئيس تحرير القسم الأدبي في جريدة (نيوفري) في فيينا، فأرسل المسيو كريسبي (صحفي إنجليزي) ليسعى له في مقابلة السلطان عبد الحميد، وصرّح له عن مدى حزنه لما أصابه من (إمبراطور ألمانيا غليوم) والبرنس (دوبيلوف) لما خدعناه عندما رافقهما إلى فلسطين، وكان (دوبيلوف) وعده أن يقدمه للسلطان عبد الحميد فلم يف بوعده.
ظل روّاد الصهيونية جميعاً متّفقين على فكرة الاستيلاء على الأرض واستيطان فلسطين لليهود، ورسم هرتزل سياسة الاستيطان الصهيوني المبرمج، وكان يقول ما ترجمته: (يتوجب علينا أن ننتزع الملكية الخاصة لأراضي فلسطين من أيدي ملاّكها، وينبغي أن يكون ذلك في لطف وفي منتهى السِّرِّيَّة والتكتّم والحذر الشديد، وعلينا أن نقوم بتهجير السُكَّان المعدمين – الفلسطينيين - عبر الحدود بعد أن نَسُدَّ أمامهم كل مجال للعمل في بلادنا- فلسطين- بينما نحاول استخدامهم وتشغيلهم في بلدان العبور).
ولما عرض هرتزل أُطروحاته على السلطان عبد الحميد عن طريق وفد يعملون كلهم للصهيونية، ردّ عليهم السلطان عبد الحميد قائلاً لهم: (انصحوا الدكتور هرتزل بألاّ يتخذ خطوات جديّة في هذا الموضوع، فإني لا أستطيع أن أتخلّى عن شبرٍ واحدٍ من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني.. بل ملك الأمّة الإسلامية.. لقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه.. فليحتفظ اليهود بملايينهم.. وإذا مُزِّقت دولة الخلافة يوماً، فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي، فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من دولة الخلافة، وهذا أمر لا يكون، إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة). أقول: عمل اليهود على تقويض دولة الخلافة ليلاً ونهاراً حتى أخذوا فلسطين بلا ثمن، وما قول السلطان عبد الحميد لهم، إلا كقول سيدنا يعقوب عليه السلام لأبنائه: (قَالَ إِنّىِ لَيَحزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وأَخَافُ أَن يأْكُلَهُ الذِئبُ وأَنتُم عَنهُ غَافِلُونَ) [يوسف: 13].
مات هرتزل بعد أن حضر آخر مؤتمر، وكان المؤتمر السادس وكان في أغسطس 1903م وكانت وفاته عام 1904م.
ومن الأشخاص الذين تآمرو على دولة الخلافة عوني باشا (1820- 1876م) واسمه حسين عوني، تخرّج من الحربية عام 1848م برتبة نقيب أركان حرب.
عمل فترة مدرساً بالمدرسة الحربية، واشترك في حرب القرم، وعمل أيضاً ناظراً للمدرسة الحربية السلطانية، كما عمل قائداً للجيش، لكنه عُزل من هذا المنصب ونُفي إلى (أسبرطه) عام 1871م لمدة أحد عشر شهراً، ثم صدر عفو عنه، فعُيِّن والياً على آيدين، وتولّى نظارة الحربية أيضاً، ثم عُيّن قائداً عاماً للجيش مرة ثانية عام 1873م.
وفي عام 1874م عُيّن صدراً أعظم (أي رئيساً للوزراء) ولكنه عُزل بعد أربعة أشهر من تولّيه هذا المنصب، وعُيّن بعدها والياً على أزمير ثم على بورصة.
اشترك في مؤامرة عزل السلطان عبد العزيز (عم السلطان عبد الحميد الثاني) وتعيين مراد الخامس محله، وظل مدة حكم مراد القصيرة قائداً عاماً للجيش.
كان عوني باشا رجلاً حقوداً شديد الكُره لدولة الخلافة ولسلاطين آل عثمان، ونكتفي في هذا المجال بما كتبه عنه السلطان عبد الحميد في مذكراته، كتب يقول: (كان المرحوم عمي (عبد العزيز) وقوراً، وكان كريم الظن بكل إنسان، فقد عفا عن رجل حقود مثل عوني باشا بعد فترة قليلة وعيّنه سر عسكر).
تم اغتياله في حادث اقتحام جركس حسن (الضابط القريب والنصير للسلطان عبد العزيز) لمقر قيادة الوزراء وذلك عام 1876م .
ومن الأشخاص الذين تآمرو على دولة الخلافة مدحت باشا (1822- 1885م) واسمه أحمد شفيق، وقد كانت دراسته الأولى شرقية، فتعلَّم العربية والفارسية وأجادها، وتوظف في قلم الديوان في الباب العالي، وبدافع من رشيد باشا (صاحب فكرة حركة التجديد في الدراسة على النمط الأوروبي) اتخذ فرماني التنظيمات بداية شاملة لهذه الحركة التغريبية.
تعلّم اللغة الفرنسية فحذقها، وعُيّن عام 1860م والياً على(نيش) فأظهر كفاية فيها، ثم عُيّن والياً على الطونة(يعني البوسنة والهرسك) عام 1864م لمدة ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى إستانبول ليشغل منصب رئيس شورى الدولة لمدة عام واحد، نُقل بعدها والياً على بغداد.
ولخلاف بينه وبين الصدر الأعظم وقتها (محمود نديم باشا) ترك مدحت بغداد، وصدر أمر بتعيينه والياً على(أدرنة) .
ولكنه في مقابلة له مع السلطان عبد العزيز تمكن من إقناعه بعزل (محمود نديم) من الصدارة، ثم أقنعه في نفس المقابلة أنه جدير بهذا المنصب، فتم تعيينه صدراً أعظم لأول مرة عام 1872م، ولم يبق في هذا المنصب سوى شهرين ونصف.
اعتبره أعضاء تركيا الفتاة (العثمانيون الجدد) قائداً طبيعياً لفكرهم. وقد دبّر مدحت باشا مع كل من رشدي باشا وحسين عوني رئيس دار الشورى وسليمان باشا قائد الحربية لعزل السلطان عبد العزيز، فعزلوه ثم عينوا مكانه السلطان مراد الخامس، ولكن لم يستمر مراد الخامس في السُّلطة إلا 93 يوماً، فقد أصابه الجنون، فعزله مدحت ورفاقه من السلطة وتولى السلطان عبد الحميد الثاني بعده، فأتى بمدحت باشا صدراً عظم للمرة الثانية.
وقد اصطدم مدحت باشا مراراً مع السلطان عبد الحميد بسبب اندفاعه وسلوكه الشخصي وتحدّيه لسلطة الخليفة، مما دفع السلطان عبد الحميد إلى السعي لنفيه وإبعاده تقديراً لخطورته.
يقول السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته: (ولم يكن مدحت باشا هو الصدر الأعظم وقت توليتي الخلافة، وقد عيّنته فوراً في الصدارة لأنه كان محل ثقة واحترام الرأي العام، ولأن الموقف كان يحمل في طياته حساسية وخطراً غير عادي).
ويقول: (وجدته ينصِّب من نفسه - ومنذ اليوم الأول- آمراً عليّ ووصيّاً، وكان في معاملته بعيداً عن المشروطية وأقرب إلى الاستبداد) .
كان مدحت باشا مغروراً مخادعاً، فقد كان يوهم السلطان عبد الحميد أن الأمّة تحبّه حُباً شديداً (أي مدحت) وأنه لو عزله عن منصب الصدارة العظمى فستقوم في البلاد ثورة ضخمة وأنه من الممكن أن يؤدي ذلك إلى خلع السلطان أو إعدامه!.
مع أن الحقيقة التي حصلت عندما عزله السلطان عبد الحميد على العكس تماماً؛ يقول السلطان عبد الحميد عن ذلك في مذكراته: (.. والذي حدث عندما أبعدته إلى أوروبا أن أحداً لم يفتح فمه، وهنأني كثير من الوزراء ورجال الدولة، ونظم الشعراء القصائد في مدحي، وهاجموه أيضا بالقصائد ونشروها في الصحف والكتب...)!.
وكان مدحت باشا معجباً إعجاباً شديداً بإنجلترا، وبالنظام الديمقراطي الإنجليزي، وكان يتصور أن الدولة العثمانية يمكنها تفادي كل نقص أَلمّ بها إذا طبقت النظام الإنجليزي، وكانت إنجلترا- طبيعياً- تؤيد مدحت وتناصره.
كان مدحت يرى أن تقليص نفوذ السلطان العثماني وسلطة الأسرة العثمانية لا يتم إلا بإعلان القانون الأساسي، وكان يريد من إنجلترا التكفُّل بحمايتها لهذا القانون الأساسي، فأرسل أستاذه الفكري(أوديان أفندي) – وهو قانوني أرمني- إلى لندن يطلب من إنجلترا تعهدها بكفالة القانون الأساسي وحمايته، ولمَّا لم يستطع(أوديان) الحصول على هذه الحماية طلب مدحت من مؤتمر الترسانة الذي انعقد في إستانبول، وحضرته الدول الأوروبية التصديق على القانون الأساسي وتدخّلها إذا ما أُلغي.
لم يكن مدحت باشا بالرجل السياسي المتسع الذكاء (كما يرى ذلك بعض المؤرخين له) ولم يكن برجل الدولة المجرّب الخبير، ولم يستطع القيام بواجبه في إدارة الدولة مركزياً، كما يرى البعض الآخر أنه رغم كونه والياً ناجحاً، فقد كان صدراً أعظم قليل الخبرة، وحتى أثناء ولايته فقد كان عليه مآخذ؛ فعندما كان والياً على البوسنة والهرسك أمر بإضافة الصليب على العلم العثماني ذي الهلال والنجمة، بحيث يكون هذا العلم علم المنطقة المحليّ، وفي أثناء صدارته صَدَر فرمان حق الاقتراض الخارجي لخديوي مصر، وكان لهذا الفرمان ونتائجه عواقب وخيمة على مصر.
ولكي تعرف حجم البغض الذي كان يخفيه هذا الرجل في صدره لدولة الخلافة وللخليفة اليقظ المحافظ على الشريعة السلطان عبد الحميد الثاني فاقرأ وصيته التي كتبها يوصي بها رجال الاتحاد والترقِّي، كتب يقول لهم: (علِّموا الأمّة؛ رَقّوا العامة، إن الجهل سبب كل علة، ولا أعني التعليم المدرسي كالصرف والنحو والحساب، ولا الطب ولا الهندسة والقضاء (!) وإنما أعني تربية الشباب وتدريبهم على الحرية الشخصية (!) واستقلال الفكر (!) وهذا يقتضي تعليم المرأة، إنها روح الأمّة، فإذا ارتقت وتثقفت نشأ أبناؤها على مثالها، فالأمّة التي نساؤها مثقفات راقيات ينشأ أبناؤها أهلاً للحرية، ولو لم يتعلموا في مدارس التربية، وهذه لا تثبت إلاّ إذا غُرست في الصغر، فأولى وصاياي ترقية الشعب وتدريبه على روح الحرية، ولو كان لهذه الأمّة التعسة شيء من ذلك الآن لما رضيت بحلّ مجلس (المبعوثان) وقتل الدستور، وهي نائمة لا ترفع صوتاً ولا تجرد سيفاً.
احذروا الشقاق بين العناصر والأديان، إن الدستور العثماني يحتاج إلى هذه الوصيّة أكثر منه إلى سائر الوصايا، ذلك لاختلاف العناصر والمذاهب في بلادنا، دعوا التعصب الجنسي أو المذهبي واتحدوا في العثمانية(!) لا تذكروا الإسلام(!) والنصرانية واليهودية (!!) ولا التركي والعربي والرومي والبلغاري والألباني، غضوا الطرف عن هذه الاختلافات لأنها أكبر سلاح يحاربكم به الأعداء الظالمون، هم يفرّقون بين العناصر والمذاهب ليستتب الأمر لاستبدادهم (وأترك القارىء هنا ليفهم بنفسه من يقصد مدحت هنا بالظالمين) ويأمنوا اجتماع الأيدي على مقاومتهم، كلكم مظلوم وكلكم موتور، إن الظلم لا يخص طائفة دون أخرى ولا مذهباً دون آخر فاتحدوا.
اجعلوا معولكم في الدفاع عن الجندية، ألِّفوا الجمعيات السرية، وأدخلوا الجند فيها، الجُند هم الأمّة وبأسيافهم عوّلوا على الضباط، فإن العسكر يجعلهم الجهل أتبتعاً لكل ناعق، أما الضابط المتعلم ذو الفضيلة، فإنه سيف قاطع، اجعلوا معولكم على الضباط المتعلمين، فهم وحدهم يدركون معنى الحرية، وهم وحدهم يحملونها بأسيافهم يُحمى الدستور وتستقر الحرية، إن لم يكن الجند معكم فسعيكم في سبيل الحرية يذهب عبثاً، بالجند حاربنا هذا الطاغية (يقصد السلطان عبد الحميد الثاني!) ولو كانت الجندية معنا لفعلنا كما نشاء، لا تفلح أمة في طلب حق من حكومتها إن لم يكن الجند نصيرها، ويشترط أن يكون متعلماً مثقفاً (طبعاً علماً وثقافة على مذهب مدحت باشا).
أقول: لعلك تلحظ حجم ما يدعو إليه هذا الرجل من الخطورة وأخطر الأمر أنه داخل الصفوف، فكيف تثبت دولة يُخطط لها من داخلها ومن خارجها؟!
وهذه وصية خاصة أحرضكم على العمل بها، فقد كلفتني حياتي وحياة كثيرين أمثالي من الأحرار (!) إن الحر الصادق سريع التصديق، كثير الوثوق، وقد يجرّه وثوقه إلى الخطر، لأن الناس حوله على غير ذلك ولا سيما عبد الحميد! إذا وصلت وصيّتي إليكم وهو حي فأوصيكم أن لا تثقوا بأقواله ولو أقسم! فإنه كاذب! احذروا الوثوق به فإن الوثوق به جرّني إلى الموت.
لا تصدقوه ولو أقسم! وظهرت علامات الصدق في وجهه، فإنّ ذلك الوجه لا مثيل له من حيث التَّلون! إنّ فيه شيئاً لا أعرفه في سائر الوجوه، يوهمك نظره أنه صادق وما هو كذلك، له قدرة غريبة على إقناع مخاطبه، وقد يتظاهر بالبكاء ندماً وأسفاً وهو ينوي غير ما يقول فاحذروه!.
أقول: صحيح أن السلطان عبد الحميد رحمه الله كان إذا خاطب أحداً تأثر المستمع جداً بحديثه، لما حباه الله من حُسن المنطق وقسمات الصدق التي كانت تعلوا وجهه إلى آخر يوم في حياته.
بقيت وصيّة ربما تعجبون منها، فإن الحرية تقتضي العدل والرفق وحجب الدماء ولكنها لا تنال إلاّ بسفك الدماء، فاقتلوا الأفراد الذين يقفون في سبيل أغراضكم، لأن رجلاً واحداً شرّيراً، قد يكون وجوده سبباً في خراب أمة أو ضياع حقوقها، فإذا كان الحق لا يقتضي بقتله فالسياسة تقتضيه! افتكوا بالأشرار، اقتلوهم، وإذا كانت الجندية معكم فليس أهون عليكم من ذلك، كل من تأكدتم سعيه ضد الحرية والدستور فاقتلوه وأنا المسؤول عن ذنبكم بقتله (!) بمثل ذلك تحيون أمتكم، ولو أتيح لي أن أعرف ذلك من قبل كنتم الآن رافلين في بحبوحة الدستور، ولكن تلك سُنة الله في خلقه، يستفيد الأبناء من اختيار الآباء.
إذا أتيح لكم الفوز بالدستور فاحذروا أن تبقوا هذا الطاغية! على كرسي السلطة وإن ظهر لكم منه أنه تاب ورجع فإنه يظهر غير ما يضمر!.
لي وصيّة أخرى تتعلق بتوارث المُلك في الدولة العثمانية، إنّ طريقة التوارث الجارية إلى اليوم لا تخلو من الخطر على الدولة، إذ يكون ولي العهد شخصاً معيناً هو أكبر أبناء السلاطين سناً فقد يتفق أن يكون غير كُفء لإدارة أمور الدولة، فإذا أُعلن الدستور وصارت الحكومة العثمانية دستورية، أصبحت مقاليدها في أيدي النواب، فينبغي أن ينظروا في توارث الملك؛ إنه عظيم الأهمية إن لم يكن حان الانقلاب فبعده عند سنوح الفرصة، والذي أراه أن يبقى حق السيادة في آل عثمان يتوارثونها على أن يكون كل بالغ من أبنائهم مرشحاً لولاية العهد، وإنما يكون للأمة أو مجلس نوابها أن يختار منهم من يجد فيه الكفاءة لهذا المنصب، لا أنكر ما يعتور هذه الوصيّة من العقبات ولكنها لازمة. أخيراً أستودعكم الله، و أنا ذاهب لأموت في سبيل الدستور!). مدحت أقول: لعلك أدركت بأي عقلية يفكر هذا ال(مدحت باشا) ولذلك لا أبالغ إذا قلت إنه من أخطر الشخصيات التي أثرت في هدم الخلافة فكرياً وسياسياً، فلم يصل مصطفى كمال أتاتورك إلى ما فعله إلا بتخطيط مدحت ورفاقه دهراً.