كنت شاهدا على حوار دار بين اثنين من كبار رجالات الحركة الإسلامية فى التاريخ الحديث ينتميان إلى جيلين متقاربين إذ قال الأصغر للأكبر (هل انتهت الحركة الإسلامية يا أستاذ فلان؟) ... كان الوقت أواخر السبعينيات وكان الانتشار الكبير لفكر الإصلاح الاسلامى أخذ فى التطور والتمدد الى الدرجة التى أغنت صاحبنا عن الإجابة ..لم أنس السؤال ولم انس أطرافه وإذ سمحت الظروف بمعرفة لم كان هذا السؤال ؟ عرفت أن الأستاذ فلان كان قد قال لهم فى السجن(فى الخمسينيات) لقد انتهت الحركة الإسلامية ..وعليهم أن ينخرطوا فى المجال السياسى الجديد للدولة الناصرية.. لى ملاحظات كثيرة على تلك الفترة التاريخية الأصعب فى تاريخ مصر الحديث ..وقد بذلت جهد المقل فى معرفة وتتبع التطور الفكرى والحركى عبر مسار الخط الزمنى الممتد من نهاية عشرينيات القرن الماضى الى العشرية الأولى فى القرن الحالي .وخلصت إلى بعض الاستنتاجات منها أن مشروع الإصلاح الاسلامى الذى قدمه الأستاذ البنا فى الفترة الذهبية (1928-1948) لم يتم دراسته وفهمه على النحو الأمثل ..كون الأستاذ البنا بدأ من حيث انتهى الرواد الكبار لفكرة الإصلاح الاسلامى وأكمل فى مجال الإصلاح أهم خط من خطوطه وهو( التنظيم الشعبى ) ذلك أن الفكرة الإصلاحية كانت تدور فى محيط النخبة والعلماء تاركة مسافة واضحة بينها وبين العامة (عمودالدين وجماع المسلمين )وكان الدهر قد حال بين أهم رمزين من رموز الإصلاح (الافغانى وعبده) فرأى عبده أن القصة كلها تكمن فى التعليم ..على حين أكمل الافغانى خطه الثورى الذى انتهى به صريعا... جملة القول أن الرقم الأصعب فى المعادلة قد تم إضافته.. وبالفعل تكون التنظيم الشعبى الكبير وباتت فكرة الإصلاح والنهوض موضوع للحديث فى المقاهى والمصاطب بعد أن كانت حديث صالونات ومكاتب. يحدثنا الأستاذ فريد عبد الخالق عن شعور الأستاذ البنا (بثقل الحمولة) ودارت فى ذلك بينهما أحاديث مطولة وكان الأستاذ فريد من اقرب الناس إلى الأستاذ البنا عقلا وقلبا ..ورأى انه أخطأ خطأين فى ما مضى من مسير الحركة: أنه ابتعد أكثر مما ينبغى عن المفكرين والمثقفين .وأنه تسرع فى تكوين جهازا خاصا داخل الجماعة وقال ما معناه أن جهازا سريا مسلحا داخل تنظيم عقائدى لهو خطأ يجب تصحيحه فورا . سيقوم الأستاذ البنا باستدراك الخطأ الأول ويذهب بنفسه لكبار المفكرين والمثقفين يدعوهم إلى الصفوف الأولى من الجماعة وإذ تتعثر خطواته فى ذلك.. فيدفع بأبناء الجماعة إلى الصالونات والمنتديات الثقافية والفكرية وكانت قاهرة(ماقبل عبد الناصر) مليئة بها ..وسيؤدى ذلك بعدها الى شرخ داخل البناء التنظيمى الكبير بعد أن ينتقل الأستاذ البنا إلى رحاب ربه... ويتزامن كل ذلك مع بدأ تصحيح الخطأ الثاني وهو حل الجهاز الخاص الذى كان قد اخذ بالفعل طريقه السريع إلى الزلل ..فى الوقت الذى كانت تتشكل فيه خرائط ما بعد الحرب العالمية الثانية بما فيها خريطة الحكام والملوك ..ليتم بعدها الدفع بفكرة الانقلابات العسكرية .. ويحدث الصدام التاريخى بين الإسلاميين وبين السلطة العسكرية الجديدة ..فقائد الانقلاب العسكري الذى أتى على رأس سلطة حكم جديدة فى البلاد تحكمه فكره عميقة عن أهمية الدولة (المهيمنة) لا الدولة (الخادمة) وبالتالى يجب أن يخضع الجميع له كونه رمز الدولة والمواطن رقم واحد فيها .. سيحكى لنا الشيخ محمد الغزالى ويروى لنا الكثير ممن عاصر فترة التأسيس الأولى أن الأستاذ البنا كان قد عزم على أن يكون جهده الأكبر تجاه (الأمة) لا (الدولة) على أن يكون قريبا من الثانية غير بعيد عن تشكلها وقيامها .. وكان يرى أن قوة الأمة هى التى تحدد مجال الدولة .. وكانت تجربة حرب فلسطين واكتشاف البنا لحجم الخيانات من حوله جعلته يزداد اعتصاما بفكرة (الأمة) ودار بينه وبين الأستاذ فتحى رضوان زعيم الحزب الوطنى القديم ( تيارمصطفى كامل و الجامعة الإسلامية) حوار تاريخي على أن يكون الحزب هو ظل الدعوة فى المجال السياسى ..لا ذراعها كما سنرى اخفاقا وفشلا بعد ثورة يناير. كان البنا يريد أن تتفرغ الجماعة تماما لفكرة (بناء الإنسان) الإنسان الذى ما يلبث أن يكون هو الفكرة تتحرك على الأرض متخذا طريقه المقدور فى مجالات الحياة المتعددة ...لا شك ان الأستاذ البنا كان متأثرا فى ذلك بصوفيته القديمة التى ملكت عليه شغاف قلبه ومن يعود الى كتاب (المناجاة) يعلم كم كان تأثير الشيخ أبو الحسن الشاذلى على رؤية(البنا) للإنسان الخالص.وفى هذا حديث يطول.أضف الى ذلك أن تجربة( الجمعية الفابية) فى انجلترا ما كانت غائبة عنه وتحدث فيها كثيرا مع من حوله .. تكونت الدولة المصرية بعد الحرب العالمية الثانية على شاكلة الدولة الحديثة التى سادت أوروبا بفارق كبير بينهما فالمجتمع هناك كان قد اكتسب صلابته التى تحميه من هذا الغول الذي لا يقهر والعنف الذي لا وجه له والأخطبوط الممتد في جميع شؤون الحياة. والذى صار مطمحا كبيرا ومركزا مهما لذوي المال والطالبين الجاه والسلطان والثروة والمجد وحتى الطغيان. أما هنا فكان الأمر لازال على ما وصف عبد الناصر المصريين لكيرميت روزفلت مسئول ملف الشرق الأدنى والأوسط فى المخابرات الأمريكية فى مارس 1952م( من أن تطلعاتهم محدودة وأنهم قد عاشوا ألاف السنين على الكفاف ويمكنهم العيش على ذات النمط ألف عام أخرى ) ابتلعت دولة عبد الناصر المجتمع فى باطنها الأجوف القاسي المملوء بكل أشكال التهديد والخوف والقلق ..فكان أولا ضرب ذلك الكيان الشعبى الصلب الذى هو نفسه كان جزء منه ويعلم مدى قوته المجتمعية(سنعرف لاحقا الفرق بين الاجتماعي والمجتمعي) وللتاريخ.. فقد عرض الرجل عليهم الانضمام إلى الدولة وعرض تحديدا على الشهيد سيد قطب أن يتولى بنفسه مسؤولية (هيئة التحرير) لكن رواة هذه الفتره يقولون أن الرجل لم يكن صادقا بما يكفى ..هو فقط كان أسيرا لفكرة الدولة المركزية القابضة على أطراف المجتمع ..بدليل ما فعله فى الأوقاف و المحاكم الشرعية ..وقصة عبد الناصر مع الأوقاف من القصص المريبة التى تفتح الباب على كثير من أسئلة التشكك فى نوايا هذا الرجل تجاه الوطن والشعب وهو ما سيؤكده بخطوات مشابهة فى التعامل مع الجيش بعد عزل الرئيس نجيب وتعيين صديقه وخليله عامر قائدا عاما للقوات المسلحة وما أنتجه ذلك من الخراب الأخلاقى الذى سيعم المجتمع لاحقا . ما حدث بعدها أفاضت فيه كتب التاريخ خاصة عن التحول البارز فى أفكار الأستاذ قطب(تنظيم 65) ورؤيته للمجتمع و الدولة وفكرة الإصلاح والثورة . ثم كانت فترة السبعينيات وما قدمته من كافة أشكال التسطيح الفكرى والسياسى والاجتماعى وهو ما لامس الحركة الإسلامية التى كانت أسيرة لفكرة الغياب والحضورفقط ..ولم يقف أحد بالقدر الكافي تجاه أفكار البنا بنهاية أربعينيات القرن الماضى ..ثم ما لبث أن غاب جيل الكبار... وانطلق (الأنداد) ينظرون لأنفسهم وللدعوة نظرة لا تخلوا من الرغبة فى (الهيمنة المجتمعية) مع غياب رهيب للاجتهادات الفكرية والثقافية وكسل فادح عن تقديم تصورات نوعية جديدة لحال الدعوة والدولة والمجتمع ..حتى فاجأت ثورة يناير الجميع ..وكان ما نعلمه . غير أن حقائق الأشياء تدعونا للانتباه الى أن مشروع الإصلاح الاسلامى كان اكبر من جيل السبعينات فهما وفكرا وحركة وفشلهم فى الوفاء بمسؤوليتهم تجاهه بما ينبغي عليهم.. لايعنى أن المشروع انتهى.. ذلك أن: التيار الاسلامى العريض يتحرك فوق أرضية من المفاهيم هى الأوسع اليوم في العالم عن الإنسان والحرية والمسؤلية والعدل والثقافة والحضارة...وتبقى إمكانات الاتصال المعاصر من بلوغ وسائل تواصل غيرمسبوقة في التاريخ لا سيما وأن تلك المفاهيم لا تكاد تجد في طريقها مقاومة قياسا إلى الخواءالفكرى والقلق الوجودي الذى ينتشر فى العالم . التيار الاسلامى العريض قدم الإسلام فى مشروعه نحو الإنسان متمما لمنجزات وفضائل الحضارات فى مجالات التعليم والعدالة والمساواة والمواطنة حقوقا وحريات دون تمييز على أساس الاعتقاد والجنس واللون بما يكفل للجميع حقوق المواطنة والإنسانية والحريات الدينية والسياسية كما هو متعارف عليه في الديمقراطيات المعاصرة ..وبما يوشك أن يكون تاما وإن حاول البعض الانتقاص من هذه الاجتهادات. التيار الاسلامى العريض ينطلق من مرجعية الإسلام (الدين الطبيعى)... بحثا عن حلول لمشكلات المجتمع والإنسان مستفيد من كل خبرات حضارية تتوافق مع قيم الإسلام ومقاصده في تحقيق المصالح .. وهو التيار الأقرب إلى ضمير الناس بما يملكونه من أفكار(وهى بمألوف قيمها ومفاهيمها ولغتها لا يمكن منافستها شعبيا إذا فقه أبناؤه مشكلات الناس وصاغوها وفق البنية الذهنية والإيمانية لهم). علينا جميعا أن نطمئن ونطمئن كل الآمة أن المشروع الاسلامى لم ينته و لم ينهزم لا فى مصر ولا في غيرها فعالم الأفكار العالمية مفعم بقيم الإسلام...وبالرجوع إلى دراسات الدكتور العلامة عبد الوهاب المسيرى والعلامة على عزت بيجوفيتش سنجد أن التفكير في الإسلام والبحث فيه عن مشروع أسمى (للنهوض الانسانى ) متفاعلا ومستوعبا لمنجزات الحداثة لم يعد شأنا مغلقا بل أصبح شأنا مفتوحا على كل الحضارات .