فى أواخر الثمانينيات دُعي الأستاذ هيكل لإلقاء محاضرة ضمن فعاليات معرض الكتاب وكانت الحركة الإسلامية وقتها فى أوجها.. طلابيًا ونقابيًا وجامعيًا وبرلمانيًا.. وكان الأستاذ هيكل أيضًا فى أوج شهرته ونجوميته وأذكر أن جمهور الحاضرين كان كبيرًا بدرجة غير عادية وبعد أن ألقى الرجل كلمته المكتوبة تلقى أسئلة من الجمهور الكبير وكان من ضمن الأسئلة سؤال عن الحركة الإسلامية ومستقبلها الذى بدا واعدًا.. فقال الرجل فى حسم وجزم قاطعين (لا يمكن أن تقوم لمصر والشرق نهضة فى غياب الإسلام).. فكان أن وقف الجالسون من الجمهور وضجوا بتصفيق عاصف لمدة طويلة أذهلت الأستاذ هيكل على ما يبدو.. إذ أكمل كلامه بعد هدوء القاعة والدهشة ملء وجهه.. الأمر الذى أثار استغرابي عن دواعي دهشته وهو الذى يؤمن بما يقول فما بالك باستقبال الناس لكلامه بكل هذه الحفاوة. لحظة الدهشة الخاطفة التى التقطتها.. احتفظت بها وكانت مدار حديث بيني وبين العلامة د/عبد الوهاب المسيري رحمه الله وما بينه وبين الأستاذ هيكل من قرب وحب غني عن الذكر.. فكان أن دار بيننا حديث سريع حول ذلك وانتهى إلى أن هناك مسافة بين الأستاذ هيكل وبين فكر الإحياء والتجديد الإسلامي.. ولا تسل عن الصداقة والصديق فى أخلاقيات (فيلسوف الإنسان العطوف).. وما كان له أن يترك هذه المسافة فى عقل ووعي رجل يحبه إلى هذه الدرجة ويراها أمرًا غير مفهوم.. وذات صباح تلقيت منه اتصالًا طالبًا منى بتواضعه السامي إعداد مجموعة من الكتب والإصدارات تتناول فكرة الإحياء والإصلاح الإسلامي فى وضوحها واكتمالها ليأخذها معه في زيارته الأسبوعية للأستاذ هيكل وكان بينهما لقاء أسبوعي كل أربعاء.. لكن المفكر الإسلامي (وهو الذى وصف نفسه بهذا اللقب) رحل عن دنيا الفناء وعلى ما يبدو لم تتحقق أمنيته فيما كان يرجوه لصديقه الأحب والأقرب إليه من تضاءل تلك المسافة.. التى بين الأستاذ هيكل وبين فكر الإحياء والإصلاح الإسلامي.. تداعت هذه الذكريات إلى بعد سماعي لحوار أخير للأستاذ هيكل مع إحدى المذيعات قال خلاله إن المجتمع الآن يتنازعه تياران (تيار ديني يستدعى المأثور وتيار مدني عصري).. ومضى الرجل متحدثًا حول هذا المعنى بما يجعله بعيدًا كما هو من فكر الإحياء والإصلاح الإسلامي وقريبًا كما هو من فكر مدني عصري لا يبدو له امتداد في العمق الحضاري للأمة ولا يبدو له تواصل مستمر مع حركة الأفكار في العالم من حوله - سأعود إلى تلك النقطة- ولا عذر لي ولا للأستاذ هيكل في هذا الوصف فالرجل قال من قبل إنه لا نهضة لمصر ولا للشرق في غياب الإسلام.. والكلام صحيح والرجل صادق.. لكننا لا نراه كما يقول.. ما الموضوع إذن؟ الموضوع ببساطة شديدة أن هناك (حلقة مفقودة) عند الأستاذ هيكل.. وهى الحلقة التي تحتوى الحسن البصري وأبو حنيفة ومالك الشافعي والجنيد والغزالي وابن حزم والشعراني والفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي وابن تيمية وابن القيم والأفغاني وعبدة ورضا والبنا وابن نبي.. على حين تمتلئ السلسلة بحلقات لأرسطو وأفلاطون وشيشرون وديكارت وجون لوك وهوبز وهيجل وروسو وفولتير وسبنسر وداروين وفيبر ومالرو.. والقائمة تطول. حالة (الحلقة المفقودة) تلك تنبه لها من قبل.. د/ زكى نجيب محمود الذى أدرك في أخريات عمره أنه لم يقرأ كتابًا واحدًا لعلم من أعلام المسلمين وأن كل ما قرأه عن الفكر الإسلامي جاء من الاستشراق فعكف على قراءة الغزالى وبن رشد والتوحيدي وابن حزم يقول (فوقفت على نماذج رائعة من ثمار الفكر الإسلامي. وأدركت أني كنت بعيدًا عن منهل دافق يتدفق بالنفع الجزيل) كما قال في (حصاد السنين) رحمه الله. الإيمان الديني سيكون بنفس الأهمية في القرن الحادي والعشرين التي كانت عليها الأيديولوجية السياسية في القرن العشرين.. هذه الجملة المنسوبة لتونى بلير قد تكتسب بعدًا أعمق حين نصلها بما قاله الأديب الفرنسي الشهير أندريه مالرو سنة1963م (أن القرن القادم هو قرن الإيمان الديني أو أنه لن يكون).. وعلى فكرة مالرو كان صديقًا للأستاذ هيكل وكان يتمثله فى علاقته بديجول ويشابهها في علاقته بعبد الناصر. (هابرماس) ابن (مدرسة فرانكفورت) النقدية التي كانت ترى أن السيطرة والقمع في العصر الحديث لن تكون من خلال الجيوش والأسلحة ورجال الأمن بالدرجة التي كانت من قبل.. بل ستكون من خلال السيطرة على أجهزة الإعلام وتسخير الفنون والأفكار!! (هل لهذا الكلام علاقة بما نراه الآن فى مصر؟؟).. هابرماس له دراسة عن (الدين في المجال العام) انتهى فيها إلى أننا الآن فى عصر (ما بعد العلمانية) بامتياز.. القصة إذن ليست اختزالًا مبسطًا في الحديث عن (تيار ديني يستدعى المأثور).. القصة تتصل بالصحيح من الفكر والفاسد من الفكر.. وبن القيم له كلمات رائعة حول ذلك فيقول (وتقسيم بعضهم - بعض العلماء- الحكم إلى شريعة وسياسة وتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة وتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل.. كل ذلك تقسيم باطل.. بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل.. كل ذلك ينقسم إلى قسمين صحيح وفاسد.. والصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والفاسد ضدها ومنافيها..). سنة 1937م ألقى الشيخ محمود شلتوت في مؤتمر لاهاي للقانون الدولي بحثًا عن المسؤولية الدينية والجنائية في الشريعة الإسلامية وانبهر أعضاء المؤتمر بالبحث وأقروا صلاحية الشريعة الإسلامية للتطور واعتبروها مصدرًا من مصادر التشريع الحديث وأنها أصيلة وليست مقتبسة من غيرها من الشرائع الوضعية ولا متأثرة بها.. الشيخ شلتوت كان شيخ الجامع الأزهر (1958-1963م) وله رؤية جامعة لنظام الحكم فى الإسلام من تسعة مبادئ تتناول السيادة والحكم (الحكم لله وحده وهو حقه وحق الشعب أن يباشره نيابة عن الله) والحاكم وكيل الأمة والشورى أساس الحكم وبدونها يفقد الحكم شرعيته.. والعدالة الاجتماعية(الدولة والأفراد يتضامنون فى المسؤولية عن صوالحهم) والرقابة الشعبية (حق للأمة أن تراقب حكامها وتحاسبهم وتعزلهم) وأن الهدف النهائي للحكم هو سعادة المحكومين وتحقيق السلام فى الداخل والعزة في الخارج. الشيخ شلتوت على فكرة هو أول من ألقى حديثًا دينيًا في صبيحة افتتاح إذاعة القاهرة سنة 1934م. لا حيلة لنا فى أن (الإسلام) طريقة حياة كاملة.. هكذا أنزله الله.. دين ودنيا بكل ما تحمله الدنيا من تنويعات.. شريعة وقانون واقتصاد وتربية وتنظيم وهو في كل ذلك فقط يضع إطارًا ويترك ملأه للناس كيفما تتراءى لهم المصالح عبر حركة التاريخ.. وليس هناك قداسة لتجربة بشرية في تعاملها مع هذا الإطار. أضف إلى ذلك أنه ليس من صحيح الدين ولا من جدارة العقل أن ندفع بالإسلام إلى قضايا لم يتعرض لها وتركها مفتوحة للتدبير والتفكير. الطاقة الإصلاحية العظمى الكامنة في الإسلام.. متجددة ودائمة ومستمرة. ويجدر بنا جميعًا أن نقاربها ونتمثلها وهي ليست وقفًا ولا اختصاصًا لتيار دون غيره.. إنها العمق الفكري والحضاري للأمة كلها. وإن اختلفنا نختلف حول ذلك لا أن نختلف حول تيار ديني وتيار مدني.. هذا كلام قديم جدًا.. أصبح منتهى الصلاحية وهو ضار وغير نافع كالخمير الفاسد في العجين الصبوح.. وفي النهاية من أراد الحق فأخطأه ليس كمن أراد الباطل..أصابه أم لم يصبه.