اندهشت كثيرا من الحوارات التى دارت عن العلمانية على خلفية زيارة رجب أردوغان الأخيرة. وخيل إلى أن الحديث وإن تشابهت ألفاظه إلا أن مقاصده مختلفة تماما..فرؤية الرجل للعلمانية التى دعا إليها انطلاقا من بيئته السياسية هى (عدم محاربة الدين) وهو ما كان واقعا فى بلاده منذ قيام تركيا الحديثة بعد سقوط الخلافة الإسلامية 1923. الحال عندنا مختلف فالدستور ينص على أن الإسلام هو دين الدولة وأن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع..وهو ما يريده ويرتضيه الشعب ..لذا فالحديث بالشكل الذى جرى كان خارج السياق وخارج الموضوع ولا محل له من الأعراب وهو ما دعى الرجل لأن يعيد شرح ما قاله وهو فى تونس .. غير أن عددا من إخواننا الرافضين لدور الدين فى الحياة تلقفوا ما قال واخذوا يتصايحون باللا معنى و اللا مفهوم ليس حبا فى أردوغان ورفاقه لكنهم تصوروا أنهم بذلك يعرضون بالمشروع الإسلامى فى الإصلاح والتنمية الذى _من أسف_ يستقيم أحيانا ويتعثر أحايين. تجربة أردوغان واوغلو وجول بما تحمله من تطور وتقدم فى مسار الفكر والحركة باتجاه الإصلاح كان من المكن جدا أن تكون عندنا وبيننا لو كان هناك قدر من الوفاء الإنساني والأخلاقى والفكرى بين بعض العاملين فى المجال الاصلاحى والدعوى .. لكنها الدنيا المؤثرة والهوى المتبع ..واللعاعات التى تبرق فتحيل الأوهام إلى حقائق..(عقل نائم وهوى يقظان). على أن الموضوع الأساسى الذى أريد قوله هو أن الحديث عن العلمانية بالطريقة التى سمعناها وتابعناها مؤخرا حديث قديم جدا..ويبدو أن (النخب الزاعقة)لا تقرأ ولا تتابع حركة الأفكار..هم فقط استناموا واستراحوا إلى ما تشتهيه أفكارهم وتطلعاتهم ..ووقفوا عند التطور بمفهوم العلمانية إلى ما تأكد واستقر فى علاقة الكنيسة بالمجتمع والدولة من قرون مضت ..على أثر المصادمات الدامية بين الكنيسة والسلطة والمجتمع.. كنيسة وقفت فى وجه العلم والعلماء وسلطة كانت تعامل رعاياها باعتبارهم قيان وعبيد ومجتمع غارق فى التخلف و التهلهل. فكان رد الفعل المعاكس من العلماء والناس عنيفا ..فكان ما انتهى إليه الأمر من انتشار وسيادة لأفكار هيجل وفيورباخ ونيتشه وغيرهم من المفكرين والفلاسفة الذين نظروا للإنسان باعتباره مركز الوجود . التجربة التاريخية للحضارة الإسلامية وان كانت متعثرة سياسيا الا انها خلت تما من مثل هذه القروح القارحة. سنة 1981 أصدر الفيلسوف الالمانى (يورجن هابرماس )ابن مدرسة فرانكفورت كتابا صادما عنوانه ( نظرية الفعل التواصلى) وأشار فيه إلى أن قيم العدل والمساواة استخلاصات علمانية من الدين . وان نظرية العقد فى السياسة ما هى إلا من مواثيق الدين ..كذلك فكرة الجدارة الإنسانية التى هى أساس حقوق الإنسان تنبع من الدين الذى يتساوى الناس فيه أمام الله ..ولولا هذا المصدر الدينى لكل هذه المعانى والاخلاق لكان من المشكوك فيه تعزيرها ونشرها. الرجل يريد أن يقول ببساطة إن الدين هو كل شىء فى الحياة وأنه المصدر الفياض بكل قيمنا الإنسانية الجميلة والنبيلة. سنة 2002م نشر الرجل كتاب أخر بعنوان (الدين والعقلانية ..مقالات فى العقل والحداثة) والذى صاغ فيه التعبير الرائع (مجتمعات ما بعد العلمانية ) التى توحشت فيها القيم الرأسمالية الاستهلاكية ..وأشار إلى الدين ودوره المهم فى الحياة بما يمتلكه من رصيد يمنح الناس القدرة على الزهد والتعالى والترفع عن متطلبات الدنيا وتحقيق الطموحات والنجاح الدنيوى فى تحقيق الشهرة والثروة . فى لقاءات عديدة بكثير من نجوم الفكر والصحافة والسياسة أدهشنى أن أغلبهم لم يسمع عن هابرماس أصلا .. أو ربما لأن أفكاره وقعت عليهم (كالسهام فى غبش الظلام) فلربما أنكروه. إلا أن الكاتب الصدوق د .محمد المخزنجى أزال دهشتى حين أشار إلى هابرماس فى مقالته الأخيرة بجريدة الشروق 15/9 وأكد أن أفكاره حررت لدية كثير من المفاهيم السابقة عن الدين و الحياة .. وسواء كانت هذه المفاهيم السابقة ناتجة من استغراقه فى أفكار اليسار أو لرفضه لكثير من الممارسات الاجتماعية والسياسية للإسلاميين..فقد سعدت كثيرا بتطور الوعى بجزثية الدين والحياة على هذا النحو .. طبعا كنت أتمنى أن يكون هذا التطور مرده إلى الداخل الفكرى والثقافى ..لكنى عذرت كاتبا الجميل كونه من جيل السبعينيات الذى صاحب صعود التيار الاسلامى..والذى تميز أغلبه بقلة(الثقافة) ووضعوا (الحركة قبل الفكر) فى حين أن أسبقية الفكر للحركة بديهية كشروق الشمس ونزول الليل.. تيار الصحوة الإسلامية التأسيسى تميزبسعة الثقافة وقوة الفكر من الأفغانى إلى الأستاذ البنا ..صحيح ان حركة الإخوان عدلت كفة الميزان لصالح العوام الطيبين بعد ان كانت فى صالح النخبة والعلماء..إلا أنه أدرك رحمه الله أن الكفة الاولى مالت بأكثر من المطلوب ..فأهتم بالطلاب والمثقفين وأكد على أهمية أن يكون الأخ(مثقف الفكر) لكن الوقت لم يمهله وحدث الخلاف الداخلى ثم الصدام مع السلطة ثم الخروج المثقل بتجارب السجن والسجانين وهو الخروج الذى واكب حالة تدين فى عموم المجتمع .. فى الوقت نفسه كان المجتمع المصرى بعد حربى 1967م و1973م قد بلغ به الإنهاك مبلغا كبيرا وهو ما ظهر فى حالة (التسطيح العامة) التى سادت وانتشرت فى كثير من القطاعات.كل ذلك أدى الى تكون تيار إسلامى مفعم بالمفاهيم الحركية وهو ما أتجه به تدريجيا _ أو هكذا بدا_إلى النفور من حالة الثقافة والفكر التى تكون عادة مصحوبة بالجدل والنقاش والسؤال والتطور والتغيير فى حين أن المطلوب هو الحشد والالتقاء حول الالتزام الدينى والمعانى الأخلاقية البسيطة .. وهو شىء جميل ..لكن غير الجميل هو النفور من الثقافة والفكر سواء فى الحركة أو فى التربية ...فكى تبنى عاليا عليك ان تحفر عميقا.. ومن ترك العواقب مهملات **فأكثر سعيه سعى العناء... إلا أن الأمل الذى تبدى واضحا فى الأجيال الحديثة من الإسلاميين _أبناء العشرينات والثلاثينات_ يجعلنا ننظر للمستقبل بفرحة واعدة ..هم الذخيرة الحقيقية لمستقبل الإصلاح والبناء فى مصر ... التقى بهم دائما سواء على الفضاء الاليكترونى أو فى الندوات والأماكن العامة ..يتميزون بثقافة وحضور وانفتاح وعمق وتسامح حالة نموذجية للوسطية الحقة (لا ذاهبا شطوطا ولا هابطا هبوطا)وأتصور أنه بعد الانتخابات والاستقرار السياسى والمؤسسى ..سنرى مشهدا إسلاميا مغايرا تماما.. اختم كلماتى بنداء ورجاء إلى إخواننا العلمانيين أن يغيروا (ثيابهم الفكرية) التى أصبحت بالية للغاية .. د. هشام الحمامى