مصطلح (الفكرة الدينية) يعود إلى العلامة مالك بن نبي الذي قدمه في كتابه (مشكلات الحضارة).. واعتبر أن الفكرة الدينية هي المركب التكويني التاريخي الذى يبعث قيام ونهوض أي أمة (الحضارة لا تظهر فى أمة من الأمم إلا فى صورة وحي من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجًا.. قدر الإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى وراء حياته الأرضية... الحضارة تظهر بدافع الفكرة الدينية وتنتهي بانتهاء هذه الفكرة).. الملفت للنظر أن ابن نبي لم يتعرض للإسلام كعقيدة وشريعة في كل ما كتب تقريبًا.. فهو مؤمن به ومسلم به.. إنما تناوله كفكرة تغيير اجتماعي وإحداث إصلاحي.. باعتباره أداه دافعه لخدمة(الحركة) المطلوبة التى كانت تشغله حيث(الأشخاص والأشياء والأفكار).. مثلث التغيير الاجتماعي الأمثل والأصوب. تاريخ الإصلاح والسياسة في الشرق عبر القرون الثلاثة الماضية هو تاريخ (الحركة بالفكرة الدينية) كما صاغها ابن نبي.. كل المحاولات التي عالجت هذا الملف سواء على جانبه الفكري أو جانبه الحركي ولم تعتبر بالفكرة الدينية فشلت فشلًا مدهشًا.. سواء كان تيار القومية العربية بتنويعاته المتعددة والتي يعد (البعث العربي) أحد أهم تنظيراتها خلص إلى الحقيقة الناصعة.. مما قاله ميشيل عفلق في جملته الشهيرة (في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة أمته كلها واليوم يجب أن تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلًا لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب فليكن كل العرب اليوم محمدًا).. الفشل الأكثر إدهاشًا كان من نصيب اليسار بكل تنويعاته.. أبناؤه الباحثون عن الحقيقة اهتدوا إلى الفكرة الدينية (عبد الوهاب المسيري وطارق البشري ومحمد عابد الجابري ومنير شفيق.....) وأصبحوا من كبار منظريها وعرّابيها.. الباقون وقد راعهم الفشل العظيم الذى عاينوه اتخذوا الموقف القديم من الإصرار على الخطأ ظلمًا وعلوا..(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) إذ لا أتصور مثلًا أن محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وأنور عبد الملك وحسن حنفي عجزت بهم قدراتهم العقلية عن الاهتداء الصريح إلى تلك الحقيقة.. وحسن حنفي تحديدًا صاحب نظرية العلاقة الأفقية والعلاقة الرأسية فى العلاقة بين الخالق والمخلوق (تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا) يثير حول أفكاره تساؤلات كثيرة خاصة ما يقدمه تحت عنوان (اليسار الإسلامي)... وما استعمال الكلمات بخفة إلا دليل على غياب الأفكار. الأستاذ هيكل كان رائعًا فى حواره الأخير مع إحدى المذيعات حين قال (لا يمكن للأمة أن تستغني عن تعبير سياسي عن الفكرة الدينية).. وكنت قد أشرت إلى غياب هذه الرؤية عنده فى مقال سابق (الحلقة المفقودة عند الأستاذ هيكل) لكن الرجل بحسه التاريخي والسياسي الرفيع ما كانت لتغيب عنه هذه الحقيقة فاستدرك ما غاب عنه. وأحسب أنها إحدى إشارات الصديق العزيز عبد الله السناوي (أقرب الصحفيين إلى قلب أ\هيكل). لكن المسألة الآن تحتاج إلى وقفه معتبره في حياتنا السياسية والفكرية.. فالتيار الإسلامي العريض الصوت التاريخي للفكرة الدينية في مدارات النهضة والإصلاح.. يمر الآن بتجربة السلطة بعد أن أعلن قبلًا أن الوقت ليس بعد ملائمًا لهذه الخطوة.. والعجلة والندم أخ وأخت كما يقولون.. ووقت التعاتب حول صواب ذلك من عدمه قد مضى وفات. .وأخشي أن تكون أحداث السنة الماضية قد أثرت تأثيرًا غير إيجابيًا في المعنى الأكبر (مركزية الفكرة الدينية) في الإصلاح والنهوض.. فهل يعنى ذلك تراجع دورها التاريخي المنشود في البعث والنهوض؟ لا أتصور ذلك.. فالأفكار تتطور من الأفكار.. وفكر الإصلاح الإسلامي مر بمراحل تطور استندت بعضها إلى بعض.. فما قدمه الأفغاني كانت له خميرته عند الشيخ حسن العطار –مثلًا- وأصحابه في الأزهر الشريف وما قدمه محمد عبده كان تطورًا بأفكار الأفغاني خاصة فى تركيزه على الجانب الاجتماعي والتعليمي وما قدمه رشيد رضا كان تطورًا بأفكار محمد عبده وما قدمه حسن البنا بعد قراءات واسعة ومضنية كان تطورًا بأفكارهم جميعًا خاصة في خطوته الأكثر توفيقًا بإحضار العامة لحمل نصيبهم من مشروع الإصلاح وكان يتمثل مقولة الإمام على (عمود الدين وجماع المسلمين العامة من الأمة).. لكنه أدرك بعد وقت ضرورة استحضار النخبة المفكرة وبذل جهدًا كبيرًا مع أغلبهم... أحمد أمين والعقاد ومحمود شاكر والسنهوري وعبد الرحمن عزام فمنهم من لم يستجب له ومنهم من استجاب بقدر.. على أن الصدام المروع الذى حدث مع حركة 23 يوليو وما ترتب عليه من سجن وتعذيب وتقتيل أثمر ثقافة مشبعة بما عرف (بفكر المحنة) أنتجت تصورات بعدت قليلًا عن الرؤى الأولى للأستاذ البنا.. ثم كان ما نعرف جميعًا من الأثر الاجتماعي والفكري البالغ السوء لهزيمة كل يوم 5 يونيو 1967م ودخول المجتمع مرحلة السبعينات وما تلاها من حكم السادات ومبارك حتى أصبح الناس أجسادًا مفككة لا يجمعها روح ولا هدف.. فكانت ثورة يناير.. والتي فتحت أفق التطور بالأفكار والحركات على مدى رحيب الاتساع.. والفكرة الإسلامية تحديدًا مورد كثير الجداول والعيون وهو المورد المنفتح على كل فهم ممكن فى المستقبل. إن يكن من أمر.. تظل (الفكرة الدينية) في القلب من مكونات النهوض والبعث في عالم الأشياء والأشخاص والأفكار كما قال مالك بن نبي.. (فنهضة مجتمع ما تتم فى نفس الظروف العامة التي تم فيها ميلاده الأول). وعليه فإن إعادة بناء مجتمعنا يتقرر ضمن البنية التي تشكلت خلالها (الفكرة الإسلامية) وعليه أيضًا فإن الدين هو نقطة الانطلاق الأوفق والأصوب للتغيير الاجتماعي والبناء الإصلاحي الحقيقي.. وقد تورق الأغصان بعد ذبولها ** ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن. أصدقاؤنا الذين يتحدثون عن العدل الاجتماعي واستقلال الإرادة الوطنية وإنهاض الإنسان وإزهار الحياة في غياب (الفكرة الدينية) لمعنى العدل والتحرر والكرامة.. أراهم مثل أبطال قصص الروائي الألماني الشهير فرانز كافكا (رجال بلا تاريخ يعيشون خارج الزمان والمكان.. في فراغ لا اسم له.. وفي زمان لا يمر به تاريخ.. يبحثون عن أشياء لا يعرفون هويتها)..