للأستاذ راشد الغنوشى جملة واصفة لواقع الحال السياسى الآن فى بلدان الربيع العربى، وهو أن الشعوب تحب رؤية الإسلاميين فى المعارضة أكثر من رؤيتهم فى السلطة.. ويبدو أن المزاج الشعبى فى تلك النقطة يعكس حقيقة تاريخية عن تجارب شبيهة وسارت فيها الأمور على غير ما كان الناس يتمنون وينشدون.. وهى تجارب الدعوات التى تحولت إلى سلطة وملك.. رغم أن الأمور فى الحس الشعبى قد لا تكون على هذه الدرجة من الإدراك التاريخى، فيما يكون الميل أكثر لأن يكون الإسلاميون هم طليعة الشعوب فى استرداد حقوق الناس من السلطة والملك والتى عادة ما تكون حقوقا مسلوبة ومهدرة. وفى كلتا الحالتين، نحن أمام مشهد جدير بالاعتبار، وهو أن (الدعوة الدينية) حينما تتحول إلى (سلطة سياسية)، لا يكون الأمر مرحبا به بدرجة كبيرة.. ومشهد آخر فى أن تكون (الدعوة الدينية) طليعة الأمة فى إقامة الدين والحفاظ على الحقوق وصون الحريات من جور (السلطان).. ناهيك عن أن اهتمامها الأعلى والأسمى يكون القيام بحق الدعوة فى المجتمع وبين الناس فى كل المجالات بما ينبغى أن يكون عليه الأمر.. وهذا لا يعنى أن يكون الإسلاميون بعيدين عن معادلة الحكم والسلطة.. فهذه المعادلة لها من الأهمية فى الفهم الإسلامى مساحة معتبرة.. لكن الأمر يختلف حال كونهم يباشرون السلطة بأنفسهم وباسمهم الصريح ووجههم المعلن. وبين حال كونهم يدعمون سلطة تمارس حكما رشيدا صالحا وأيضا يعارضونها حين تخطئ وتستبد. كان من الممكن أن نرى تجربة (دعم السلطة)، خلال الانتخابات الأخيرة فى مصر، وكانت هناك أسماء كبيرة قريبة من مدارات الحركة الإسلامية بدرجات متنوعة من القرب كالدكتور سليم العوا، والدكتور عبد المنعم ابو الفتوح.. ولعل الأستاذ أبوإسماعيل لم يكن نموذجا كافيا لتحقق هذا القرب، كونه يعكس حالة وجدانية مثيرة أكثر منها نموذجا متكاملا لمسألة السلطة والدولة.. الدكتور العوا فعل ما رآه مسؤولية تاريخية بتقدمه للترشح دون أن يحمل أحدًا عبء الدعم المباشر وترك الأمر مفتوحا لتقديرات الجميع.. ورأيه فى الدكتور أبوالفتوح أشهر من أن ينسى، وكان ولا يزال يراه رجل الدولة الأول، القادر على تحمل مسؤوليات المرحلة.. لكن الدكتور العوا السياسى والفقيه والمفكر.. كان يعلم أن هناك علاقات معقدة يتشابك فيها النفسى مع الفكرى مع التنظيمى تجعل (التيار الإسلامى العريض) بقياداته الحالية يقف موقفا رافضا لهذه الرؤية التى يراها هو شخصيا فى أبو الفتوح.. وهو ما جعله يواصل فى مسألة الترشح تقديرا منه لأن يحدث من الأمور أمور.. أبو الفتوح بدوره كان يرى تلك الرؤية التى رآها الأستاذ الغنوشى وصرح بها فيما بعد.. وقد حضرت لقاء تاريخيًا بين الاثنين فى تونس، وكان الأمر بالفعل توافقا سديدا على هذه الرؤية. والغنوشى بحق وحقيق.. أحد أعظم الشخصيات فى تاريخ حركة (الإصلاح الإسلامي)، وهو المعادل الموضوعى للأستاذ البنا فى نظرية (قلب الولى وعقل السياسى)، ومثله مثل البنا شيد كل ذلك على قاعدة علمية وفكرية صلبة للغاية، وهو ما لم يتكرر على الإطلاق فى تاريخ الحركة الإسلامية حتى الآن.. ولعل ذلك يفسر حالة الحساسية الخاصة منه داخل (التيار الإسلامى العريض).. ومثلث (الكبر والطمع والحسد) لا تكاد تخلو منه تجارب البشر عبر مواكب الأجيال.. فى (الكبر) كان إبليس _ "أنا خير منه" _ وفى (الطمع) كان خروج سيدنا آدم عليه السلام من الجنة _ "فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما"_ وفى (الحسد) كان موقف أحد أبناء آدم من أخيه _ "قال لأقتلنك" _ والتقى النقى العاقل الحكيم من يعى خطورة ذلك المثلث اللعين.. ويضع نصب عينيه دائما الآية الكريمة (ما عندكم ينفد وما عند الله باق)، النحل 96.. وللجامعة ابن داوود أحد ملوك بنى إسرائيل خطبة شهيرة جامعة لمعانى شديدة النفاذ إلى القلوب والعقول (كل ما خلا الله باطل.. بل باطل الأباطيل.. دور يمضى ودور يجيء.. والأرض قائمة.. والشمس تغرب.. والريح تذهب للجنوب وتدور للشمال.. كل الأنهار تجرى إلى البحر والبحر ليس بملآن.. العين لا تشبع من النظر.. والأذن لا تمتلئ من السمع.. فالكل باطل والكل قبض الريح). ناهيك طبعًا عن الفهم العميق لهذا السباق المحموم كل يوم نحو الموت والمسمى (بالحياة).. وما الدنيا إلا واحة فى الطريق وليست نهايته.. فكلنا نجرى للأمام فى اتجاه الفناء تأهبًا لساعة اليقظة الحقيقية (الناس نيام وإذا ما ماتوا انتبهوا). التاريخ يشهد على تجارب كثيرة فى تحول الدعوة الدينية إلى ملك وهى تجارب جديرة بالاعتبار.. لدينا تجربة العباسيين التى كانت بالأساس دعوة دينية تحولت إلى ملك شابه ما يشوب السلطة والملك من أسئلة كثيرة ظلت بلا إجابات.. لدينا تجربة الفاطميين. لدينا تجربة المرابطين وأسدهم الكبير يوسف بن تاشفين.. كل هذه التجارب مفتوحة على تفسيرات كثيرة ومهمة فى معضلة الإصلاح بين الوجود القوى فى السلطة والوجود الأقوى فى المجتمع.. وتأثير كل ذلك على الدين والدنيا. وأتصور أن ما نراه الآن فى مصر جزءا ثريا وخصبا من تجربة لم تكتمل بعد فى اتجاه البحث عن الأصلح والأجدى.. ومازلنا فى مرحلة السيولة التاريخية التى ما زالت بين يدى التكون والاكتمال.. وسيظل الإصلاح الشامل فى الشرق مرهونا بقوة (الفكرة الدينية).. وما بدأه تيار الجامعة الإسلامية "جمال الدين وعبده ورضا والبنا"، لا يزال يسير سيره الواثق الأمين نحو نهضة الشرق.. على أن كثيرا من الأحداث لا تفهم حين وقوعها.. وأخذ مسافة زمنية منها يتيح وضعها فى السياق التاريخى المفسر لها، فتظهر الحقائق مختلفة تفسر الطبيعة البشرية وغاياتها والسبل التى اختارتها للتعبير عن رؤيتها للحق والصلاح.. ما انتهى إليه البنا رحمه الله كان البداية المنطقية والتاريخية لتحقق فكرة الإصلاح، ولعل النصف الثانى من القرن الماضى بكل سوءاته، كان ضروريا للاستفتاح بما هو خير، فاليقين اليقين بأن الله غالب على أمره.. وما كان استشهاد البنا وعودة وفرغلى والطيب وقطب وهواش وإسماعيل، إلا مراحل على درب الإصلاح الطويل، وما كانت ثورة يناير وما تلاها من أحداث إلا اكتمالا لمراحل هذا الدرب. ولعل أفق الرؤية يتسع أكثر وأكثر لنرى التاريخ الصحيح، وهو يتشكل أكثر وأوضح أمام أعيننا فى اتجاه الوجود الأمثل والأشرف للدعوة فى المجتمع القوى أمام السلطةِ الكاسرة، إذ ليس فى القنافذ أملس كما يقولون.. وتتحول الدولة الحديثة (الديناصور) فى وعى الإنسان الشرقى إلى الدولة (الخادمة) تأسيسًا على المفهوم الإسلامى الأمثل. وليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه.