كلنا يحسن انتقاد الآخر وترصد أخطاءه ووضعها تحت المجهر، سواءً كان هذا الآخر فردًا أو شركةً منافسةً أو جماعةً أو أمة ولا تكاد تخلو مجالس نسائنا ورجالنا من الغيبة والسخرية والهمز واللمز بالآخرين، لكن ماذا عن أخطاء النفس، وهل من اليسير أن يتناول الإنسان نفسه التي بين جنبيه كواقع موضوعي كما يتناول ظاهرةً فيزيائيةً أو بيولوجية!!.. يتساهل الناس في الحديث عن أخطاء الآخرين وإحصائها بل يجدون متعةً في ذلك، بينما يتحرجون من أي مساس بالذات وانتقادها، وذلك في آلية نفسية لا شعورية لإظهار أفضلية الذات وقداستها. الانتقاص من الآخرين وغمط فضائلهم مؤشر على الشعور بالدونية والنقص، فالذي يشغل نفسه بترصد أخطاء الناس يحاول إخفاء عيوبه بإظهار عيوب الآخرين، بينما الممتلئ روحيًا وفكريًا في المقابل ليس مضطرًا للنيل من أحد في سبيل تحقيق ذاته، فهو من القوة والثقة بما يؤهله للنجاح حتى في ظل وجود منافسين أقوياء في الميدان.. الانشغال بعيوب الآخرين والغفلة عن عيوب النفس يقود إلى نتائج كارثية، لأن ما يحدد مصير الإنسان في الدنيا والآخرة هو أعماله وليس أعمال الناس، ومن انشغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه فقد انشغل بلغو لا يفيده ولا يؤثر في مستقبله عما يحدد مصيره في الدنيا والآخرة.. تركز فلسفة القرآن على الخلل الداخلي وليس الخارجي، فنحن لا نملك إصلاح الأخطاء التي يرتكبها الآخرون لكننا نملك إصلاح أنفسنا، لذا فإن الاتجاه العملي في القرآن يعبر عن نفسه بتنبيهنا إلى الانشغال بما نملك التأثير فيه عن الظروف والعوامل الخارجية التي لا نملك تغييرها " ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" طبعًا بالمعنى الإيجابي وليس بمعنى الانعزال عن الناس.. تساءل الصحابة عن مصابهم في غزوة أحد فنزل القرآن بمعالجة سريعة تنبههم وتنبهنا من بعدهم إلى ميدان الخلل الأساسي "قل هو من عند أنفسكم"، وفي سورة الشورى "بما كسبت أيديكم"، ويحدثنا القرآن عن نموذج يونس عليه السلام ليحتذي به كل مؤمن وهو التوجه نحو النفس بالملامة لا نحو الظروف الخارجية "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، ومن قبله أبونا آدم الذي حمل نفسه المسئولية ولم يحملها للشيطان "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين".. كان آدم، عليه السلام، قادرًا على تحميل الشيطان المسئولية بأنه هو الذي وسوس له وأغواه، لكن تحميل الشيطان المسئولية وإن كان يريحنا مؤقتًا ويعفينا من المسئولية إلا أنه لا يحل المشكلة، لأن من يعتقد بأن الشيطان –أو أي عامل خارجي آخر- هو المتسبب في مشكلاته لن يفكر في تصحيح مسار حياته ومراجعة أفعاله.. في مقابل إبراز القرآن خطورة العامل الداخلي يبين لنا محدودية قدرة العامل الخارجي على النيل منا حين تكون الجبهة الداخلية صلبةً متماسكةً، صحيح أن هناك عاملًا خارجيًا مؤثرًا، وصحيح أن مكر أعدائنا تزول منه الجبال، لكن تمتين الجبهة الداخلية وإيقاظ آليات المراجعة والتصويب سيمكننا من التغلب على هذه التحديات الخارجية الصعبة "لن يضروكم إلا أذى"، "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله"، "ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين"، "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا"، "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا"، حتى الشيطان ذاته فإن قدرته محدودة في النيل منا حين نحصن أنفسنا "إن كيد الشيطان كان ضعيفًا"، "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين".. كل أخطاء الآخرين وكيدهم ومكرهم لا يؤثر في تحديد مصائرنا لكن ما يدخل البشر النار في الدنيا والآخرة هو أخطاؤهم وليس سوى أخطائهم.. إن تركيز الجهد الفكري في اتجاه تزكية الذات سواءً الذات الفردية أو الحزبية أو القومية أو المذهبية وشيطنة الآخر يعطل الدور الإصلاحي المنوط بنا، لأن المهمة الإصلاحية تقتضي التفاتًا إلى الذات ومراجعةً دائمةً وتصحيحًا دائبًا.. والله الهادي إلى سواء السبيل.. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]