عام الفيل وإستراتيجية الضربة الاستباقية الوقائية: فى الحقيقة كان رد فعل دولة أهل الكتاب، وهى الدولة البيزنطية، غير متوقع؛ حيث انتهت إلى قرار إستراتيجى بعد دراسة الأمر، وهو أن تعمل على منع حدوث مثل هذا القادم الجديد باعتباره خطرًا محدقًا وتهديدًا ماحقًا فى حالة مجيئه، وذلك كما بينت ذلك النبوءات التى بشرت بقدومه، وبخاصة بإقامة العدل ونشر السلام وتوحيد جزيرة العرب. فلا محالة من أن يستجيب لدعوته كل المقهورين والمظلومين فى الأرض بما يحمله من عدل وخير وسلام، وهذا فى حد ذاته نهاية لسلاطينهم التى بنيت على الظلم والعدوان. لقد استقر مكرهم بأن يتخذ هرقل الروم قرارًا إستراتيجيا بإرسال عامله القوى فى الحبشة أبرهة الأشرم بجيش لا تقوى عليه العرب، فيهدم الكعبة، ويحتل مكة؛ ليحقق بذلك ضربة استباقية وقائية لإجهاض هذا القادم الجديد قبل أن يولد، وذلك بأمرين: الأمر الأول: تسميم المناخ والبيئة التى سوف يولد فيها؛ بحيث لا تكون قابلة لدعوته ورافضة له ابتداءً. الأمر الثانى: هو أن يتم احتواؤه والسيطرة عليه وقمع دعوته فى المهد، وبمجرد ظهوره قبل أن ينتشر ويتوسع فى الأرض ويصبح أنصاره من القوة التى لا يمكن قهرهم بعدها...! هكذا كان مكرهم وهذا هو ما أرادوه، وهذا هو ديدن الطغاة والظالمين على مر التاريخ، ابتداء من فرعون وانتهاءً ببوش وشارون. ففرعون نبأه المتنبئون بأنه سوف يولد مولود تكون نهاية ملكه على يديه، فقرر بضربة وقائية استباقية أن يقتل كل طفل يولد حتى يمنع قضاء الله وأمره. هذا ما أراده فرعون وكذلك ما أراده هرقل بعده بمنع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. فماذا أراد الله سبحانه وتعالى؟ لا شك أن الذى لا يعلمه الطغاة جميعًا وكثير من الناس أن للكون إلها واحدا، وأن الأمر الوحيد النافذ على جميع الخلق هو أمره، وأن كل ما يفعله هؤلاء ليس إلا من قبيل الاستدراج والإمهال ولعلهم يرجعون؛ لكنهم مع الوقت يصبحون فى طغيانهم يعمهون ويستعذبون اللعبة، وليس هناك من وسيلة أفضل من تجاهل لعبهم ولهوهم الذى لن ينتهى، فأصحاب الرسالات أمامهم مهام جسام تشغلهم كل الوقت، بينما هناك من أعدائهم من ليس لهم مهمة سوى الشغب والشوشرة على رسالاتهم، وهو أمر لا يمكن أن ينتهى، وانظر لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ" (الأنعام: 112)، وقوله: "ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" (الحجر). لا يعلم هؤلاء جميعًا أن الله إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، وأنه القاهر فوق عباده، وهو الغالب على أمره. أكرر هذه المعانى التى من كثرة تكرارها فى القرآن تبدو بديهية، ولا يكاد الناس يلتفتون إليها، بل حتى المؤمنون منهم، أكثرهم ينسونها أو يتناسونها مع كثرة الأحداث وتدافعها. ما أجمل أن يستشعر كل قائد أن عليه أن يؤدى أقصى ما فى وسعه واستطاعته، ولا يحمل هم ما ليس فى وسعه، فإن الله يحمل عنه عبء ما لم يكن فى استطاعته إعداده، ما دام كان مؤمنا به ومتوكلا عليه وموقنا فيه، فهل يتعلم القادة والمديرون كيف يحسنون صلتهم بالله، ويتعلمون ممارسة اليقين والتوكل عليه. لقد كان أمر الله سبحانه وتعالى واضحًا وهو جعل كل من يسير ضد إرادته فى خسران وتباب وتضليل. هكذا كما نعلم جميعًا صدرت الأوامر لأم موسى بمجرد مولده أن تلقيه فى اليم، وصدرت الأوامر لليم أن يلقيه إلى ساحل قصر فرعون ذاته فى تحدٍّ واضح، ثم صدرت الأوامر إلى فرعون نفسه وزوجته أن يحتضنه ويربيه وينفق على تربيته فى أفضل مكان يمكن أن يتربى فيه موسى على أرض مصر "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)" (القصص)؛ ليصنعه الله على عينه ليحقق مراده من فرعون رغمًا عنه. وكذلك تحرك أبرهة بجيشه وفيله العظيم لهدم الكعبة تنفيذًا لكيد ومكر الدولة الرومية، فماذا فعل الله بهم ؟ انظر وتأمل معى قوله تعالى: "أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيل"، هكذا أحبطت أول محاولة فاجرة سافرة من دولة كبرى مستكبرة للقضاء على دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يولد. لعلنا نؤكد هنا أن واجبنا هو الإيمان المطلق بأن الله غالب على أمره، لكن أكثر الناس لا يعلمون، وأن أمره نافذ بما يستخدمه من جنده التى لا يعلمها إلا الله، فيسلطها على من يشاء وقتما يشاء بالكيفية والقدر الذى يشاء، ولكل حدث وزمن جنده المناسب له. فالطير الأبابيل جند من جنده، حجارة من سجيل جند من جنده، الرعب جند من جنده، الريح جند من جنده، والزلازل والصواعق والمياه والملائكة جند من جنده، والمؤمنون الصادقون المجاهدون فى سبيله جند من جنده، يؤيدهم بما يشاء من جنده لينصرهم على عدوه وعدوهم كما وعد وأكد فى كتابه "وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)" (الروم). فهم مقيدون فى علمهم بظواهر الأمور وعلاجها وأبعد ما يكونون عن علم المآلات والنتائج والعواقب المبنية بشكل حتمى على المقدمات، وإن طال الزمن، ولذلك ينبهنا المولى عز وجل فى الآية التالية مباشرة "يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)" (الروم). إذا كانت هذه هى أهم المقدمات العظيمة لمولد نبى عظيم جاء برسالة عظيمة ليعيد صياغة العالم ويعبّده لله الواحد الأحد بكل من فيه وكل ما فيه. فإننا لا بد وأن نأخذ من ذلك العبرة لفهم ما يحدث بيننا، ونترقب لما يصنع لنا، فنفس منطق الظالمين الطغاة هو هو. ومن أراد أن يفهم ما يدار الآن وقبل الآن وما يحاك من كيد ومكر للإسلام والمسلمين، فلعل فى هذه السطور درسا واضحا، يؤكد أن كل إستراتيجيات الإجهاض المبكر والضربات الوقائية التى تم تصميمها وتنفيذها من أعداء المد الإسلامى، قد أحبطها الله سبحانه وتعالى؛ سواء من خلال ما رأيناه فى حدوث الثورات العربية، بعدما فعلت قوى الشرق والغرب ما لم يتخيله بشر لمنع حدوث ذلك...! سواء ما أسموه إستراتيجية تجفيف المنابع، أو ما زرعوه من حكام خونة عملاء ظلوا يترصدون لكل ما هو إسلامى من محاكمات عسكرية واستثنائية واعتقالات بعد اعتقالات، فى ظل قوانين طوارئ لم ترفع لحظة، حتى إسرائيل التى زرعوها بغير حق لاستنزاف دائم وعدو طبيعى للعالم العربى والإسلامى، لا شك أن كل ذلك أو ما نشاهده الآن من محاولات مستميتة لمنع القادم الإسلامى، كل ذلك لن يكون مصيره سوى نفس مصير من سبقوه من خيبة وفشل. وكل ما أستطيع أن أختم به أن أؤكد بكل ثقة أن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وأنه حتما سيتم نصره ويخذل كل من عادى له وليا، فهو نعم المولى ونعم النصير.