أثارت أحكام محكمة النقض في الأشهر الأخيرة قلقا واسعا في مصر ، وأذكر أني حضرت أكثر من مجلس لنخبة من المثقفين والسياسيين كان الحديث فيها عن هذا السيناريو المتكرر من أحكام تقضي بنقض أحكام إدانة رموز مبارك ، إضافة إلى أحكام تبرئة قيادات ومتهمين متورطين في قتل المتظاهرين أو متهمي موقعة الجمل ، هناك من أبدى قلقه وشكوكه حول هذا "التوجه" ، والبعض حاول ربطه بعملية تسييس القضاء التي وضحت بصورة مروعة في الأشهر الأخيرة وكانت مشاهدها واضحة للغاية في اجتماعات دار القضاء العالي ونادي القضاة والتصريحات والحوارات والصدامات ، وهو ما جعل كل المخلصين في مصر يحذرون من موجة تسييس القضاء لأنها خطيرة ، وتهدد قدسية الأحكام وثقة الناس فيها ، ويبدو أننا بدأنا نجني الحصاد المر لهذه الفوضى التي ضربت مؤسسة العدالة والسمعة غير الحسنة التي اقتربت من رموز العدالة ، غير أن نقض أحكام محاكمة مبارك ونجليه وقيادات الداخلية تأتي في تقديري منطقية ومتوقعة ، ليس كجزء من سيناريو البراءات لرموز النظام السابق ، وإنما أي قراءة في حكم محكمة الجنايات والمقدمة التي قالها الرجل الفاضل رئيس المحكمة ، كانت تؤكد بأن الحكم سيتعرض للنقض حينما اشتكى رئيس المحكمة من افتقار ملفات القضية لأدلة الاتهام وأن النيابة قدمت له ملفا لا يجد فيه ما يدين المتهمين . بالتأكيد عمليات تحول ملفات المحاكمات كان فيها استعجال ، استجابة لغضب الشارع وفوران الثورة وضرورة تقديم هؤلاء المجرمين الذين أفسدوا مصر للعدالة ، ومن الطبيعي والمنطقي أن ينظر الناس إليهم كمجرمين حتى قبل أن تقضي المحاكم ، لأن الثورة الشعبية المليونية حكمت بالفعل على النظام كله ورموزه ، وإلا ما كانت ثورة ، وعندما أسقطتهم جميعا وأسقطت نظامهم ومؤسساتهم ودستورهم نفسه كانت تعني إدانة النظام كله ، ولكن المحاكم لها أدوات وآليات تختلف عن هذه الإدانة الثورة ، طالما أنك تحاكمهم بمحاكم عادية وليست ثورية ، وبالتالي كانت الملفات قد أعدت على استعجال ، كما أن "الدولة العميقة" لعبت دورها في إخفاء أدلة وطمس ملفات وتضليل العدالة من المنبع ، وهو ما أشارت إليه المحكمة ، كما أن النائب العام السابق عبد المجيد محمود لم يكن مؤهلا بأي شكل من الأشكال ليكون هو ممثل الشعب في تلك القضية لأنه ببساطة جزء لا يتجزأ من نظام مبارك القمعي الذي أفسد البلاد وتستر على الفساد وظلم كل من عارض مبارك وكان سببا في الزج بعشرات الآلاف خلف قضبان السجون أو دفع بهم إلى أعواد المشانق ، وبالتالي كانت نكتة سخيفة أن يكون هذا الرجل هو المنوط به النيابة عن الثورة في تجهيز ملف إدانة نظام مبارك . على كل حال ، النقض يعني أن المحاكمة تبدأ من جديد ، وتعني أن الملفات تعود للانفتاح من جديد ، والمؤكد أن ملفات جرائم مبارك وأركان حكمه بعد جهود لجنة تقصي الحقائق ستكون أكثر دقة وثبوتا ، وستساعد القضاء على أن يصدر الحكم الأكثر عدلا في هذه الطغمة الفاسدة .