هروبًا من التوترات السياسية، وأكاذيب الإعلام، وأساليب نهش لحم مصر، والنذالة والانتهازية، ووجع القلب، اسمح لى سيدى القارئ أن أناغش حضرتك بحديث ساخر من معجم (البسيولوجي) أو علم النفس البسيوني، عن ابن آدم ككل، وهو كائن معقد، مليء بالأسرار، وبالعجائب، والإبداع الإلهي. وهو – بالتأكيد - ليس مجرد هذا الجسم والشعر والدم والأجهزة المعروفة، بل إن هذه الأشياء هى وعاؤه المادى فقط/ الظرف الذى يحتويه/ الشاسيه الذى يحمله، لكن عجائبه لا تنقضي، وأسرار الله تعالى فيها تملأ نفوس العارفين دهشة (وفى الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم؛ أفلا تبصرون؟!). وتزعم أنك جِرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ لكننا - بقصورنا - نعامل هذا الوعاء المادي/ الجسد وحده على أنه هو الإنسان كله: نريحه، وندلِّعه، وننفخه، ونكيِّفه، ونفسِّحه، ونَسْطِله، ونزوجه، ونداويه، ونطعمه أحلى الطعام، ونكسوه أشيك الكسوة، ناسين تمامًا أن هذا وحده ليس الإنسان، بل إن ابن آدم هو مجموعة من أجزاء أهم من مجرد الجسد، لن يكون بغيرها إنسانًا كاملاً: o فهو هذا الجسد الطينى المحب للشهوات.. o ثم هو العقل الذى نال به التكريم والسمو.. o وهو القلب الذى يصير به آدميًّا لا حيوانًا مفترسًا.. o وهو الروح التى تعطيه الحياة الحقة، والنفحة النورانية.. o وهو الوعاء الزمنى الذى يحتوى الوعاء المادي! فهو إذن خمس حتت، أو خمسة أجزاء، كل منها يحتاج إلى إشباع، ورعاية، بشكل متوازٍ متوازن؛ وإلا صار حمارًا أو أقل، وفقَد من إنسانيته بمقدار ما أهمل: قد يفقد عقله، أو يخسر قلبه، أو يجنى على روحه، أو يهدر عمره، أو يؤذى جسده، وهو فى هذا كله خاسر لما لا يعوَّض ولا يقدَّر! هذه هى المعادلة التى تحتاج إلى وقفة قارئى العزيز، ودعنا نتحاور حولها قليلاً: ولنتفق أن الآدمى ذو قلب يحتاج للخفقان، وعاطفة تحتاج للإشباع، تمامًا ككل شيء فينا، وإن لم تشبع اضطرب الحال، وغاب الاستقرار. يحتاج كل منا أن يحس أنه مرغوب، أن يُحِب وأن يحَب، أن يميل وأن يمال إليه، أن يحس بشوق لزوج، ولصديق، ولأب، ولابن، ولمكان، ولوجه، ولحدث. ولو لم تعتلج هذه المشاعر فينا، ولو لم تخفق هذه القلوب بأحاسيسها المختلفة - الجميلة والأليمة - لما كان الإنسان إنسانًا، ولما استحق أن ينتسب لدين، ولا لمكارم ولا لبشرية: إن نفسًا لم يُشرقِ الحبُّ فيها....هى نفسٌ لم تدرِ ما معناها أنا بالحب قد وصلت إلى نف.....سى وبالحب قد عرفتُ اللهَ وهذه العاطفة تحتاج دومًا لإشباعٍ ورِي؛ ما دام الإنسان حيًّا: يحتاج القلب أن يدق لأنثى يريدها، وأن يشتهى ولدًا تقر به عينه، وأن يحن لعزيز، وأن يحلم بحياة افتراضية ملأى بالبهجة والسلام؛ بل يحتاج حتى لأن يكره، ويغضب، ويثور، وينفعل، ويتمنى، ويهفو، ويحلم، ويتمادى؛ كى يحس بالرغبة فى الحياة، ويقاوم من أجل البقاء والاستمرار، ويجد الحافز للانطلاق والمواجهة، وإلا لو كان أحدنا مجردًا من هذا كله: فهل سيحب الحياة؟ هل سيكون سويًّا؟ بل هل سيكون إنسانًا أم ضبعًا خسيسًا؟! وإشباع هذه العواطف لا يكون إلا بالتفاعل الراشد مع الناس، والارتباط بهم، وإرضائهم، والاهتمام بأفراحهم وأتراحهم، والحرص على نفعهم، والتسابق على العطاء لا الأخذ، والمسامحة لا المشاحة، والفضل لا العدل. يعنى نظام حقى وحقك لا يبنى حبًّا أبدًا! النظام البراجماتى النفعى الانتهازى الغبي.. لأ! نظام المعاملة الإنجليزى - كما يقول المصريون -: أنا ما اتخمِّش/ محدِّش يضحك علي/ أنا لحمى مر/ اللى يخرم لى عين أخرم له اتنين! هذا نظام لا يجعل الإنسان إنسانًا؛ ولا يثبت العلاقات، ولا يؤسس لعالم وديع بهيج مسالم؛ بل يؤرث العداوات، ويجرح العواطف، ويجعل بعضنا متربصًا بشكل دائم ببعضنا الآخر، ويا لها من حياة! نظام الخشونة والتجهم وغلظة الوجه والكبد والسلوك (شيء يطفِّش)، ويجلب كره الناس ونفورهم، دونما شك. وقارن أخى بين رجل طلق الوجه، بشوش العبارة، دائم الابتسام، مادّ اليد، مبادر بالتحية، وبين كائن غِلِس/ غِتِت/ كشِر/ طارد للمودّة: أيهما يكون دواءً للقلب، وأيهما يسبب النزلة المعوية إذا رأيته؟ أى الاثنين خير؟ الرجل الذى شعاره: كل الناس حلوين/ وعلى الدنيا السلام/ من سلم الناس من لسانه ويده؛ أم الذى يقول دائمًا: إذا لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب؟! ولا شك أن أولى الناس بالبشاشة أهل الدين، فقد كان أكثر حديثه صلى الله عليه وسلم تبسمًا.. وهو الذى علمنا أن الابتسامة قربة وثواب: [تبسمك فى وجه أخيك صدقة]! والذى وصفته التوراة بأنه [ليس بفظ ولا غليظ] وقال فيه القرآن: {ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.. تمامًا عكس الصورة السافلة التى يجسدها الإعلام للمتدين المسلم، بأنه دائمًا ثقيل الدم، مكشر، عدواني، غضوب، هجّام، أناني، انتهازي، ودنيء؛ حتى بغّضوا دين الله تعالى لعباد الله.. ولم تقصر وسائل إعلامنا (المستنيرة) فى تجسيد هذه الصورة منذ سبعة أو ثمانية عقود - وليس الأمر جديدًا كما يُعتقد – وأنا شخصيًّا لو ظننت أن دينًا موجودًا فعلاً بهذا البشاعة التى يصورها الإعلام عن المسلم والإسلام (لطفشت) فعلاً، ولكرهت الدين الذى يدعو إليه، لأنه نموذج للتدين وللبشر لا يطاق. والحق أن بعض المتدينين قد يشجعون هذه الصورة الكالحة بوجوههم (اللى تقطع الخميرة م البيت) وقد يتصرفون تصرفات تستفز، وتثير التقزز، لكن مَن هؤلاء فى المتدينين؟ وما نسبتهم فى الصالحين؟ وما صلتهم بأخلاق الأنبياء والعلماء والدعاة؟ وإذا كانوا هم الأصل فلماذا ينتشر الإسلام، ويدخل إليه الناس على اختلاف مستوياتهم؟! لماذا يقبل عليه الناس رغم حملات التشويه، والسعار الرهيب الذى يبديه نحوه كثير من أبنائه قبل أعدائه؟ فلنواصل الإبحار مع الإنسان فى سموه وانحداره.. ويا رب ارفع هممنا، وأقدارنا، وأحسن عندك عاقبتنا، وارض عنا، وأرضنا، وأرض بنا.. يا كريم. [email protected]