أزعم أن التيار العلمانى المصرى بجميع تجلياته وتنوعاته وأطيافه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يعانى من أزمة استمرارية التواجد بعد أن عاشت قرونًا مستندة على حائط السلطة دون أن تكلف نفسها عناء الالتحام بالجماهير إلا عبر أحاديث نخبوية غير مفهومة لغالبية الشعب المصرى الذى كان عصياً على الاختراق العلماني لهويته وعقيدته وإرثه الحضاري والثقافي وأبرز مظاهر الأزمة المستمرة حتى اليوم هى عدم وجود المشروع العلمانى الصريح للتعامل مع تحديات الواقع وتطلعات المستقبل بعد أن تفرغت القوى العلمانية لمناكفة الإسلاميين ومخالفة الرئيس فى قراراته وآخرها قرار إبعاد النائب العام لمنصب آخر وهو القرار الذى كانت تلح عليه القوى العلمانية قبل بسويعات قليلة وفور صدوره تحول معظمهم إلى رفضه وإدانته !! فالتيار العلمانى كان يعلم فى قرارة نفسه أنه لن يجد له صدى فى المجتمعات العربية والإسلامية لذا لجأ إلى التحالف مع السلطات القائمة رغم وحشيتها وسلطويتها وكان بمثابة الهراوة الفكرية والإعلامية التى تمهد الطريق للقصف الأمنى المكثف، وحملات البطش والقهر التى اختصت تقريبًا بالإسلاميين دون غيرهم. حاولت العلمانية بحد السيف وقهر السلطة أن تجد لها موضع قدم فى المجتمعات الإسلامية والعربية ولم تلزم نفسها آداب النزال الفكرى والمجادلة العلمية وضوابط الديمقراطية وأصول التعددية، بل باركت كل خطوة سلطوية غاشمة استهدفت الإسلاميين سواء بالسجن أو القتل أو الإعدام، وتكفلت لها السلطة بتفريغ الساحة من كل المناوئين لها وتركتهم يمرحون ويسرحون فى وسائل الإعلام والثقافة والتعليم بل والأوقاف!! ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعًا فى إيجاد موضع القدم الذى يبحثون عنه. بل إن تاريخ المنطقة العربية والإسلامية بعد ثورات التحرير فى منتصف القرن الماضى كان نموذجًا صارخًا فى التحالف السلطوى مع الأصوات العلمانية لمصادرة مشروع النهضة الإسلامى وسحق المنتمين إليه، حدث هذا فى مصر بعد تحالف الشيوعيين مع عبد الناصر، وفى تونس بعد تحالف النخب العلمانية مع الجبيب بورقيبة، والجزائر التى كانت ثورتها ضد الاحتلال الفرنسى ثورة إسلامية وطنية وما أن رحل المستعمر الفرنسى إلا وتحالفت النخب العلمانية والفرنكفونية مع السلطة الغاشمة لسحق الصوت الإسلامي وتغييب البعد الحضاري للشعب الجزائري... ولم تتورع العلمانية الجزائرية فى التحالف مع الجيش للقيام بالانقلاب الشهير عام 1990 بعد الفوز الساحق لجبهة الإنقاذ الجزائرية فى الانتخابات التشريعية. كما حدث وبصور صارخة فى تركيا التى كانت مثالاً للأصولية العلمانية الغاشمة التى أسست وجودها على حماية الجيش التركى لها ولم يتورع الجيش التركى عن استخدام "بيادته" الثقيلة لسحق كل من تسول له نفسه أن يشرئب بعنقه ناحية الإسلام، أو من تحدثه نفسه مجرد حديث بالحنين إلى الإسلام ففى مايو 1960 دبر ضباط وطلاب عسكريون من اسطنبول وأنقرة انقلاباً للمطالبة باصطلاحات سياسية، أعدم على خلفيتها ثلاثة وزراء سابقين من بينهم رئيس الوزراء عدنان مندريس والذى تردد حينها أن خطيئة مندريس الكبرى غير المعلنة آنذاك هى سماحه بعودة الأذان باللغة العربية بدلاً من التركية التى فرضها أتاتورك وهو الأمر الذى نظر إليه الجيش على أنه خروج على العلمانية الأتاتوركية. وفى يونيو 1997 اتهم معارضو رئيس الوزراء نجم الدين أربكان رئيس الوزراء بأنه يمثل خطرًا على النظام العلماني للبلاد وضغط الجيش بكل ثقله وأرسل رسائل لأربكان -رحمه الله - تحذره من مغبة الاستمرار فى منصبه فاضطر أربكان إلى الاستقالة. وقد بحثت بعض الأصوات العلمانية عن "حد السيف" مرة أخرى كى يؤمن لها البقاء بعد أن شعرت أن بقاءها بات فى خطر بعد رفع الغطاء السلطوى، وبعد أن عاد الاختيار للشعب وباتت صناديق الاقتراع هى الحكم والفيصل بعد ذلك.. فكان الرهان المستمر على وجود المجلس العسكرى والمحاولات الدؤوب التى بذلوها لجعل "الجيش" حاضراً وبقوة فى الحياة السياسية. وهكذا فإن العلمانية بعد رفع غطاء الحماية السلطوى الغاشم وجدت نفسها لأول مرة أمام اختبار العمل الجماهيرى الذى استغنت عنه لعقود طويلة فهل تتمكن من تعديل أوضاعها استجابة لتطورات الأحداث وتغير الأوضاع.. وتتصالح مع هوية الشعب المصرى أم تظل تبحث عن طريق جديد تستنسخ فيه "حد السيف"؟!! [email protected]