رغم أن الإعلام فى عمومه مدارس، منها الجاد والمهنى، ومنها المبتذل والدعائي، إلا أنه لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الإعلام المصرى فى حياتنا العامة والخاصة على السواء. ولعل تجربتنا الإعلامية الغضة فى الخمسينيات، ونجاحها فى بناء وتفعيل الدور المصرى الخارجى، يؤكد الدور المهم الذى يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام فى رسم سياسات الدول وتنفيذها. غير أن الإعلام فى بلدنا ظل لعشرات السنين قائمًا على التسطيح السياسى والفكري، وعلى التحريض والإثارة وصناعة الجماهير النائمة والمغيبة. فلعب دورًا فى خنق الحقيقة وإخفائها، عبر التعتيم عليها وتزييفها. فوظيفة الإعلام القائمة على الإخبار والتثقيف والترفيه لم يلتفت إليها أحد لفترات طويلة قبل الثورة. حيث اندفعت قطاعات كثيرة من إعلامنا فى التركيز على الشق الترفيهى فقط. فحدث تجريف سياسى وثقافى منظم للوعى على مدار الخمسين عامًا الأخيرة. ومع ذلك، فإنه لا أحد ينكر الدور الذى لعبته وسائل الإعلام، الحكومية منها، والمستقلة والحزبية والخاصة، بأنواعها المرئى والمسموع والمكتوب والإلكتروني، فى صياغة التحولات السياسية التى شهدتها مصر فى السنتين الأخيرتين. فقد لعب الإعلام بشكله المباشر وغير المباشر، دورًا مبرزًا فى التوعية السياسية والتحريضية، وفى تأجيج حركة الرفض والاحتجاج للنظام القائم. ومع أن مخرجات السياسة التعليمية الفاشلة، وليس الإعلام وحده، يمكن اتهامها بهذا التجريف، إلا أن سيطرة أصحاب المصالح على النظام السياسى والإعلامى انتهى بنا إلى دولة الظلم والمظالم، وساعد فى إنتاج جماهير نائمة ومغيبة فى غالب الأحيان. ومع كل سوءات الإعلام المصرى فى السنوات الأخيرة، إلا أنه كان شريكًا فى صناعة الثورة، وفى صناعة الأخبار وتغطيتها وترويجها عبر الداخل والخارج. تلك الأخبار التى كانت محتكرة فى السابق لعدد محدود جداً من وكالات الأنباء الغربية والأجنبية. ومع أن التغطية التليفزيونية الرسمية ثبتت كاميراتها على الرواية الرسمية للحدث بعيدًا عن ميادين الثورة، والأخرى غير الرسمية ثبتت كاميراتها على ميدان التحرير فقط، وتجاهلت ما يحدث من ثورة فى بقية المحافظات، إلا أن الصورة المنقولة فى عمومها لعبت دورًا مهمًا فى حماية المتظاهرين، وفى كشف الانتهاكات وفضحها. وساهمت فى انضمام جموع المصريين للثورة، فكان النجاح الباهر. هذا الإعلام المحرض غير المباشر على الثورة، شارك من قبل فى شغل الجماهير المصرية شغلا تامًا بالكرة والأفلام والمسلسلات. وفى ظل فترة الانشغال هذه، تم تفصيل القوانين، وبيعت شركات القطاع العام، وأهدرت حقوق المصريين وانتهكت أعراضهم، وباتوا مشردين فى العشوائيات والشوارع. فكان سهلا أن يصبحوا جماهيرًا نائمة مغيبًة لا تهتم إلا بمتابعة نتائج مباريات الكرة المحلية والعالمية. لقد استطاع الإعلام المحرض على الهلس والجهل، والمحَبِب للكرة والفن، أن يصنع جماهيرًا مغيبًة ونائمًة لا تهتم بمصالحها أو بمصالح بلدانها وأمتها فقط. بل شارك فى إنتاج جماهير لا تعرف أين تذهب؟ ومن أين تأتى؟ فجماهير الرياضة والغناء والرقص وأفلام البرنو لا يمكنها إقامة دولة سوية، ولا إقامة حياة اجتماعية سليمة. وكذا الأمر فإن جماهير التنظيمات السياسية والحقوقية الممولة من الخارج، لا يمكنها صناعة وعى سياسى حقيقى. لأنها تعلمت بالأساس الصراخ والهتاف دون الإحاطة والوعى بما تقول. وهؤلاء جميعًا ثبت عمليًا أنهم لم يكونوا يومًا ما قواعد حقيقية للاحتجاج والرفض، ولا من دعاة الثورة والانقلاب على النظام القائم. فإذا نظرت إلى جماهير الكرة والغناء، على سبيل المثال، فإنك تدرك مدى الجرم الذى ارتكبه الإعلام المحرض على تنويم الجماهير والتحكم فى إرادتها. حيث ظلت هذا الجماهير تؤمن بأن الكرة والرقص هى حياتها وشقاؤها وجنتها ونارها. جماهير صنعتها وسائل الإعلام لتتابع حركة أرجل اللاعبين وتثنى الراقصات وتمايلهن بشغف ودقة. وذلك بفضل الشروح الكثيرة والتعاليم التى قدمها المحللون والفنيون قبل المباريات وبعدها مرارًا وتكرارًا. تلك الجماهير هى نفسها التى يلعب عليها الإعلام الآن لإعادة السيطرة على عقولها وتغييبها مرة أخرى. فهم يريدون جماهيرًا مؤمنة على طول الخط، بقيمة ما يقدمونه من هلس وإباحية. لتظل جيوبهم ممتلئة بالأموال وخزائنهم معبئة بالماس والذهب والدولارات. جماهير لا تعرف إلا الشراب وكئوس الخمر، وتصعيد هذا اللاعب أو ذاك، وتنجيم هذه الفنانة أو تلك. جماهير بعيدة كل البعد عن نياشين الشرف والعزة والفخار. لقد أفلح الإعلام عندنا فى صناعة جماهير تبكى الحب ولا تبكى الوطن الضائع. جماهير ترق لغانية أو راقصة تعرضت لسرقة، ولا تفجع لأنات المعتقلين وآلامهم فى السجون والزنازين. جماهير تُشيع جنائز الفنانيين واللاعبين ولا تمشى فى جنائز العلماء والأبطال. جماهير تتسابق فى تصفيات المغنيين واللاعبين، ولا تتسابق فى الذهاب للمساجد وساحات المعارك والوغى. جماهير تشتهى العرى والرقص وترفع أهله، وتكره الحشمة والوقار وتلعن الداعين لها. لا يرضى هذا الإعلام المغرض والقذر أن تظل قوى الشعب منظمة وواعية، تطالب بحقوقها وتجتهد فى نيل حريتها وكرامتها. ومن المؤكد أننا لا نريد هذا الإعلام المحرض على التنويم المغناطيسى، لينتج قطعانًا هائمًة خانعًة تساق إلى اليمين تارة، وإلى اليسار تارة أخرى. بل نريد إعلامًا جادًا يحرض على الإصلاح، ويقدم لنا العلماء والمفكرين ودعاة التغيير. الجماهير النائمة يا سادة لا تحمى دولة أو تصنع حضارة أو تقدم. وكذا فإن الإعلام غير الملتزم، يعيد إنتاج نفس الجماهير النائمة، لا لتخضع هذه المرة للسلطان القائم، بقدر ما تخضع لما يمليه نفوذ رجال الأعمال الخمسة الذين يتحكمون فى المشهد الإعلامى، ليقودونا جميعًا لكوارث وانهيارات قادمة على كل الأصعدة. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة