بعد قيادة العالم لمدة تزيد عن الستين عامًا دخلت الولاياتالمتحدة فى أزمة اقتصادية طاحنة قد تطيح بها من موقع صدارة الاقتصاد العالمى فى غضون عدة عقود قليلة، ومع تزايد العجز فى الميزان التجارى الأمريكى ليصل إلى700 مليار دولار فى الفترة من 2003 إلى 2008، أخذت مراكز البحث العالمية تفكر فى احتمالات تبوأ منطقة شرق آسيا لمقعد قيادة الاقتصاد العالمى. وليس هذا بغريب فدول شرق آسيا التى تضم اليابان والصين وتايوان وكوريا الجنوبية لديها فائض تجارى هائل يمثل 45% من العجز فى الميزان التجارى الأمريكى. ويشير عدد كبير من علماء الاقتصاد إلى أن النمو الاقتصادى السريع لدول منطقة شرق آسيا فى النصف الثانى من القرن العشرين إنما يعود إلى إستراتيجية الاعتماد على الصادرات، وحماية الشركات المحلية من المنافسة الأجنبية.. ومن خلال تطبيق تلك الإستراتيجية استطاعت حكومات تلك الدول تسريع عملية اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة فى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية عن طريق توجيه مواردها المحدودة لتمويل عدد صغير من الصناعات الإستراتيجية المختارة بعناية، واستيعاب التكنولوجيا المتقدمة وتوطينها.. وقد ساهم التوسع فى الصادرات فى تعزيز النمو الاقتصادى لديها من خلال تسهيل انتقال المعدات ورأس المال الأجنبى، ومن خلال زيادة الإنتاجية، وتقليد التكنولوجيا الغربية، ثم من خلال نجاحها فى التنافس بقوة فى الأسواق العالمية.. وبالإضافة إلى هذا، فقد ساهمت السياسات الحمائية القوية التى طبقتها تلك الدول لحماية أسواقها وشركاتها المحلية فى منح تلك الشركات الفرص الكافية لكى تنمو وتقف على قدميها بثبات ورسوخ. ومع دخول الاقتصاد اليابانى فى ركود طويل فى أوائل عقد التسعينيات من القرن الماضى، وتدهور اقتصاد الدول الآسيوية نتيجة للأزمة المالية الآسيوية فى عام 1997- 1998تزايدت الشكوك حول معجزة النمو الآسيوية. وقد ساهمت هاتان الأزمتان فى إثارة الجدل من جديد حول مصادر النمو فى اقتصاديات النمور الآسيوية، وانقسم علماء الاقتصاد إلى فريقين، فريق أول يرى أن ذلك النمو الاقتصادى السريع إنما يرجع بدرجة كبيرة إلى تراكم مدخلات الإنتاج، وفريق ثانى يفسر ذلك بالمعدل السريع للتغير التكنولوجى الناتج عن انتقال التكنولوجيا الغريبة وتوطينها فى الدول الآسيوية. وإذا نظرنا إلى الصين فى عام 2009 نجد أنها قد أصبحت الاقتصاد الثانى فى العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية.. وقد نجحت الصين خلال الثلاثين سنة الأخيرة فى انتشال400 مليون نسمة من بين براثن الفقر فى إنجاز غير مسبوق، وتجاوزت روسيا لتصبح ثانى أكبر دولة من حيث الإنفاق على التسلح.. ومن الناحية السياسية أصبحت هى المدير المنظم للمحادثات السداسية مع كوريا الشمالية، كما تزايد حضورها المؤثر فى القارة الآسيوية.. إلا أن تلك النجاحات لا تعنى أن الصين لا تواجه أى تحديات للاستمرار فى صعودها إلى مرتبة الدولة الثانية اقتصاديًا فى العالم.. ومن أبرز هذه التحديات: الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وبين المناطق الساحلية المتقدمة وبين المناطق الغربية المتزايدة الفقر، والتدهور البيئى الشديد، والنقص الحاد فى المصادر الداخلية للطاقة وللمياه. أما اليابان فقد ظلت هى الاقتصاد الثانى فى العالم من منتصف الثمانينيات حتى عام 2008، وذلك بفضل قوتها العاملة عالية التأهيل، والجودة الفائقة لنظامها التعليمى، ومعدلات الادخار المرتفعة، وتشجيع التنمية الصناعية المكثفة، والحجم الهائل لصادراتها حيث بلغت قيمة صادرات اليابان للولايات المتحدةالأمريكية فقط 145مليار دولار فى عام 2007، وليس هذا بغريب فى دولة يوجد بها 700 ألف باحث يحصلون على تمويل يبلغ 130 مليار دولار، الأمر الذى يجعل اليابان ثالث أكبر دولة فى العالم من حيث المبالغ المخصصة للبحوث والتطوير.. ويعتبر انخفاض نسبة الخصوبة هو التحدى الأكبر الذى يجب على اليابان مواجهته، فبحلول عام 2030 سوف ينخفض عدد السكان ليصل إلى 90 مليون نسمة مقارنة ب127مليون نسمة فى عام 2008. وسوف يؤدى هذا النقص الكبير فى عدد السكان والمقدر ب 37 مليون نسمة خلال عقدين فقط من الزمن إلى انخفاض الإنتاجية والصادرات، وتقليل قدرة اليابان على المنافسة الاقتصادية الدولية مع الصين والولاياتالمتحدةالأمريكية. وإذا نظرنا إلى كوريا الجنوبية، التى تمثل الاقتصاد الحادى عشر فى العالم من حيث القوة، نجد أن النظام التعليمى الذى يعتمد على المنافسة الشديدة، والقوة العاملة ذات المهارات المتقدمة، والفجوة شديدة الضيق بين الأغنياء والفقراء كانت هى العوامل الرئيسية التى ساهمت فى تحويلها من دولة نامية فى أوائل الخمسينيات لتصبح إحدى الاقتصاديات القائمة على المعرفة.. وتفخر كوريا الجنوبية بأن تلاميذها يحتلون المرتبتين الأولى والثانية من حيث التفوق فى مادتى العلوم والرياضيات، كما تعتبر من أفضل ثلاث دول فى مجال صناعة تكنولوجيا المعلومات.. وتعتبر الدولة الحادية عشر على مستوى العالم من حيث حجم صادراتها.. وقد وعد رئيسها (لى ميونج باك) فى ديسمبر 2007 برفع نصيب الفرد من الدخل القومى إلى 40 ألف دولار أمريكى سنويًا، وجعل كوريا الجنوبية الاقتصاد السابع فى العالم من حيث القوة بحلول عام 2017. وقد احتلت تايوان المرتبة العشرين والرابعة والعشرين من حيث قوة الاقتصاد على مستوى العالم فى عامى 2004 و2007 على الترتيب.. وقد تحولت تايوان من دولة نامية مستقبلة للمعونات المالية الأمريكية فى الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين إلى دولة مانحة ومستثمر دولى كبير فى الدول الأخرى، حيث تستثمر تايوان 150 مليار دولار فى الصين، بالإضافة إلى مبلغ آخر مماثل فى دول منطقة جنوب شرق آسيا.. وقد ساهمت سياسات الإصلاح الزراعى، والتخطيط الحكومى الرشيد، والتعليم عالى الجودة فى تحسين الإنتاج الزراعى، وفى رفع مستوى المعيشة.. ومثل غيرها من النمور الآسيوية اعتمدت تايوان على الصادرات كمحرك للنمو الاقتصادى، وانتقلت من الاعتماد على الصناعة كثيفة العمالة (مثل لعب الأطفال والمنسوجات) فى الخمسينيات والستينيات إلى التوسع فى الصناعة الثقيلة فى السبعينيات، ثم إلى صناعة الإلكترونيات والحاسبات الآلية فى الثمانينيات من القرن العشرين.. وقد حققت تايوان فائضًا تجاريًا مع الولاياتالمتحدة فقط بلغ 8.7 مليار دولار فى عام 2008. وتهدف الحكومة إلى رفع نصيب الفرد من الدخل من 20 ألف دولار عام 2009 إلى30 ألف دولار فى عام 2015، وذلك عن طريق رفع جودة مهارات وخبرات القوة العاملة، وتدعيم الشراكة بين نظم التجديد الأكاديمى والصناعى، وتحسين البحوث والتطوير، ورعاية المواهب التقنية والمهنية، وتوفير البيئة الحاضنة للمتفوقين، وتعزيز الاقتصاد القائم على المعرفة والتجديد والابتكار والاختراع. وتشير تقديرات المعهد اليابانى للبحوث الاقتصادية إلى أن الاقتصاد الصينى سوف يتجاوز الاقتصاد الأمريكى واليابانى والكورى والروسى، فى حين تشير دراسة أخرى إلى أن حجم الاقتصاد الصينى سوف يصبح ضعف الاقتصاد الأمريكى بحلول عام 2030، وأن بداية الصدارة الحقيقية للاقتصاد الصينى سوف تبدأ فى عام 2018. إن حقيقة أن الاقتصاد الصينى واليابانى والكورى الجنوبى والتايوانى سوف يعادلون الاقتصاد الأمريكى واقتصاد دول الاتحاد الأوروبى مجتمعين يعنى أن على صانعى القرارات الاقتصادية ومتخذى السياسات المالية فى الوطن العربى أن يقوموا من الآن فصاعدًا ببلورة وتنفيذ شراكات إستراتيجية مع تلك الاقتصادات الآسيوية العالمية الأربعة الكبرى.. وبالإضافة إلى هذا، فإن على واضعى السياسات التعليمية فى مصر من الآن القيام بتنفيذ توصيتين لا مناص من تطبيقهما: الأولى التركيز على تدريس تاريخ وثقافات هذه الدول فى المناهج الدراسية، والثانية هى تدريس اللغة الصينية أو اليابانية كلغة أجنبية ثالثة منذ بداية المرحلة الثانوية وحتى نهاية مرحلة التعليم العالى. إن تدريس إحدى هاتين اللغتين الآسيويتين لمدة 7سنوات على الأقل ضرورة لا غنى عنها للدول العربية؛ للمشاركة بفعالية فى حركة الاقتصاد العالمى الذى سوف تقوده الدول الآسيوية بداية من عام 2020 فصاعدًا.