كتب أحد غلاة الاستئصاليين في الجزائر، و الذي هو مدير صحيفة ناطقة بالفرنسية معاتباً الرئيس بوتفليقة، و محذراً كل من أسماهم بالمعسكر الجمهوري، بما أن الاستئصاليين عندنا يعدّون أنفسهم حماة النظام الجمهوري، يقول: "يتعين على كل الديمقراطيين في كل مستويات الدولة، أن يضغطوا على بوتفليقة في سبيل أن يتراجع عن هذه الخطوة الخطيرة التي أقدم عليها بتعيينه عبد العزيز بلخادم على رأس الحكومة، مع ما يمثله هذا الاسم من تنازل كبير عن كل قيم الجمهورية، و تراجع مؤسف عن كل ما تحقق في إطار الحرب على الأصولية الإرهابية". تحدثت في مقال سابق(1)على أن الطبقة السياسية الجزائرية -في عمومها- هي ذات أثر استهلاكي لا دور له غير تسويق ما يجري اعتماده في مراكز القرار عندنا، و الدليل على ذلك ما صاحب هذا التعيين من تناقضات فاضحة؛ إذ يكفي مثلاً أن نورد هنا أن السيد بلخادم صرح مباشرة بعد أن أُعلن عن تعيينه في منصب رئيس الحكومة أنه سوف يباشر عملية المشاورات مع مختلف التشكيلات السياسية في الجزائر؛ لأجل البدء في تشكيل الطاقم التنفيذي، ثم لم يتطلب الأمر بعد هذا التصريح الابتدائي غير فترة لم تتجاوز الأربع و عشرين ساعة، لتخرج علينا وكالة الأنباء الرسمية بخبر مفاده أن الرئيس بوتفليقة قبل التشكيلة الحكومية الجديدة، و التي لم يتغير منها أي شخص، باستثناء رئيس الحكومة أويحيى، ووزير وحيد في منصب ثانوي في دلالة مباشرة على أن السيد بلخادم نفسه لم يكن يعلم أن الحكومة الجديدة التي سوف يتولى شأنها لن يستدعي أمر تشكيلها أي مشاورة مع أي طرف كان. هذه صورة ذات دلالة كبيرة على ما قلناه في شأن الطبقة السياسية، فما الذي وقع حتى تتسارع الأمور بهذا الشكل، و تخرج حرب الكواليس إلى العلن؟ هل مجرد أن أقدم الدكتور أنور نصر الدين هدام القيادي في الجبهة الإسلامية للإنقاذ على كتابة بيان صحفي أعلن فيه مباركته لخطوة تعيين بلخادم، كان كفيلاً بأن يشعل فتيل الكتابات الملتهبة التي أعادت بعث ذكريات سنوات المأساة الوطنية، حين لم يكن مسموحاً وقتها لأي كان الحديث عن المصالحة؟ حتى إن هذا اللفظ الأخير وقتها كان في قواميس الصحف التي تبنت الخطاب الاستئصالي، مرادفاً لكلمة الخيانة العظمى و التنكر لقيم و مبادئ ثورة التحرير، و ما إلى ذلك من تهم جاهزة كانت تُلقى على كل من يرى أن خيار المواجهة بين الجزائريين لم يكن قدراً محتوماً، و أن هنالك طرائق أخرى للوصول إلى حلول لا تمر بالضرورة عبر جثث آلاف القتلى التي يجهل الكل -لحد الساعة- عددهم الحقيقي. لو سألت أي جزائري عن السبب الحقيقي الذي من أجله تقرر تعيين السيد بلخادم على رأس الحكومة لما وجدت أي خلاف بينهم، بمعنى أن الكل يجمع على أن الدور المنوط بهذا الأخير هو التمهيد لتعديل الدستور بصيغة تسمح للرئيس بوتفليقة بأن يضيف إلى مدة ولايته فترة ثالثة لا يمنحه إياها الدستور الحالي الذي اعتمد قبل عشر سنوات في أيام حكم الرئيس زروال أي في عز سنوات الحرب الأهلية. صحيح أن الأستاذ بلخادم نفسه أعلن أن حكومته سوف تتولى هذا الأمر، و لكن الحقيقة من جانب آخر أيضاً لا تستلزم أن يكون التعديل بالشكل الذي يعتقده الجزائريون، و ذلك لأسباب كثيرة من أهمها بلا شك، الحالة الصحية الحرجة التي لا يزال الرئيس بوتفليقة عليها؛ إذ إن الجميع يعلم أن هذا الرجل أضحى واهناً بشكل واضح جداً، على الرغم من أنه يجهد نفسه في كل مرة لأجل ألاّ يلحظ الجزائريون هذا الأمر. فهل يمكننا مع هذا أن نتوقع من بوتفليقة أن يسعى إلى تأمين عهدة ثالثة، و هو نفسه لم يعد قادراً على إتمام الثانية التي لمّا يكمل نصفها، و التي سوف تنتهي في ربيع العام 2009؟ من الواضح جداً أن التفسيرات الإعلامية التي تُساق في هذا الإطار هي بعيدة جداً عن الواقع، و لا يقبلها العقل، بمعنى أنها غير حقيقية بكل بساطة. من الضروري لنا قبل الخوض في استشراف الصيغة الجديدة من الدستور الذي سوف يُقدّم إلى الناخبين أن نعرف أن الدستور الحالي يقول إنه و في حالة شغور منصب رئيس الجمهورية فإن الأمور تؤول إلى السيد رئيس مجلس الأمة -الغرفة الثانية في البرلمان الجزائري- و هذا الشخص في الوقت الحالي هو السيد عبد القادر بن صالح، و هو رجل ينتمي إلى نفس حزب رئيس الحكومة السابق، أو بعبارة أخرى أكثر وضوحاً: عودة حزب أويحيى إلى السلطة و زوال كل ما تحقق في السنوات السبع الماضية من عمر رئاسة بوتفليقة لحد الساعة. فهل يُعقل أن يقبل هذا الأخير بقاء الأمور على حالها؟ صحيح أن بوتفليقة نفسه تحدث في مرات سابقة على أن العهدتين الرئاسيتين التي يحددهما الدستور غير كافيتين لأجل تحقيق التغيير و الإصلاح الذي راهن عليهما منذ مجيئه إلى سدة الحكم في 1999 و لكنه أيضا لم يكن يعلم أن نهاية العام 2005 سوف تعرف تدهوراً خطيراً في حالته الصحية، كفيل بأن يجعل حلم العهدة الثالثة بعيد المنال. من هذا المنطلق يمكننا أن نتوقع أن أهم ما سوف يجري تعديله في الدستور سيكون مشروع استحداث منصب نائب الرئيس بمعنى أنه سوف يكون لصاحب هذا المنصب وفقاً للقانون بعدها، أن يستكمل في حال شغور المنصب الأول، عهدة رئيسه فضلاً عن الترشح لفترتين أخريين كفيلتين بأن تجعل الخط السياسي لبوتفليقة -حتى و إن غاب هو- يستمر في تسيير الجزائر . من الواضح إذاً أن الرئيس بوتفليقة، و كل معسكر المصالحين الذي يقوده يخططون لأجل أن يتولى السيد بلخادم نفسه هذا المنصب الجديد، و لست أستبعد شخصياً أن يعلن الرئيس مباشرة بعد أن يستكمل هذا التعديل، تنحّيه عن الرئاسة لأسباب صحية . في الأسابيع الأخيرة، تواترت تقارير كثيرة تفيد بأن الرئيس بات يحرص شخصياً على إبلاغ القيادات الإسلامية الجزائرية في أوروبا و الولاياتالمتحدة على ضرورة أن تعمد هذه الأخيرة إلى العودة إلى البلاد، في إشارة واضحة إلى أن معسكر الإصلاح كان ضعيفاً جداً في مقابل المعسكر المقابل، بمعنى أن هؤلاء كان يتعين عليهم الرجوع قصد تقوية مشروع المصالحة، و هي الرسالة التي فهمها الدكتور أنور هدام بداية، و هو الذي ما زال يبدي استعداده التام للعودة (2)قبل أن يعلن مؤخراً القيادي الآخر في الجبهة الإسلامية، الأستاذ رابح كبير المقيم في ألمانيا أنه سوف يعود إلى الجزائر بعد نحو شهر من الآن (3)في دلالة مباشرة على أن مساعي الرئيس باتت تؤتي أكلها، خصوصاً بعد أن صار الأستاذ بلخادم -الذي تصفه منابر الاستئصال بأنه "بعثي إسلامي"- على رأس الحكومة، و هو الذي كان دوماً من أشرس المدافعين عن المصالحة كحل وحيد للأزمة الجزائرية منذ أول أيامها مروراً بأحلك أيامها. لعل قرار تعيين السيد بلخادم هو أوضح أمارة على أن الصراع في أعلى دواليب السلطة بين معسكرين متناقضين قد بلغ أوجه؛ إذ إنه من الممكن جداً أن تعود الحالة إلى تجدد المواجهة المسلحة، بما أن أصحاب المصالح لا يزالون مؤثرين إلى حد كبير، و إذا كان أمل الجزائريين في أن تعود بلادهم إلى سابق عهدها الآمن فإن الأمر على صعوبته يتطلب تضافر جهود كل السياسيين من أبنائها بدل التعويل على طبقة من المتزلفين، المتدثرين في لبوس "السياسة"، و الذين لم يدخروا قبل اليوم جهداً في تبني كل أطروحات الاستصاليين الذين أحرقت قريحتهم البلاد و العباد. -------------------------------------------------------------------------------- 1 - انظرْ مقال: في الجزائر: طبقة سياسية يحركها "الريموت كونترول" 2- أعلن ذلك في حوار أجراه مؤخراً مع إحدى الصحف الجزائرية. 3- أعلنت هذا الخبر قناة الجزيرة الفضائية استناداً إلى مصادر قالت إنها "مقربة من رابح كبير". المصدر : الاسلام اليوم