الشيخ الشرقاوى رفض ارتداء الوشاح الفرنسى وداس عليه بقدمه.. واعتقل بسبب انحيازه لثورة الشعب ضد الاحتلال الشيخ الجيزاوى رفض إغلاق الأزهر فى ثورة 19 وعارض تنصيب الملك «فؤاد» خليفة للمسلمين الشيخ المراغى يصيح فى وجه فاروق: «إن المراغى لا يستطيع أن يُحرِّم ما أحل الله» الشيخ البشرى عن رحلة شهر العسل للملك: «تقصير وتقتير هنا وتبذير وإسراف هناك» الشيخ الخضر حسين يرفض الذهاب لصلاح سالم بمكتبه: «يكفينى كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء» الشيخ شلتوت فى نص استقالته ل«ناصر»: لن أسكت على تضييع أمانة الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود يستقيل بسبب تدخلات السادات ويعترض على «قانون جيهان» المخالف للشريعة الشيخ جاد الحق ينتفض ضد «مبارك»: الذى يُحلل أو يُحرم هو الله.. ولن تتغير فتواى أبدًا بتحريم فوائد البنوك الشيخ الطيب يشارك فى عزل مرسى.. ويخالف السيسى فى الطلاق الشفوى وأموال الأوقاف منذ أن بناه جوهر الصقلى فى 4 أبريل 970 م، لا يقتصر دور الأزهر على كونه مسجدًا للصلاة والعبادة، أو دار علم لتلقى علوم الدين، بل تعدى ذلك إلى كونه صاحب مواقف وطنية خلدها التاريخ، بدءًا من محاربة الاحتلال، إلى مواجهة الملوك والرؤساء، وعدم الانصياع لإرادتهم عندما يتعلق الأمر بالوطن والدين، فحفظوا للمصريين وطنهم ودينهم من العبث على مر الزمان. ما لا يعرفه كثيرون، أن منصب "شيخ الأزهر" لم يظهر إلا بعد مرور 741 عامًا على إنشاء الجامع الأزهر، فقد كان النظام المتبع أن ينتخب من بين كبار العلماء ناظر يشرف على شئونه منذ إنشائه إلى آخر القرن الحادى عشر الهجرى، حتى أنشئ منصب شيخ الجامع الأزهر فى عهد الحكم العثمانى ليتولى رئاسة علمائه، ويشرف على شئونه الإدارية، ويحافظ على الأمن والنظام بالأزهر. وفى عام 1101 ه، تولى المنصب لأول مرة الشيخ محمد بن الخراشى الذى كان يلقب ب"شيخ الإسلام"، ومن ذلك التاريخ، تناوب على منصب شيخ الأزهر، ثمانية وأربعون عالمًا، كان آخرهم الدكتور أحمد الطيب، والذى شغل هذا المنصب منذ عام 2010، خلفًا للدكتور محمد سيد طنطاوى. وظل شيخ الأزهر يُنتخب من جانب كبار المشايخ، وفى عام 1911م صدر قانون الأزهر المؤسس الذى أسس "هيئة كبار العلماء" فى عهد مشيخة الشيخ سليم البشري، وتتكون من 30 عالمًا من كبار علماء الأزهر، والذى اشترط أن يكون شيخ الأزهر عضوًا بهذه الهيئة. إلى أن تم حلها عام 1961 فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ليقوم رئيس الجمهورية منذ ذلك الوقت باختيار شيخ الأزهر، ما أضعف دوره، لكون المنصب يخضع فى الأساس لاختيار الرئيس، حتى أعيد إحياء دور هيئة كبار العلماء عام 2012م فى عهد الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر. الشيخ عبد الله الشرقاوى ( 1793م – 1812م) كانت له مواقف شجاعة أثناء الحملة الفرنسية على مصر، وقام محمد على باشا بوضعه تحت الإقامة الجبرية فى محاولة منه للقضاء على نفوذ علماء الأزهر. وكان واحدًا من أعضاء مجلس الشورى العشرة الذين تقرَّب بهم نابليون للشعب المصرى، فقد عاش الثورة وانتفاضتها، وأبلى بلاءً حسنًا فى حفاظه على الأزهر وحمايته، وارتفع إلى زعامة المقاومة الشعبية، وطلب من الحاكم العدلَ بين الناس، ورفع الظلم، وإقامة الشرع، وإبطال المكوس "الضرائب"، ونزل الحاكم على رغبة كتابه. وأمر "نابيلون"، أن يؤدى للعلماء التحية العسكرية إجلالًا واحترامًا لهم، إلا أنه فى إحدى الجلسات طلب من شيوخ الأزهر، أن يصدروا فتوى يدعون فيها الشعب المصرى إلى أن يقدموا له الطاعة والولاء؛ فتصدى له الشيخ الشرقاوى؛ طالبًا تنفيذ وعدِه باعتناق الإسلام، وقال له: "إذا اعتنقت الإسلام انضَوَى تحت لوائك مائة ألف جندى عربى، وتستطيع أنْ تفتَحَ بهم الشرق". واندلعت ثورة القاهرة الأولى ضد "بونابرت"، وانتهت إلى إعدام 80 شخصًا دون محاكمة، إلى جانب قتل عدد من علماء الأزهر، كان من بينهم شيوخ كبار من أمثال الشيخ عبد الوهاب الشبراوى، والشيخ أحمد الشرقاوى، والشيخ سليمان الجوسقى "شيخ طائفة العميان"، و13 عالمًا من علماء الأزهر، وقام جنود "بونابرت" بانتهاك حرمة الأزهر ذاته، ودخلت القوات الفرنسية بخيولهم إلى صحن الجامع. يقول عبد الرحمن الرافعى فى كتاب "الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر"، الجزء الثانى، إن "نابليون" لما عقد الديوان واختار أعضاءه، أمر رئيس الجند بوضع وشاح على أكتافهم دلالة على ولائهم للفرنسيين، ولما حان دور الشيخ الشرقاوى طرح الوشاح أرضًا وداسه ورفض أن يرتديه بدلًا من وشاح الأزهر. وبعدما اكتشف الفرنسيون أنه تجاوب مع الثورة ضدهم، اعتقلوا الشيخ الشرقاوى مع غيره من الزعماء فى سجن القلعة، لكن سرعان ما أخرَجُوه لحاجتهم إليه، وحاول "نابليون" التقرب إليه بكل السبل، ولما قُتل القائد "كليبر" قُبض عليه، استنادًا إلى الرواية التى نقلت أنهم مشتركون مع سليمان الحلبى فى قتله، وتم إطلاق سراح الجميع بعد جلاء الفرنسيين من مصر. الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى (1907م - 1928م) بعد عامين على تولى الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى، منصب شيخ الأزهر، اندلعت ثورة 1919، والتى لعب فيها الأزهر، دورًا مهمًا فى إشعال الثورة الشعبية، وقاد مشايخه صفوف المتظاهرين، وكان الجامع الأزهر منبرًا لإلهاب الحماسة ضد الاحتلال الإنجليزى. ورفض الشيخ الجيزاوى، غلق الجامع الأزهر آنذاك، لأنه كان مقرًا للاجتماعات والمظاهرات، ولعب دورًا كبيرًا خلال تلك الثورة، التى جسدت نموذجًا للوحدة الوطنية والتلاحم الشعبى بين المسلمين والأقباط فى مصر. وعارض، رغبة الملك فؤاد فى تعيين نفسه خليفة للمسلمين بعد إلغاء كمال أتاتورك للخلافة، قائلًا: "إن مصر لا تصلح دار خلافة ما دامت واقعة تحت الاحتلال الإنجليزى". وقال السلطان العثمانى، عبد الحميد الثانى، فى مقدمة مذكراته التى قدمها الدكتور محمد حرب: "أراد الإنجليز أن يكون الخديوى فى مصر خليفةً للمسلمين، ولكن ليس هناك مسلم صادق واحد يقبل أن يكون الخديوى أميرًا للمؤمنين، لأنه بدأ دراسته فى جنيف، وأكملها فى فيينا، وتطبع بطابع الكفار"، وهو ما قُوبل بالرفض من الشيخ الجيزاوى، بعد مؤتمرين عُقدا لمناقشة الأمر. فى الوقت الذى تقدمت فيه جماعة الإخوان، بقيادة حسن البنا، صفوف المطالبين بتنصيب الملك خليفة للمسلمين فى عام 1928، بينما خرج الشعب ضد حكومة إسماعيل صدقى، رافعًا شعار "الشعب مع سعد"، رفع الإخوان شعار "الله مع الملك". الشيخ محمد مصطفى المراغى (من 1928م - 1930م) (للمرة الثانية: 1935م - 1945م) شغل منصب شيخ الأزهر فى الفترة من 1928 حتى استقالته فى 1930 ثم تولى المشيخة مرة أخرى عام 1935. كانت له آمال كثيرة يسعى لتحقيقها فى تطوير الأزهر، ولكن العقبات وقفت فى وجهه، وحالت بينه وبين الأهداف التى ينشدها فاستقال من منصبه فى العاشر من أكتوبر سنة 1929، لما أراد أن تطلق يده فى إدارة الأزهر على أن يختار من يعاونونه، لكن الملك كان يريد السيطرة على شئون الأزهر جميعها، فرفض أن يمنحه هذه السلطة، فاستقال "المراغى"، وقُبلت استقالته، ثم صُدر قرار بتعيين الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى، شيخًا للأزهر. وعاد إلى الأزهر بعد 6 سنوات مؤيدًا من آلاف العلماء والطلبة، ومؤيدًا من الحكومة، ومؤيدًا من الرأى العام، فأصدر القانون رقم 26 لسنة 1936، وحدّد مهمة الأزهر، وأنه هو المعهد العلمى الإسلامى الأكبر. فى عام 1939، رفض الشيخ المراغى، مشاركة مصر فى الحرب العالمية الثانية ورفض تأييدها، معلنًا أن مصر لا ناقة لها ولا جمل فى تلك الحرب، ما أغضب الإنجليز، وطالبت الحكومة البريطانية من الحكومة المصرية إصدار بيان حول موقفه. وكان رد شيخ الأزهر على رئيس الوزراء حسين سرى باشا الرافض لموقفه، "أتهدد شيخ الأزهر؟ وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، لو شئتُ لارتقيت منبر مسجد الحسين، وأثرت عليك الرأى العام". وفى عام 1945، حينما طلق الملك فاروق زوجته الأولى الملكة فريدة، أراد أن يُحرِّم عليها الزواج بعده، فأرسل إلى الشيخ المراغى يطلب منه فتوى تؤيد رغبته فرفض، فأرسل إليه الرسل يُلحون عليه. وكان الشيخ يُعالَج بمستشفى المواساة بالإسكندرية - فرفض الاستجابة، وضاق الملك ذرعًا بإصراره على الرفض، فذهب إليه فى المستشفى مُحتدًّا، فقال له الشيخ عبارته الخالدة: "أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التحريم فلا أملكه"، وطال الجدال وصاح "المراغى" بأعلى صوته، قائلًا: "إن المراغى لا يستطيع أن يُحرِّم ما أحل الله". الشيخ عبد المجيد سليم البشرى (1950م - 1951م) للمرة الثانية (1952م - 1952م) تولى مشيخة الأزهر مرتين، وأُقِيل فى أولاهما؛ لأنه انتقد الملك، ثم استقال من المنصب فى المرة الثانية فى 17 سبتمبر 1952. فعندما حاول مدير الخاصة الملكية بإيعاز من الملك أن يستبدل بعض ممتلكاته العقارية الجديبة بأرض خصبة من أملاك الأوقاف، وتلمس الحصول على فتوى ميسرة من الأزهر، أعلن الشيخ سليم أن الاستبدال باطل، إذ لا يجوز شرعًا لغير مصلحة الواقف وهى هنا مفقودة، بل إن الخسارة محققة فعلًا. كما تلقى سؤالًا عن حكم الشرع فى رجل يراقص النساء ويشرب الخمر، وذلك بعد حفلة صاخبة أقامتها إحدى الأميرات وحضرها الملك فاروق، ونشرت بعض الصحف صورها، وقد أدرك من المقصود بالفتوى، لكنه لم يؤثر السلامة، وإنما واجه المخطئ، واضطرب القصر لجرأة هذا الإنكار الصارخ، وصمم الملك على الانتقام منه. وعلى أثر الفتوى وجه الديوان الملكى، الدعوة إليه لحضور صلاة الجمعة مع الملك فى قصر عابدين، وهو القصر الذى أُقيم فيه الحفل الراقص، فذهب وجلس فى المكان المخصص له، وبعد انتهاء الصلاة وقف كبار المصلين لمصافحة الملك بعد الصلاة قبل أن يدخل إلى حديقة القصر، ووقف الشيخ سليم فى مكانه استعدادًا للمصافحة الملكية، وكان كل من يأتى عليه الدور للمصافحة يرفع يده قبل أن يدركه الملك استعدادًا للمصافحة، لكن الشيخ سليم حدثته فطرته الإيمانية إلى عدم رفع يده، وكانت نية الملك أن يترك يد الشيخ ممدودة للمصافحة دون أن يصافحه. ومن مواقفه الصلبة والشجاعة ضد رغبات السياسة وأهوائها أن القصر الملكى أوفد بعض رجاله إلى الشيخ سليم ذات مرة يهدده صراحةً بأن معارضته للملك ستكون مصدر خطر عليه، فقال الشيخ: "هل سيحول هذا الخطر بينى وبين المسجد؟"، فخجل رسول القصر ولم يجب، ثم رأى أن يصدر بيانًا للناس فى الصحف اليومية يعلن فيه أمر هذا التهديد الملكى. موقف الشيخ من الترف الحكومى والإسراف الملكى تلخصه عبارته البليغة الجامعة التى سارت ذائعة فى زمنه؛ بسبب رحلة شهر العسل التى قام بها الملك فاروق مع زوجته ناريمان، إذ قال: "تقصير وتقتير هنا وتبذير وإسراف هناك". وقد أعفى من مشيخة الأزهر فى عهد وزارة الوفد الأخيرة فى سبتمبر العام 1951، لكنه عاد إليها بعد أشهر، فى عهد وزارة على ماهر التى أعقبت حريق القاهرة. وحين اندفعت الثورة فى أول عهدها تكررت مواقف سليم الشجاعة، فرفض تدخل الثورة فى شئون الأزهر بعدما حاولت على استحياء أن تفرض على الشيخ تعيين أشخاص بعينهم فى مناصب قيادية بالأزهر، لكنه لم يفارق صلابته، فتصدى لكل تدخل، وبادرت حكومة يوليو بمطالبته بالاستقالة إذا أصر على موقفه فقدمها طواعية. الشيخ الخضر حسين (1952م - 1954م) وقع عليه الاختيار شيخًا للجامع الأزهر فى 16 سبتمبر 1952، وقدّم استقالته من المنصب فى 7 يناير 1954، احتجاجًا على اندماج القضاء الشرعى فى القضاء الأهلى، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب اندماج القضاء الأهلى فى القضاء الشرعى؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغى أن تكون المصدر الأساسى للتشريع. أثناء توليه مشيخة الأزهر كان يقول: "إن الأزهر أمانة فى عنقى أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدى، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص"، وكان كثيرًا ما يردد: "يكفينى كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء". ذات يوم، اتصل به صلاح سالم، أحد قيادة حركة يوليو، وقال له فى لهجة حادة: "يا شيخ، احضر غدًا إلى بمكتبى لنتناقش فى أمور تتعلق بالأزهر"، فرد عليه: "يا صلاح أفندى، شيخ الأزهر لا يذهب لأحد إلا لرئيس الجمهورية لأن له بيعة فى عنقه، فإذا أردت شيئًا منى، فأحضر إلى مكتبى، وأغلق الهاتف فى وجهه". وعندما أرادت حركة يوليو أن تصدر قانون التطوير، جاءه الشيخ أحمد حسن الباقورى، وزير الأوقاف وقتها، إلى مكتبه ليشرح له مواد القانون، واستمع إليه، ثم قال للباقورى: "يا أحمد، أتدرى كم أنفق في اليوم؟"، فقال الباقورى: "لا أدرى يا مولاى!"، فقال الشيخ: "ثمن رغيف واحد وكوب من اللبن هما غذائى طيلة النهار، يا أحمد، ضُم أوراقك فما أُحب أن أغضبك". وبعد يومين فُوجئ، الشيخ بجرائد الصباح تعلن أن الرئيس جمال عبد الناصر قبل استقالته، وهو لم يتقدم باستقالته، ولكن استعلاءه الرفيع أغضب قيادات الحكم وقتها. الشيخ محمود شلتوت (من 1958م إلى 1963م) أول من أطلق عليه لقب "الإمام الأكبر"، وكان الأجنبى الوحيد الذى رأس المجلس الأعلى لإندونيسيا أثناء زيارته لها. وكان النهوض بالأزهر محور اهتمامه وتركيزه، فصدر فى عهده قانون تنظيم الأزهر رقم 103 لسنة 1961، وأنشأ مجمع البحوث الإسلامية، وسمح للفتيات لأول مرة الالتحاق بالمعاهد الأزهرية، وأدخل دراسة اللغة الأجنبية بالأزهر، توسع فى إنشاء المعاهد وزيادة البعثات الأزهرية للدول الأوروبية. وقد وقف فى وجه "عبدالناصر"، وأجبره على إلغاء قانون الأزهر، الذى كان يهدف لتحجيم دور الأزهر ووضعه تحت تصرف الدولة، وظل الشيخ يعارض القانون، حتى تقدم باستقالته من منصبه في عام 1963، بسبب تقليص سلطات وصلاحيات شيخ الأزهر. وقال فى نص الاستقالة: "بعد هذه الظروف أمامى أحد الأمرين إما أن أسكت على تضييع أمانة الأزهر هو ما لا أقبله على دينى وكرامتى، أو أن أتقدم آسفًا فى هذه الظروف بطلب إعفائى من حمل الأمانة، التى أعتقد عن يقين أنكم تشاركوننى المسئولية فى حملها أمام الله والتاريخ، ولذلك فليس أمامى إلا أن أضع استقالتى من مشيخة الأزهر بين أيديكم"، وبعدها بأربعة أشهر تُوفى الشيخ شلتوت. الدكتور عبد الحليم محمود (1973م - 1978م) تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر فى ظروف بالغة الحرج، بعد مرور أكثر من 10 سنوات على صدور قانون الأزهر سنة 1961، الذى توسع فى التعليم المدنى ومعاهده العليا، وألغى جماعة كبار العلماء، وقلص سلطات شيخ الأزهر، وغلّ يده فى إدارة شئونه، وأعطاها لوزير الأوقاف وشئون الأزهر. ولم يكن أكثر الناس تفاؤلًا يتوقع للشيخ عبدالحليم أن يحقق النجاح الذى حققه فى إدارة الأزهر، فيسترد للمشيخة مكانتها ومهابتها، ويتوسع في إنشاء المعاهد الأزهرية على نحو غير مسبوق، ويجعل للأزهر رأيًا وبيانًا فى كل موقف وقضية، حيث أعانه على ذلك صفاء نفس ونفاذ روح، واستشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، وثقة فى الله عالية، جعلته يتخطى العقبات ويذلل الصعاب. فى 7 يوليو 1974، قرر الرئيس أنور السادات، تقليص بعض صلاحيات شيخ الأزهر، فما كان من الشيخ إلا تقديم استقالته الأمر الذي أحدث دويًا هائلاً فى مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامى. واضطر "السادات"، إلى إصدار قرار أعاد فيه الأمر إلى سابق عهده، وتضمن القرار أن يعامل شيخ الأزهر معاملة الوزير من حيث الراتب والمعاش، ويكون ترتيبه فى الأسبقية قبل الوزراء مباشرة. وفى عهد السادات، تصدى الشيخ عبد الحليم محمود لقانون الأحوال الشخصية الذى عُرف باسم "قانون جيهان"، والذى كان ينص على منع تعدد الزوجات، ووضع قيود على الطلاق، حيث أكد عدم مطابقة بعض مواده للشريعة الإسلامية، ونجح الإمام حتى وفاته فى عدم خروج القانون للنور. وأصدر بيانًا شديدًا حذر فيه نواب البرلمان من مخالفة تعاليم الدين الإسلامى، وقال حينها: "لا قيود على الطلاق إلا من ضمير المسلم ولا قيود على التعدد إلا من ضمير المسلم"، فما كان من الحكومة إلا أن أعلنت أنه لا نية لتعديل قانون الأحوال الشخصية. الشيخ جاد الحق على جاد الحق (1982م – 1996م) كان يعرف عنه رفض سياسة التطبيع مع إسرائيل، قائلًا: "لا سلام مع المغتصبين اليهود، ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية"، متابعًا: "إن من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم.. والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلى القدس حتى تتطهر من دنس المغتصبين اليهود"، وبناءً على ذلك دعا البابا شنودة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، هو الآخر المسيحيين لعدم زيارة القدس. ورفض استقبال الرئيس الإسرائيلي آنذاك "عيزرا وايزمان" إبان زيارته للقاهرة، كما رفض ما تردد عن حصول إسرائيل على مياه النيل من خلال مشروع ترعة السلام، وحينها قال مقولته الشهيرة: "إن حصول إسرائيل على مياه النيل أصعب من امتلاكها سطح القمر". وعلى الرغم من أن علاقته كانت جيدة بالرئيس الأسبق حسنى مبارك، لكن ذلك لم يمنع وقوع الصدامات بينهما، بعد أن طلب منه إصدار فتوى رسمية من الأزهر تبيح فوائد البنوك، وكان ذلك فى القصر الجمهورى، فقال له الرئيس: "بأقولك إيه يا مولانا البنوك قربت تفلس والناس لا تضع أموالها بالبنوك.. عايزين فتوى من فضيلتك تنقذ الاقتصاد المنهار وتحلل وضع الفلوس في البنوك لأن الناس بتضع كل ثقتها في الأزهر ودي ضرورات برضه". فما كان من الشيخ إلا أن انتفض واقفًا موجهًا ردًا عليه: "ومن قال لك إنى أحرم أو أُحلل؟ إن الذى يُحلل أو يُحرم هو الله ولن تتغير فتواى أبدًا أبدًا بتحريم فوائد البنوك". يقول الحاضرون للاجتماع إن وجه "مبارك" احمرَّ من شدة الإحراج، حتى إنه قال للشيخ: "يا مولانا ده أنا كنت بأهزر!"، ليرد عليه الأخير بلهجة شديدة: "هذا موضع لا مجال للهزل فيه"، وخشى المتواجدون فى القصر من التعرض بالكلام لشيخ الأزهر أو محاولة تهدئته حتى لا ينالهم ما نال "مبارك"، فساد الصمت قاعة الاجتماع حتى انصرف شيخ الأزهر، وظلت الحكاية تُروي سرًا فى جنبات القصر لفترة طويلة. وفى سبتمبر 1994، خاض الشيخ جاد الحق معركة شرسة ضد بعض البنود الواردة فى مسودة إعلان مؤتمر القاهرة الدولى للسكان، واعتبر بها قرارات تناهض الأديان وتعتدى على الكرامة الإنسانية؛ حيث وجد إن بنود المؤتمر تبيح الشذوذ الجنسى، وتبيح الإجهاض، والحمل بدون زواج. وقبل بدء المؤتمر بساعات، حضر الدكتور ماهر مهران، وزير الصحة والسكان، إلى مقر مشيخة الأزهر، حيث التقاه الشيخ، وأبلغه تحيات الرئيس مبارك والسيدة حرمه ثم أردف قائلًا: "ويود السيد الرئيس أن يصدر الأزهر بيانًا يرحب ويدعم المؤتمر". فنظر إليه الشيخ مرتابًا، وأمسك بالتلفون يطلب الرئيس: ورد زكريا عزمى (رئيس ديوان رئيس الجمهورية وقتها): "أهلًا يا مولانا.. أؤمر: من فضلك يا دكتور اكلم الرئيس لأمر هام، حاضر 4 دقائق يكون مع فضيلتك". وخلال تلك المكالمة توجه شيخ الأزهر إلى الرئيس قائلًا: "السلام عليكم سيادة الرئيس.. أشكرك على تحيتك أبلغنى معالى وزير الصحة أن سيادتك عايز بيان تأييد من الأزهر لمؤتمر السكان.. فاستشعر مبارك غضب الشيخ فسبق وقال: يا فضيلة الإمام أنا لم أكلف ماهر مهران ولا غيره ولا قابلته من الأصل ولم أطلب بيانًا من الأزهر.. غير صحيح... فتعمد الشيخ أن يرفع صوته ويشكر الرئيس على موقفه.. هذا عهدنا بك يا سيادة الرئيس لا تتدخل في شئون الأزهر شكرًا لسيادتك". بعد انتهاء المكالمة الهاتفية مع الرئيس، وقف الشيخ وقال له: "شرفت يا معالي الوزير مع السلامة.. ولم يتحرك عن كرسى مكتبه خطوة واحدة". وفى اليوم التالى أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC ) عن مظاهرة ومسيرة للشواذ العراة بالقاهرة من أمام نادى السكة الحديد وحتى نصب الجندى المجهول مرورًا بجامعة الأزهر بمدينة نصر، الأمر الذى أثار غضب شيخ الأزهر. عاد الشيخ إلى مكتبه بالمشيخة القديمة (بالدراسة) والدم يغلى فى عروقه، وأمسك بالتليفون وطلب مكتب الرئيس فرد عليه زكريا عزمى.. فقال الشيخ: يا دكتور ورقة وقلم من فضلك واكتب نص استقالتى من المشيخة فورًا وسلمها للسيد الرئيس سأخرج ولن أعود.. تفهم عزمى غضب الشيخ، وأبلغ الرئيس فأمر بمنع المسيرة، وضبط من يتواجد هناك وإحالتهم للتحقيق فورًا. وأصدر "مبارك"، بيانًا أكد فيه أن مصر المسلمة لن تسمح للمؤتمر بأن يصدر أى قرار يصطدم مع الدين والقيم. وفى نوفمبر 1995، عقب قرر الكونجرس الأمريكي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أصدر الشيخ جاد الحق، بيانًا أدان فيه القرار الأمريكي، وقال: "إن أمريكا تزعم أنها صديقة كل العرب، وهى أصدق فى صداقتها بإسرائيل تؤيدها وتدفعها لمزيد من العدوان على العرب وحقوقهم". وقد دعا البيان، الأمة الإسلامية، إلى أن تجتمع وأن تكون على قدر المسئولية، ودعا منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية بهيئاتها إلى أن يخرجوا عن هذا الصمت، وأن يدافعوا عن قضاياهم. الدكتور أحمد الطيب (2010 حتى الآن) بعد أشهر من تولى الدكتور أحمد الطيب مشيخة الأزهر فى 19 مارس 2010، اندلعت ثورة 25 يناير التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسنى مبارك، ونجح الطيب مستغلًا زخم الثورة فى تغيير القانون الذى يعطى رئيس الجمهورية حق تعيين شيخ الأزهر، وأعاد الحق لهيئة كبار العلماء، وتم الحصول على موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإصدار القرار بالجريدة الرسمية قبل يوم واحد من انعقاد البرلمان. وفى أول يوم لتولى الرئيس الأسبق محمد مرسى الحكم، انسحب "الطيب" من الحفل الذى أقيم بجامعة القاهرة، احتجاجًا على جلوسه فى مكان غير لائق بمنصب شيخ الأزهر. وحكى شيخ الأزهر، واقعة تركه الاحتفال بتنصيب مرسى فى جامعة القاهرة، قائلًا: "كنت داخل صالة كبار الزوار، وتم منعى، وشاهدت الكتاتنى وعمرو موسى والإخوان جالسين، فقلت لهم أنتم جالسون هنا وشيخ الأزهر واقف بره؟ وانسحبت، وهرولوا خلفى، ولكننى لم أحضر، وحملت استقالتى فى جيبى بعدها". وقبل أيام من مظاهرات 30 يونيو التى مهدت للإطاحة بحكم الإخوان، قال شيخ الأزهر إن المعارضة السلمية لولى الأمر "جائزة ومباحة شرعًا"، مشددًا على أنه "لا يجوز تكفير أحد من المعارضين لخلافه مع الحاكم". وكان "الطيب" من بين الذين حضروا اجتماع 3 يوليو الذى أطيح فيه ب"مرسى"، وحضر فى طائرة عسكرية من الأقصر إلى القاهرة، وعلّق قائلًا: "وأنا فى الطائرة شاهدت جموع المتظاهرين، الذين كانوا مثل النمل، لذا فضلت أن أنضم لغالبية الشعب ولو تخلفت كنت سأسجل فى سجل الخزى والعار". غير أن انحيازه لسلطة 3 يوليو لم يمنعه من إدانة ما جرى خلال فض اعتصام رابعة والنهضة فى 14 أغسطس 2013، إذ نفى علمه المسبق بالإجراءات التى اتخذت لفض الاعتصامين إلا عن طريق وسائل الإعلام، مؤكدًا أن الأزهر لا يزال على موقفه من أن العنف لا يكون بديلًا للحلول السياسية. بعد البيان، توجه "الطيب" إلى ساحة "آل الطيب" بمدينة القرنة بالأقصر، وامتنع عن الظهور، أو الإدلاء بأى تصريحات لفترة طويلة، وقالت مصادر مقربة منه وقتها، إنه آثر أن يدخل فى "خلوة" بعيدًا عن الجو الخانق فى القاهرة، والذى "أصبحت رائحته برائحة الدم" بعد فض الاعتصام. وشهدت علاقة شيخ الأزهر بالسلطة الحالية، مدًا وجزرًا، وعندما دخل فى صدام مع الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف؛ بسبب "الخطبة المكتوبة"، قبل أن يعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى دعمه لموقف الأزهر، وأُجبر الوزير عن التراجع عن مشروع الخطبة المكتوبة. وأثناء احتفالية وزارة الأوقاف بذكرى المولد النبوى، داعب السيسى شيخ الأزهر، قائلًا: "بحبك وبحترمك وبقدرك"، بعدها خاطب الحاضرين قائلًا: "إياكم تكونوا فاكرين غير كده تبقى مصيبة، أنا بحب الإمام وعارف دور الأزهر ومقدره كويس في مصر والعالم كله، وهو القلعة المستنيرة اللى ممكن نعتمد عليها، لأنها هتحيي صحيح الدين". لكن عبارات الود لا تخفي حالة الغضب المكتوم، وخاصة بعدما اقترح السيسي، عدم الاعتداد بالطلاق الشفوى، إلا إذا تم توثيقه أمام المأذون فقط، إلا أن هيئة كبار العلماء بالأزهر برئاسة الطيب أصدرت بيانًا خالفت فيه رغبة الرئيس، وأكدت أن الطلاق شفويًا "مستقر عليه منذ عهد النبى". واعتبرت أن "وقوع الطلاق الشفوى المستوفى أركانه وشروطه والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، هو ما استقرَّ عليه المسلمون منذ عهد النبيِّ.. دونَ اشتراط إشهاد أو توثيق". وعلى أثر ذلك، شنَّ بعض الإعلاميين، هجومًا شرسًا على "الطيب"، وطالبوه بالاستقالة بدعوى فشله فى تجديد الخطاب الدينى، وفسروا دعابة السيسي للطيب في احتفال عيد الشرطة "تعبتني يا فضيلة الإمام معاك"، على أن الرئيس فاض به الكيل من تصرفات شيخ الأزهر، تزامنًا مع تقدم بعض نواب البرلمان بمشروع قانون لإلغاء هيئة كبار العلماء، ووضع معايير أخرى لاختيار شيخ الأزهر وتحجيم اختصاصاته. كما رفضت هيئة كبار العلماء بالأزهر، مشروع قانون مقدم من الحكومة يجيز لرئيس الوزراء تغيير شروط الوقف، لمخالفته الشريعة-الإسلامية"، ما أحبط تحركات الحكومة للانتفاع بأموال الأوقاف التي تقدر بمليارات الجنيهات.