كان يمكن ان يصل نص "بيان ختامي" عن مؤتمر ما الى احدى الصحف.. بشكل غير دقيق، اي ان يحصل التباس بين إحدى مسودات الصيغة النهائية والنص النهائي المتفق عليه. لكن عندما يستمر هذا الالتباس بضعة ايام بعد انتهاء المؤتمر – مؤتمر بحساسية "المؤتمر القبطي العالمي الثاني" الذي انعقد في واشنطن بين 16 و19 تشرين الثاني الجاري – وان يمتد الالتباس (كأنه اشتباك) الى شاشة تلفزيون "الجزيرة" وفي حلقة من واشنطن كان يديرها امس الاول مدير مكتبه في العاصمة الاميركية حيث انعقد المؤتمر فهذا يعني ان هناك: اما خطأٌ كبير واما كذبة كبيرة تتعلق بهذا البيان الختامي. فعندما قرأ مدير الندوة حافظ الميرازي – وهو شخص متزن وذو مستوى – احدى الفقرات من نص البيان الموجود امامه، مستنكرا استفزازيتها نفى احد منظمي المؤتمر ان تكون النسخة المقروءة هي "البيان الختامي"! الفقرة هي التالية: "طالب المشاركون بالاسراع في اتخاذ الخطوات العملية والاجراءات القانونية فورا لتنفيذ القرارات الصادرة عن مؤتمر زيوريخ للاقباط متحدين (المؤتمر الاول) والمؤتمر الثاني المنعقد بواشنطن على المستوى الدولي وذلك عبر هيئة الاممالمتحدة ومنظماتها الدولية لاتخاذ القرارات اللازمة لضمان الحماية القانونية للاقباط طبقا لاحكام القانون الدولي ومواثيق حقوق الانسان التي وقعت عليها الحكومة المصرية وقبل تكرار دارفور المصرية". فعلا هنا ذكر "دارفور" في مجال التحذير من "تكرار حصولها" اي من حصول مذابح بحق الاقباط مثلما حصلت المذابح بحق السود المسلمين غير العرب في دارفور، هو استفزاز، بل تجنٍ لا مبرر له لانه لا يمكن المقارنة بين الوضع في مصر وبين ما حصل في تلك المنطقة من السودان. نفى المشارك – المنظم للمؤتمر في حلقة "الجزيرة" ان تكون "دارفور" واردة في البيان الختامي. ولكنه لم يقرأ اي نص بديل.. وهذا يضعنا امام احتمالين: اما ان هناك نصا آخر لم نعثر عليه حتى الآن، بما فيه على بعض المواقع على "الانترنت" واما ان البيان الذي نشرته "النهار" في عددها يوم الاحد 20 تشرين الثاني هو البيان الصحيح الصادر عن المؤتمر وان الشخص المشارك في ندوة "الجزيرة" كان يكذب على الشاشة.. واما ان هناك فوضى بين منظمي المؤتمر نفسه جعلته يخرج بأكثر من صيغة او تعديلات على صيغة "البيان الختامي". وقد لاحظت شخصيا عندما قرأت نص البيان على موقع لصحيفة قبطية تصدر في الخارج انه حتى بوجود الجملة التي تحذر من "دارفور" فان ثمة اختلافات في بعض التعابير الواردة ناهيك عن الركاكة اللغوية في بعض الصياغات. هكذا نرى انه حتى في عصر الانترنت.. يمكن لنص بيان يصدر عن مؤتمر في عاصمة العالم واشنطن ان يبقى غامض المصير بحيث لا نعرف فعلا اي صيغة هي الختامية، او اننا نعرف ونسمع كذبة معلنة من احد المعنيين عن وجود نسخة اخرى؟ يطالب البيان في مقرراته ب"اطلاق حرية تأسيس الاحزاب السياسية المدنية غير الدينية وتأسيس الجمعيات الاهلية المدنية والغاء كل القيود المفروضة في هذا الصدد" (القرار الثاني حسب النسخة نفسها). في التقارير المنشورة عن مسار المناقشات خلال المؤتمر، يظهر ان هذا المطلب يعني موقفا ضد "حركة الاخوان المسلمين".. اي ضد الترخيص لها. وفي هذا يقع "مفكرو" المؤتمر في تناقض كبير بين تجمعهم على اساس ديني وبين رفضهم الترخيص لحركة سياسية دينية. والظاهر – حسب تقرير ليلى المر في "النهار" – ان الدكتور سعد الدين ابرهيم كانت له وجهة نظر اخرى تدعو الى ان "محاربة الاخوان المسلمين تتطلب الاعتراف بهم واشراكهم في العملية الديموقراطية واستدراجهم للنقاش والحوار لكشف حقيقة وجههم". ايضا من سمات الغموض في البيان الختامي ان اسم سعد الدين ابرهيم ورد بين الموقعين عليه مع انه يحمل مطلبا يتناقض مع رأيه حول ضرورة الاعتراف ب"حركة الاخوان المسلمين".. وهو موقف معروف لسعد الدين كتابة وشفاهة في عدد من المنابر. نستطيع ان نفهم الطابع المصري الذي يَسمُ مطالب المؤتمرين، كذلك الانتقادات الحادة التي وجهت اليهم من شخصيات مصرية، لاسيما حول انعقاد المؤتمر في الخارج.. فحتى اصوات من المعارضة المصرية طالبتهم بالكف عن عقد المؤتمر خارج مصر والسعي لعقده في الداخل. وكان بين الاصوات ذات المعنى التي انتقدت الانعقاد في الخارج جورج اسحق منسق حركة "كفاية" التي تقود تيارا معارضا في الشارع المصري.. وكان في رأي بعض المنتقدين انه اصبح في الامكان عقد مثل هذه المؤتمرات داخل مصر. حساسية الداخل – الخارج هي حساسية عريقة لدى النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في دولة مثل مصر.. ذات "داخل" فعلي او الادق ربما الآن (في عصر العولمة) ذات احساس قوي بوجود هذا "الداخل".. في ثقافتها السياسية. الا ان النقطة التي اعتبرها جوهرية في مجال موقف المؤتمر من موضوع تأسيس الاحزاب وحصره ب"غير الدينية" هو ان هذا الموضوع اليوم، ورغم بعض خصوصياته المصرية، لم يعد يعبر عن مسألة تخص مصر وحدها وإن كانت مصر احدى دوائرها البارزة. فقضية التحديث السياسي المطروحة على البلدان العربية والمسلمة، خصوصا ذات الكثافة المسلمة الغالبة، هي ان انتقال "الاسلام السياسي" الى مرحلة الشرعية الديموقراطية بات ليس فقط مطلبا لتعزيز الديموقراطية في اي بلد عربي او مسلم، بل الاهم انه بات حاجة تحديثية لتوليد وتعزيز تيار "المسلمين الديموقراطيين" كما اظهر "النموذج التركي" بل كما فرض "النموذج التركي"نفسه. بحيث ان حركات الاسلام السياسي في العالم العربي كما العالم المسلم باتت احد مرتكزات عملية التحديث السياسي بما هو دمقرطة النظم السياسية. على ادبيات المعترضين على "اضطهاد" الجماعات المسلمة او على اضطهاد الاكثرية للاقلية مسلمة وغير مسلمة، مواجهة حقيقة عميقة في الحالة العربية – المسلمة اليوم والاعتراف بها، هي ان المجتمعات العربية تتجه اكثر فاكثر نحو القيم الاصولية، اي نحو التفسير التطبيقي للاسلام باشكال متشددة. وهذا يتخطى سلوك الانظمة حتى الاستبدادية. فثمة انظمة عسكرية في المنطقة تحارب امنيا الاصوليين في مجتمعاتها ولكنها استسلمت ثقافيا للخطاب الاصولي.. مما يخلق وضعا معقدا في معالجة موضوع الاقليات.. في ظل "البعد الشعبي" للمد الاصولي. وننتظر من مصر (التي تقدم دولتها الآن مخرجا مثيرا: اشراك "التيار الديني" بالعملية الديموقراطية لكن دون الاعتراف به).. ان تساهم في التأسيس لنموذج تحديثي.. ضمن السياق العام "الخارجي" الذي لا يستطيع مسلمو مصر واقباطها... تلافيه! --- صحيفة النهار اللبنانية في 24 -11 -2005