أقام أفلاطون حفلاً دعا إليه أصدقاءه من الفلاسفة وغيرهم، وكان قد فرش مكان الاحتفال بالسجاد الفاخر، فحضر إلى الحفل فيلسوف كبير من أصدقائه، وقد وسخ حذاءه بالطين ودخل إلى الحفل وأخذ يدوس بحذائه الملطخ بالطين على السجاجيد الفاخرة، ولما سُئل لماذا يفعل هكذا، أجاب الفيلسوف: أنا أدوس على كبرياء أفلاطون، فرد عليه أفلاطون قائلاً: ولكنك تدوس عليه بكبرياء آخر . دفعنى ما أتابعه من تطورات سياسية راهنة فى مصر إلى استحضار هذه القصة، كما دفعتنى إلى تأمل التاريخ السياسى لمصر فى العقود الستة الماضية وكيف ضاعت الدروس والعبر التى يمكن استخلاصها نتيجة لإعلاء نهج المغالبة على منطق المصالحة التى تستدعى بالضرورة مكاشفة ومصارحة. فقد تعاقب على الحكم فى هذه العقود زعماء كانت لهم إنجازات عظيمة لكن أخطاءهم كانت أفدح، وتعامل كل منهم مع من سبقه تعامل الفليسوف ضيف أفلاطون، كل منهم داس بكبريائه على كبرياء الآخرين، ولم يسع أحد لوقف هذا السلوك الذى كان له أثر عظيم على مجتمعنا. لم أشهد ما قبل عصر ثورة يوليو "المجيدة" ، فقد وعيت على مجتمع يحكمه نظام استبدادى شوه ما قبله ولونه بلون السواد، وكبت الحريات، وعلى رأسها حرية البحث والتفكير. فقد حكمنا الرئيس جمال عبد الناصر حكماً شموليًا مفترياً، أذاق فيه معارضيه، وفى مقدمتهم أقطاب الإخوان المسلمين صنوف التعذيب الوحشى فى السجون، وأجبر المفكرين والفلاسفة وأساتذة الجامعات والمثقفين على تكسير الحجارة فى السجون والمعتقلات، وزج بالبلاد فى حروب وصراعات سياسية لدول عربية وإفريقية أخرى بدعوى مناصرة حركات التحرر، وقسم الشعب، وكذلك العالم العربى، إلى قوى ثورية وأخرى رجعية، وكانت الحرب الباردة سمة غلبت على العلاقات فى العالم العربى آنذاك، وعلى العلاقات بين الشعوب فى داخل الدولة الواحدة. والهزيمة كانت النتيجة المحققة لهذه السياسات، ومات عبد الناصر بعد هزيمة يونيه 1967، التى سماها نكسة، بوقت غير طويل، وخرجت الجماهير، فى موكب مهيب لتودع، بالبكاء والدموع، القائد الذى أدت سياساته إلى هزيمة مكنت إسرائيل من احتلال سيناء والضفة الغربية وغزة والقدس والجولان فى ستة أيام، الجماهير ذاتها خرجت قبل ثلاث سنوات من وفاته وبعد الهزيمة مباشرة ترفض تنحيه عن السلطة بعد أيام من الهزيمة رغم خداعها عبر آلته الإعلامية، وقيل تفسيرات كثيرة فى هذه الحادثة، لكن التفسير المؤكد أن الشعب المصرى أراد أن يبلغ إسرائيل والعالم رفضه الهزيمة. و خلفه الرئيس المؤمن - كما كان يحب أن يلقب نفسه - أنور السادات، وأنهى حكمه وأيامه، وما حققه من إنجازات بأكبر عملية قمع بوليسية فى تاريخنا الحديث، أودع فيها مئات القيادات الثقافية والفكرية والدينية، السجون، قبل أسابيع قليلة من اغتياله فى يوم احتفاله بذكرى انتصاره فى أكتوبر. ونعاه مجلس شعبه فى احتفال مهيب، بينما كل هؤلاء الرجال فى غياهب السجون . وخلفه نائبه حسنى مبارك - الرئيس السابق - وفتح السجون وأخرج المسجونين وأعاد البابا الراحل إلى كرسيه، الذى كرس ما تبقى من أيامه لتصفية الذين انتقدوا موقفه مع السادات. وأُحرقت كتب الأب متَّى المسكين فى باحة الكاتدرائية فى مشهد أعاد إلى الأذهان ما كان يحدث فى عصور محاكم التفتيش. وبعد عمر مديد، شيع قداسته فى جنازة مهيبة واحتفال شعبى عظيم، ليترك الكنيسة فى موقف حرج، بسبب خلافاته مع التيارات الإسلامية، التى لم توضع نهاية مناسبة بعد لها، فيما كان الرئيس مبارك قد غادر السلطة، وغادرت معه تحالفات الكنيسة مع السلطة، وتنامى صعود التيار الإسلامى. وسبحان الذى له الدوام والخلود. من اللافت للنظر أن جميع الظروف المأساوية التى أحاطت بشرائح متعددة من أبناء شعبنا الصابر، قد أنهاها فى كل مرة الموت - باستثناء انفراد الرئيس السابق بالتنحى. ولأسباب تحتاج لدراسة متخصصة، فإن الموت يعتبر فى ثقافتنا الشعبية نوعاً من أنواع التطهير أو صكاً من صكوك الغفران !! أو شيئاً من هذا القبيل، بغض النظر عما فات، والذى لم يمت أبدًا مع من مات. ويبدأ الاهتمام فى الانصباب على تقسيم الكعكة الموروثة والسيطرة على مساحات جديدة لم تكن متاحة والسباقات على الكراسى أو السلطة دون إعطاء أى اعتبار للدرس الذى يلقنه الموت دائمًا للجميع، والذى عبر عنه أبو العلاء المعرى شعراً، بقوله: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد. لعل السمة المشتركة فى هذه العهود المتعاقبة وإلى الآن هى الاهتمام الشديد بالإعلام وبالآلة الدعائية التى وظفت بعناية للتعبئة وحشد التأييد، والهجوم على المعارضين والتشهير بهم، ولم يطرأ على هذا النمط أى تغيير على الرغم من الانفتاح الذى شهده الإعلام منذ منتصف السبعينيات والتوسع الكبير الذى طرأ عليه فى السنوات العشر الماضية التى شهدت عشرات المحطات التليفزيونية الفضائية والإذاعات والصحف علاوة على وسائط الفضاء الإلكترونى وثورة الاتصالات، ورغم تطور الوسائل والمنافذ والأدوات، لم يتطور المضمون والغايات، وظلت التعبئة وحشد التأييد هى السمة الغالبة، وأضيف إليهما الترفيه والتسلية. قد يكون من المهم ونحن نقف على أعتاب مرحلة جديدة فى تاريخنا هو مراجعة هذه السياسة، ذلك أن الأهم من التغطية الإعلامية لمن سيخلف منصب الرئيس فى هذه المرحلة، التغطية الثقافية والفكرية.. كيف نحلل أخطاء الماضى وعيوبه؟ وكيف سندير حوارًا ثقافياً متكاملاً، يضع حلولاً عملية وتصورات فكرية جديدة لحل مشكلات الحقبة الفائتة والاستفادة من دروسها ومن سلوكيات المتحكمين والمتصرفين فيها ووضع أساس جديد لبناء مجتمع جديد ودولة حديثة من ناحية، ووضع أسس عادلة لعلاقة سوية بين الدين والدولة من الناحية الأخرى، تعاد فى إطاره صياغة العلاقة بين الكنيسة والدولة، بين الدينى والمدنى. إن الفرصة متاحة الآن لأن يدار هذا الحوار البناء بشقيه السياسى والدينى على أرضية من الصدق والحرية والمساواة بعيداً عن كل أجواء الضغوط والمقاصات السياسية الغاشمة، التى زيفت كل شىء. وألا يحاول أى طرف أن يعالج كبرياء غيره بكبرياء آخر، إذا لم يحدث هذا، فسيظل التاريخ يكرر نفسه، لأن القادة والرؤساء يتغيرون ولكن البنية التحتية، والتكوين العقلى والثقافى للمجتمع لم يتغير بعد، ولن يتغير ما لم تتم إعادة صياغة عقل المجتمع وأسس علاقاته على أساس الحرية . فالقاسم المشترك بين جميع الرجال وبين جميع الأطياف فى تاريخنا المعاصر هو أنهم جميعا دخلوا إلى الساحة على صهوة الزعامة، واعدين شعبنا الصابر العظيم، بالحرية التى لم يمتلكوها فى عقولهم وضمائرهم والتى لم يقدمها أى منهم لنا على مدى زاد على النصف قرن، بل سار الجميع على درب واحد هو تهميش الآخر، والانتقام وقمع أصحاب الرأى المختلف، أو العقيدة المغايرة . وأتذكر هنا سؤال عبد الرحمن الكواكبى، صاحب "طبائع الاستبداد"، "ما بال الزمان لا يجود علينا برجال يستثيرون الهمم، ذلك أنه إذا لم يأخذ رجال منا على عاتقهم مسئولية تنوير العقول سبيلاً لتحرير الإنسان الفرد فى بلادنا من ظلام كهوف الاستبداد التى عشنا فيها لدهور، ستصبح كل الوعود وعودًا زائفة، وتتحول كل التكتلات إلى اندفاع إلى الهاوية، إذا لم يتأسس هذا التنوير ويتمحور ويتمركز حول الحرية وبما يبرهن عملياً وفعلياً على أن من يقدم هذه الوعود يمتلك الحرية فى عقله وضميره، وأنه قادر على احترام حرية الآخر وحقه فى الاختلاف . إننا ندعو إلى مشروع إعلامى جديد قائم على أساس ثقافى وفكرى راسخ يتخذ من تنوير العلاقة رسالة ووسيلة للانتقال إلى آفاق أكثر رحابة ولمستقبل أكثر ازدهاراً لأجيالنا القادمة. الأنبا مكسيموس رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]