وقد ذكر الراحل الدكتور نصر أبو زيد أن الدين حياة، بالمعني الشامل للحياة، والخلل يكمن في الدين ذاته، ولكن في الفهم القاصر للدين. وأشار إلي أن مأساة الثقافة العربية، أنها " ثقافة سمعية " تعادي الفنون البصرية ، ولا تميل للقراءة والبحث، وأضاف أنه كان ضحية هذه الثقافة السمعية، وضحية القراءة المتربصة، وضحية الوسطاء الذين نقلوا أفكاره للناس. والمفارقة المحزنة التي أشار إليها نصر حامد أبو زيد، أن الكثيرين ممن هاجموه أو ناصروه لم يقرءوا كتبه؛ فمن هاجمه نُقل له أنه كافر، ومن ناصره كان يجد في نفسه شيئا من الكفر، فأعتقد أن نصر أبو زيد علي ملته في الكفر. وذكر نصر أبو زيد أنه ليس بكافر علي الإطلاق، ولا يوجد في كل ما كتبه شيء ضد الإيمان، وأنه ينقد الفكر الإنساني فقط، أما الإيمان فإنه يحتفي به ويريد أن يستعيده بأوسع معانيه. وقد أوضح أن مكمن الداء في مجتمعاتنا العربية هو "الاستبداد " الذي تمارسه قوي تظن أنها تملك الحقيقة المطلقة. وذكر أن الاستبداد وغياب الحرية يؤديان إلي " تجريف العقل " وجعله يتوقف تدريجيا عن التفكير، وبالتالي يحتاج في كل خطوة إلي مرشد يوجهه، وفتوي يتحرك علي أساسها. كما أن هذا التجريف للعقل يحول الدين إلي وقود يحترق لتدور عربة السياسة. فهل يمكن أن نجد في ذلك اعترافاً بفشل المشروع التنوير العربي وفقاً للمفاهيم الغربية التي تعادي الدين وكل ما هو شأناً روحياً ؟ وهل يمكننا أن ندعي أن موت نصر أبو زيد الفجائي قد أوقف تطور واكتمال مشروعه نحو اتجاه تنويري جديد، يمكن أن نُطلق علي أصحابه اسم " التنويريين الجدد " الذين يجمعون بين الرؤية الفلسفية والنظرة النقدية والتمسك بالثوابت الدينية؟ وهل نحن في حاجة في عالمنا العربي اليوم إلي عصر تنوير جديد؟ أعتقد أن هذا السؤال أصبح ملحاً اليوم بعد ما تردد عن فشل المشروع الحداثي والتنويري العربي في إحداث تغيير يذكر في بنية الفكر والمجتمعات العربية، ومن هنا فقد تعددت الكتابات في الفترة الأخيرة التي تتكلم عن محنة التنوير وأسباب فشل المشروع التنويري العربي. فنجد الدكتور جلال أمين أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة، يرفض في كتابه " التنوير الزائف "، فكرة التحديث من خلال تقليد الغرب، ويعيب علي رواد التنوير العرب تبنيهم لشعارات التنوير الغربي، فعادوا ما عاده التنويريون الغربيون، وصادقوا ما صادقوه؛ عادوا الدين واستهانوا به . ورأينا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين في مصر كتابات تسير في هذا الطريق، فتتناول المقدسات بأقل قدر من الاحترام، بهدف ضمان احتفاء الإعلام والمؤسسات الغربية بها. ويعتقد الدكتور "حسن حنفي" أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة ، أن رواد النهضة الأوائل: الطهطاوي، ومحمد عبده، وأديب إسحق، وأحمد فارس الشدياق، ومحمد فريدو وجدي، وعثمان أمين، لم ينقلوا كتابات فلاسفة التنوير الغربي من أجل الترويج لثقافة الآخر، بل أعادوا بناءه لصالحهم ، وبرهنوا عليه من تراثهم الخاص، ولكن أتبع هؤلاء جيل من التنويريين العرب، نقل فلاسفة التنوير الغربي بلا هدف واضح، وبلا إعادة بناء لتراثنا القديم، وكأن جذور نهضتنا يمكن أن ترتد إلي اليونان. وكرد فعل علي هذا التنوير المغلوط قام الواقع ممثلا في التيارات الدينية الأصولية برفضها جميعاً، وعاد إلي التراث القدم يحاول إحياءه بلا تنوير. أما الراحل الدكتور " محمد عابد الجابري" فلم يخرج رأيه عن هذا السياق ، وهو يري أن قادة التنوير لدينا قد تبنوا مقولات فلاسفة التنوير الغربي في أوروبا ، وحاول زرعها في العالم العربي، مع أن التنوير يجب أن يتم من الداخل، أما ما يأتي الخارج، فلا معني له إلا لمن يستطيع أن ينقل نفسه إلي داخل هذا الخارج. ولهذا فهو يعتقد أن التنوير يمكن أن يتم من الداخل، بإعادة بناء التراث القديم، وبإلقاء النور علي الحقيقة ليراها الناس كما هي، وبفتح المجال لإعمال العقل، وإزالة السلطات التي تقيده. وفي كتابه " فكر حركة الاستنارة " يتساءل الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري عن مضمون التنوير والنهضة والتقدم، وهل الطريق إلي كل ذلك يقتصر علي تقليد الغرب ، أم من الممكن أن يتحقق عبر الاستفادة من تجربة الغرب في تحديد ورسم النموذج الحضاري الخاص بنا ؟ ويلفت الدكتور عبد الوهاب المسيري الانتباه إلي أن رواد التنوير العرب ظل مفهومهم للتنوير يدور في فلك النموذج الغربي، الذي يعتبر العقل وحده المرجعية النهائية ومصدر القيم، ومركز الكون، وبالتالي فهذا النموذج الغربي يستبعد الدين ويقصره علي مجرد علاقة شخصية بن الإنسان وربه، فلا شأن له بمنظومات الإنسان المعرفية والأخلاقية والاجتماعية. وإجمالاً، يمكن القول، إن هناك رؤية تكتسب قوتها ووجاهتها من الواقع تؤكد أن المشروع التنويري العربي قد فشل، وإن من أهم أسباب فشله،عجز أصحابه عن التعامل الإيجابي مع التراث، فأحدثوا قطيعة كاملة معه، وكان الأجدر بهم أن يعيدوا تجديد هذا التراث ليتناسب مع مقتضيات العصر. ومن أسباب فشله أيضاً عدم احترام نُخبه المثقفة لثوابت ومقدسات الأمة، وسعيهم المستمر للتشكيك فيها والسخرية منها وتقويضها، مما أثار عليهم غضب الجماهير وأحدث قطيعة تامة بينهما. ومن هنا، أصبحت الحاجة ملحة لظهور تيار تنويري جديد، يتسم أصحابه بالواقعية والاتزان في محاولتهم لتحديث المجتمعات العربية، ولعل أهم ملامح المشروع الفكري أن أصحابه، يتمسكون بالعقلانية وبامتلاك الرؤية الفلسفية و النظرة النقدية ، إلا أنهم يتمسكون في الوقت ذاته بثوابت الدين. إلا أن التنويريين الجدد لابد لهم أن يدركوا جيداً أن الدين مقوم أساسي من مقومات هذه الأمة، وأن عودة الناس إليه هي وجه من وجوه الواقع لا ينكره إلا غافل، وبالتالي فإن أصحاب المشاريع الفكرية التي تعادي الدين أو تهمشه ضمن منظومتها الفكرية، هم قوم يحرثون في الماء ويزرعون في رمال صحراء جرداء ، ولن تؤثر مشاريعهم إلا في نخبة محدودة عدداً وعدة. التنويريون الجدد لابد لهم أن يدركوا أن للأمة ثوابتها التي يجب أن تظل فوق كل شكل من أشكال النقد ، ناهيك عن التطاول والتجريح، وأن الإلحاد والتجاوز في مخاطبة الذات الإلهية، والتطاول علي المقدسات كان موضة في مرحلة زمانية ماضية، وموجة ركبها العديد من المثقفين ، إلا أنه لم يعد كذلك ، ولم يعد من المجدِ أيضاً أن يقضي المثقف التنويري الجديد عمره في خصومة مع الله. التنويريون الجدد يقع علي عاتقهم إجراء مصالحة بين الإيماني والعقلاني ؛فلا مستقبل لعقل يعادي الإيمان، ولا لإيمان يعادي العقل. بل إن المستقبل هو " للعقل المؤمن " الذي ينطلق من يقين ونور إيمانه بالله ليوجه سهام نقده لكل قوي الشر من البشر والدول الذين نصبوا أنفسهم آلهة من دون الله، وأخذوا علي عاتقهم أن يصير الحق باطلاً والباطل حقا. في النهاية، فإن التنويريين الجدد هدفهم الأساسي هو إحداث تغيير في بنية العقل المسلم المعاصر ومنطلقات تفكيره، مع الحرص الشديد من جانبهم من الوقوع في فخ الإفراط أو التفريط. فهل ينجح هذا الاتجاه في الاستجابة لهذا التحدي المفروض عليه اليوم، من أجل إعادة اكتشاف ما في الإسلام من طاقات روحية وحضارية، والمواءمة بينه وبين العقل والعصر؟. وهل ستتاح له الظروف الملائمة لقيامه بهذا الدور؟ الدكتور عصمت نصار أستاذ الفكر العربي المعاصر ، ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة بني سويف، في رده علينا قال : إن أراد هذا الجيل إن يضمن لمشروعه النجاح فعليه أن يحقق فهما صحيحا للثوابت الدينية، مع وعي تام بمتغيرات العصر ، بصرف النظر عن نوعية هذه المتغيرات، علمية أو سياسية، فلابد من الوعي بها ، وتطويعها لخدمة الثوابت وليس العكس . كما يجب علي أصحاب هذا الاتجاه أن يقوموا بعملية " ابتضاع " للمناهج والأفكار الغربية ، وليس النقل العشوائي للمناهج والأفكار الغربية . والابتضاع في مفهومه يرتبط بالشراء، والشراء تسبقه عملية تقييم وفرز ونقد وتحليل، وهذه الاستراتيجية يجب أن تكون عماد تعاملنا مع المناهج والأفكار الغربية، أنتقي منها ما يصلح لي ، وأضفي عليه من خصوصيتي الحضارية. ويذكر الدكتور عصمت نصار أنه من المؤمنين بنظرية تناكح الثقافات، وهذه نظرية مارسناها إبان عهد الازدهار الإسلامي، وأثمرت الكثير في تاريخنا الثقافي. ومن هذا التناكح الثقافي سيخرج جنين ثقافي قوي وثري يحمل خصائص أفضل ما في الثقافتين. وفيما يتعلق بمدي فرص النجاح التي يمكن أن يلاقيها هذا التيار قال: إن نجاحه مشروط بوجود سلطة تدعمه؛ فالخطابات والمشاريع الفكرية لا تتحقق فعلاً إلا بجود سلطة تحميها، سواء أكانت السلطة من القمة أم من القاع. فعلي سبيل المثال ، فإن المشروع الفكري لرفاعة الطهطاوي هو نموذج للمشاريع الفكرية التي دعمت من القمة ؛ فلولا دعم محمد علي له، لفشل هذا الخطاب المستنير. أما المشروع الفكري الذي دعم من القاعدة، فهو مشروع الإمام محمد عبده؛ فالسلطة متمثلة في الاحتلال الإنجليزي والخديوي عباس حلمي الثاني كانت ناقمة عليه. ولكنه استطاع أن يصطنع قاعدة شعبية كبيرة تدعمه ، من رواد المقاهي، وطلاب المدارس العلمية، والأفندية وهم نواة المثقفين في ذلك العهد . ومن هذه القاعدة الشعبية العريضة استمد مشروعه قوته وضغط علي الإنجليز وعلي الخديوي. ويقسم الدكتور محمد السيد الجليند، أستاذ الفلسفة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة من تناولوا مصطلح التنوير في العالم العربي إلي مستويين المستوي الأول : استورد أصحابه المصطلح كاملاً بكل مضامينه من الغرب، وحاولوا تطبيقه في العالم العربي مثل شبلي شميل وسلامة موسي ولويس عوض وفؤاد زكريا . والمستوي الثاني حاول أصحابه البحث عن جذور لهذا المصطلح في التراث العربي والإسلامي. ولكنهم انطلقوا من مقولات ومناهج غربية، وتعسفوا في تطبيقها علي شخصيات مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ، وحملوا آراءهم أكثر ما تحتمل، في قراءة مغلوطة ليثبتوا أنهم تنويريين وفقاً للمنظور الغربي. وينصح الدكتور الجليند التنويريين الجدد بأن عليهم ألا يقعوا في نفس الخطأ، وان يحددوا منطلقاتهم وغايتهم بوضوح تام ، بشرط التمسك بالثوابت وعدم التسرع في استحداث مصطلحات جديدة تحدث صدي إعلامياً، دون مضمون حقيقي جديد.