بفضل نظافة عملية إنشاء "مترو الأنفاق" فى استانبول توقعت صحيفة فرنسية فى التسعينيات صعود "أردوغان" ورفاقه فى تركيا، وهو ما حدث بالفعل، فهل تجعلنا فضيحة مترو القاهرة نتوقع رحيل الحزب الوطنى؟ هل "يدوس" المترو على الأيدى التى امتدت للرشوة و"تصعق" كهرباؤه وجوه الفاسدين الكالحة وكروشهم الطالحة؟ وهل وصل الحزب الوطنى إلى "آخر الخط" وأصبح مطالباً بإبراز صك براءة لا يملكه لمواصلة الرحلة، أم أنه سيظل قادراً على الاستمرار عبر القفز فوق البوابات واقتحام العربات واختطاف القطارات؟ كان مانشيت "المصريون" يوم السبت الماضى يقول "القضاء الفرنسي يكشف رشاوى لمسئولين مصريين لقبول أنظمة تشغيل لمترو الأنفاق"، وفى تفاصيل الخبر أن مسؤولين مصريين سابقين تلقوا رشاوى من الشركة الفرنسية thales se لقبول أنظمة تشغيل غير مطابقة للمواصفات، كما أن الرشاوى استخدمت لتمرير المخالفات التى شابت المشروع كله، من حفر الأنفاق إلى الإنشاءات إلى المبالغة فى أسعار القاطرات والعربات. الخبر ذكرنى بزيارتى الأولى لاستانبول فى منتصف التسعينيات، كنا فى يناير، حيث الثلوج تغمر كل شئ والحرارة تحت الصفر، لكن الرغبة فى معرفة تفاصيل التجربة السياسية الفريدة التى كان يقودها آنذاك المخضرم "د.نجم الدين أربكان" وحزبه "الرفاه" وبهجة الاكتشاف منحانى دفئاً ساعدنى على العمل 20 ساعة يومياً لمدة 10 أيام هى كل زمن الزيارة التى كانت بهدف تغطية انتخابات برلمانية حصل فيها "الرفاه" على أكثرية لا أغلبية محققاً نحو 22% من مقاعد البرلمان، ما جعله يحتل المركز الأول بين الأحزاب التركية. وقد التقيت عدداً من قيادات "الرفاه" كان أبرزها خريج مدرسة الأئمة والخطباء "رجب طيب أردوغان" رئيس وزراء تركيا الحالى ورئيس بلدية استانبول المنتخب آنذاك الذى كتبت عنه فوراً إنه "رجل تركيا" القادم"، ولم تكذب الأيام فألى! بالطبع لم يكن ما كتبته رجماً بالغيب، لكنه استقراء لعدة شواهد من مواقف الرجل، ومن أهمها ذلك الموقف الذى ظل مجهولاً إلى أن نشرته إحدى الصحف الفرنسية، وهى صحيفة سبقت الجميع إلى توقع صعود "الأحزاب التى تحترم الإسلام" إلى سدة الحكم فى تركيا. الصحيفة وأظنها كانت "لوفيجارو" قالت إن "أردوغان" الذى أشرف بحكم منصبه على إنشاء مترو أنفاق استانبول أثبت أنه مفاوض صعب، وذلك فى المفاوضات التى جرت مع الشركة الفرنسية thales se نفس الشركة التى تولت إنشاء مترو أنفاق القاهرة فقد ظل رئيس البلدية يدقق فى كل بند ويساوم فى كل "فرنك" مطالباً الشركة بالتخفيض هنا وهناك، حتى إذا "عصر" الشركة عصراً ولم يعد هناك مجال للمساومة قال لممثليها: ها قد اتفقنا على السعر، والآن أين عمولتى؟ ودهش ممثلو الشركة من هذا الرجل الذى "نشف ريقهم" وقالوا: وهل تركت لنا مجالاً للبحبحة والعمولات؟ ارفع السعر وخذ ما شئت. لكنه أصر مؤكداً أنه لن يزيد السعر وسيحصل على عمولة وإلا فإنه سيلغى الصفقة. وإزاء إصراره وافقت الشركة على منحه نسبة من قيمة العقد كعمولة، وهنا قال لهم: والآن، من فضلكم خفضوا هذه النسبة من إجمالى قيمة العقد، فقد طلبت العمولة لصالح الوطن "تركيا" لا لصالح نفسى. وعلقت الصحيفة الفرنسية قائلة: إن رجالاً كهذا الرجل "رجب طيب أردوغان" جديرون بالحصول على ثقة شعبهم لأنهم حريصون على مصلحته وقادرون على إدارة الأمور، ونتوقع لهم مزيداً من الانتصارات. وقد صدقت الأيام حدس الصحيفة، حيث حصل "الرفاه" فى الانتخابات البرلمانية على نسبة أعلى من التى حققها فى البلديات، وأصبح "أربكان" رئيساً للوزراء، وعلى الرغم من محاولات العسكر والمافيا المستميتة لإيقاف مسيرة النجاح، فإن "أردوغان" وحزبه "العدالة" نجحا فى مواصلة المسيرة، وتحقيق نجاح برلمانى باهر بأغلبية مطلقة مريحة، لم تشهدها تركيا على مدى نصف القرن، أغلبية مكنت الحزب من تشكيل الحكومة منفرداً وتولى "أردوغان" رئاسة الوزراء. هذا ما كان من أمر الرجال الحريصين على مصلحة شعبهم والأمناء عليها حسبما أثبتت عملية "مترو الأنفاق"، فما الذى سيحدث للصوص المتاجرين بأقوات شعبهم والخونة لمصلحته؟ ماذا سيحدث لمن ستكشف التحقيقات تورطهم فى الرشوة وتسببهم فى إلحاق الخسارة بمصر وتكبيلها بمزيد من الديون، مقابل تكديس المزيد من "فتات العمولات" فى أرصدتهم بالخارج؟ هل تشهد القاهرة رحيل اللصوص فى المترو نفسه الذى جاء بالشرفاء إلى استانبول؟ ... اللهم آمين.