الحادث الإجرامي الذي وقع في مدينة "نيس" الفرنسية ليلا ، أثناء احتفالات شعبية باليوم الوطني ليحصد أرواح أكثر من ثمانين إنسانا حتى هذه اللحظة ، هو جريمة وحشية مدانة بكل تأكيد ، دينا وخلقا وإنسانية ، ولا يمكن تبريرها أو التقليل من بشاعتها تحت أي حديث أو مقارنات أو مشاهدات أخرى ، وقد أزعجني كثيرا نزوع بعض المعلقين إلى استحضار مواقف قديمة لفرنسا أيام الاحتلال أو بعض مواقفها الجديدة في العالم الثالث ، فهذا كله من الضلال الإنساني والأخلاقي ، فلا معنى للمقارنة ولا لاستخدام أخطاء أو حتى جرائم لتبرير جرائم أخرى ، الجرائم لا يبرر بعضها بعضا ، إن كنت تدين فرنسا أو غيرها في واقعة أو حادثة قديما أو حديثا فهذا حقك وحق الإنسانية معك ، ولكن هذا لا يعني ، ولا يسمح لك ، بأن تقلل من بشاعة جريمة أخرى ، مثل جريمة نيس ، فضلا عن أن تبررها ، كما أن الاعتداء على الآمنين والمدنيين بتلك الوحشية هو عمل خسيس ، لمن جبن عن أن يخوض معاركه مع خصومه المقاتلين في ميادين المعارك لكي يستضعف المدنيين ويقتلهم بكل وحشية وخسة . محنة الشعب السوري كانت حاضرة في أغلب التعليقات على جريمة "نيس" ، وأنا مشفق على أبناء سوريا من الجرائم الوحشية اليومية التي ترتكبها قوات بشار الأسد وطائراته وكذلك الوحشية التي ترتكبها الطائرات الروسية بقتل المدنيين بالعشرات يوميا ، وهي جرائم وحشية وإرهابية بالفعل ، ترتكبها دول ونظم حكم ، ولكنها لا تمنع إدانتنا لاستهداف المدنيين في "نيس" الفرنسية ، أو في اسطنبول أو بغداد أو القاهرة أو السعودية أو أي مكان آخر ، بنفس القدر الذي ندين به الجرائم الوحشية في حلب وداريا وحمص وحماة ، تلك حدود فاصلة ينبغي أن تكون محسومة في عقل وضمير الجميع ، ولا تحتاج لإعادة التأكيد مع كل جريمة إرهابية جديدة ، وإن كنا نلح على العالم أن يستعيد ضميره أمام محنة الشعب السوري لكي يدرك أن من أجواء الموت والخراب هذه تنمو خلايا الإرهاب الأعمى ، وأن على العالم أن يتضافر لإنقاذ الشعب السوري من جلاده الإرهابي الدموي ، وأن يوقف حمام الدم ، وأن يساعد الشعب السوري على استعادة حريته وقراره وكرامته وآدميته ، في نظام ديمقراطي لا تشرف عليه أجهزة القمع الطائفية ، فهذا هو ما يختصر طريق البشرية وخلاصها من الإرهاب الأسود . على جانب آخر ، يمارس إعلاميون ومثقفون عرب إرهابا من نوع آخر ، عندما يستخدمون مثل تلك الحوادث لكي يهاجموا الإسلام والمسلمين جملة ، محملينه مسئولية ما يحدث من جرائم إرهابية ، حتى قبل أي تحقيقات ، وهو نوع من الإرهاب الممزوج بانتهازية فكرية أو ايديولوجية لمن يخاصمون الفكرة الإسلامية أساسا ، ويكرهون المتدينين بشكل خاص ، وهؤلاء تجار دم لا يقلون بشاعة عن الإرهابيين مرتكبي الجريمة الأصلية ، والغريب أن التقارير الأولية عن حادث "نيس" من الشرطة الفرنسية ذاتها ، تقول أن الشاب المجرم الذي ارتكب الواقعة وهو فرنسي المولد من أصول تونسية ، كان متورطا في جرائم جنائية من قبل ويتعاطى المخدرات ومنفصل عن زوجته بسبب اعتداءاته المتكررة عليها ، كما كان مسجلا جنائيا خطرا لدى الشرطة ولا يعرف عنه أي تدين أو نشاط إسلامي ، وهناك احتمالات متزايدة وفق التقارير أن تكون الجريمة بدوافع كراهية اجتماعية وإحباط واكتئاب نفسي كما أشار بعض المحللين الفرنسيين في تعليقات أولية على الجريمة ، وقد كانت السلطات الفرنسية وما زالت حتى هذه اللحظة حذرة في توصيف الحادث كعمل إرهابي ، لأن شخصية المجرم ملتبسة جدا . رائحة الدم في كل مكان من الأرض الآن ، واسترخاص النفس البشرية بدون أي تميز ، واستهداف الجميع من كل دين وجنس بدون تفريق ، واتساع مساحة الكراهية ، والعنف الأسود والمجنون على خلفيات دينية أو عرقية أو سياسية أو إجرامية عادية ، يضع العالم على مفترق طرق حقيقي ، العالم أحوج ما يكون الآن إلى التضامن من أجل نشر العدالة والسلام والأمان والكرامة والحرية لكل البشر ، في كل مكان من القرية الكونية الواحدة .