من يتابع تصريحات المسؤولين الكبار حول كارثة رى المحاصيل الغذائية بمياه المجارى، يدرك دون عناء أن كل مسؤول من هؤلاء لا يعنيه من هذه الفضيحة غير تبرئة نفسه ووزارته من تحمل المسؤولية، والحرص البالغ على عدم اتهام مسؤول آخر أو وزارة أخرى بالتسبب فى هذه الكارثة. صحيح أن محافظة حلوان سارعت بتحرير محاضر لمزارعى الصف، وأنذرتهم بغرامات باهظة، وبانتزاع الأراضى منهم إذا لم يقوموا بإزالة الزرع من الأرض فوراً، وصحيح أن وزارة الزراعة أصدرت قرارات مماثلة بالإزالة الجبرية لكل الزراعات المروية بمياه المجارى فى منطقة الصف وتحميل المزارعين نفقات الإزالة. ولكن هذه القرارات لا تعنى إطلاقا اعترافا ضمنيا من المحليات فى حلوان أو وزارة الزراعة بالمسؤولية عن هذه الفضيحة، وإنما كان الهدف الوحيد منها هو الإيحاء للرأى العام بأن أجهزة الحكومة لا تتوانى عن التصدى للمخالفات الجسيمة وحماية المستهلكين الأبرياء من المزارعين الأشرار الذين تعمدوا رى محاصيلهم الغذائية بمياه المجارى الخام التى تؤدى إلى النمو السريع للنبات والثمار وتضاعف الإنتاجية. وقبل عشرة أيام تقريبا، أدلى الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الرى بحوار طويل ل«المصرى اليوم».. أشاد فيه عدة مرات بالحملة الصحفية التى قادتها، وكانت سببا رئيسيا فى إطلاع الرأى العام على فضيحة رى المحاصيل الزراعية بمياه المجارى. وفى مقابل هذه الإشادة كرر الوزير، عدة مرات أيضاً، اتهامه للمزارعين بالإهمال ومخالفة عقود استصلاح الأراضى التى تنص على استخدام هذه الأراضى فى زراعة الأشجار الخشبية فقط، دون أن ينتبه إلى أن أقل مزارع فى منطقة الصف بإمكانه أن يضع وزير الرى وغيره من الوزراء فى حرج بالغ، بمجرد إظهار عقد واحد من عقود هذه الأراضى التى لا يوجد فيها أى بند يحدد نوعية المحاصيل المصرح بزراعتها فى هذه المنطقة. والمثير فى هذه الفضيحة القومية، أن وزراء الرى والزراعة والمحليات والإسكان والبيئة، ما كادوا ينتهون من تجهيز حيثيات التنصل من المسؤولية عن كارثة الصف، حتى فاجأتهم «المصرى اليوم» بأن هذه الجريمة تمارس منذ عشر سنوات على الأقل فى العديد من محافظات مصر، وأن لدينا مئات الآلاف من الأفدنة فى الدلتا تروى بمياه الصرف الصحى غير المعالج، أو بمياه الصرف التى خضعت فقط لمعالجة أولية، وأن آلاف القرى والعزب فى الدلتا تكسح مجاريها وتلقى بها كما هى فى الترع المخصصة لرى الأراضى الزراعية، وأن محطات الصرف الصحى التى تديرها وزارة الإسكان لم تعد قادرة على نفقات معالجة ملايين الأمتار المكعبة التى تستقبلها يوميا من البيوت والمنشآت، ولهذا تلجأ عادة إلى تصريف هذه الحمولة الباهظة فى الترع ليستخدمها الفلاحون فى رى أراضيهم بعد أن عجزت وزارة الرى عن ضبط توزيع المقننات المائية الكافية لاحتياجات الزراعة فى الدلتا. ومنذ أيام، قمت بجولة واسعة فى غيطان مركز منية النصر بمحافظة الدقهلية، فإذا بى أمام مشهد مفجع، فكل الترع دون استثناء تحولت إلى برك قذرة ومستنقعات آسنة تختلط فيها المياه العذبة بالمجارى الخام، وتمثل فى حد ذاتها مصدراً دائماً للأوبئة والأمراض، وقد رفع المزارعون آلاف الشكاوى إلى كل الجهات المسؤولة، ولم يسأل عنهم أحد. ومنذ سنوات كف المزارعون عن الشكاوى لأن أمراض الكلى والكبد والسرطانات التى انتشرت فى الدلتا كالوباء بسبب هذه المحاصيل القذرة، شغلت كل أوقاتهم فى استجداء العلاج على نفقة الدولة، ولم تترك لهم مجالا للبحث عن مخرج من هذه الكارثة لدى وزارتى الزراعة والرى. [email protected]