ربما تندهش حين تقرأ هذا المقال «صباح!»، تكتب عن صباح!!، العجوز المتصابية، التى تبدل أزواجها كما تبدل أحذيتها، وتعترف بخيانتهم علنًا فى وسائل الإعلام. ليتك كتبت عن قروية تساعد زوجها فى أعمال الحقل، عن صبر الزوجات وحيل الأمهات لتدبير الميزانية حتى آخر الشهر، عن الفتيات الحالمات بحظهن العادل فى الحياة، عن العوانس اللاتى يكابدن مرارة القهر، عن الأرامل والمطلقات. لكن صباح!!، تكتب عن صباح. نعم أكتب لأنى أؤمن أنه فى داخل كل إنسان شىء يستحق الكتابة عنه، رابط مشترك بين أبناء الفناء. من يدرى!، لعل صباح تمثلنا جميعًا فى ركض الإنسان الأبدى خلف سراب الشباب. أو وسيلة تستخدمها الأقدار لإبراز معنى، أو ضحية لمأساة أكبر منها. أسهل شىء أن تدين وترفض، وأصعب شىء أن تفهم وترحم. من المهم لمبادئنا أن نعلن الرفض، والأهم لإنسانيتنا أن نتقن العطف. نعم صباح!!، أكتب عن صباح. لا ريب أننى كنت صغيرًا جدًا حينما شاهدتها لأول مرة، بيضاء كالثلج، شقراء كالعسل، مشرقة كالربيع. تقع فى الحب كياسمينة يطوحها النسيم، وفى تأرجح الياسمين تكمن تفاصيل الفيلم، مع أبطال فى وسامة كمال الشناوى، أو رجولة رشدى أباظة أو رقة عبدالحليم. صباح: مرآتها أحداق الرجال. وفى كل مكان تذهب إليه تسمع شهقات النساء. تشاهد شحوبهن لشحرورة جاءت من أرز لبنان، وجبال لبنان، ودلال لبنان، بجسد ممشوق، ولطف مطبوع، وغناء شجى. هكذا عاشت صباح، هكذا كانت صباح. ثم حدث ما ليس من حدوثه بد. دارت الأرض دورتها حول نفسها والشمس. جاء نهار وذهب نهار. وولد أطفال عديدون، من بينهم بنات. ثم دارت الأرض عدة مرات أخرى فصارت البنات نساء احتللن المقاعد الأمامية. لعبة الكراسى الموسيقى التى تتقنها الحياة. يومًا بعد يوم، عامًا بعد عام، كبرت صباح. كبرت ولم تصدق أن العمر حرامى، والكوكب الأرضى لن يكف - مهما فعلت- عن الدوران. راحت أيامها وزحفت تجاعيد السنين، كطماطم ذابلة، كبشرة هندى عجوز، كقلب دعكته الخطوب. توالت قصص زواجها من شبان فى عمر أحفادها. امرأة المرمر تحولت إلى مادة نميمة وتندر وحكايات. أميرة الحب صارت عجوزًا ترتدى ما تخجل منه بنت العشرين. ذهبت صباح الأعجوبة، وبقيت صباح الأمثولة، زوج وراء زوج، عشيق فى أثر عشيق، كلهم يضربونها، ينهبونها، يبتزون مالها، وفى النهاية يهجرونها. فيلم مكرر، فيلم مؤثر، فيلم حزين. أبدًا لن أقسو عليها، أو أسخر منها، أو أراها إلا كما هى فى الحقيقة: امرأة فى أزمة، سرقتها الأزمنة القديمة، والأحلام القديمة، والآمال القديمة. امرأة تعذبها مشاهدة الأفلام القديمة، وصباح القديمة. لم تصدق أن الأرض تدور، والأيام ترحل، والوجوه تشيخ. ديدن حياتنا الأرضية، الفظة المخادعة، تهدهدنا بالأمانى ولا تكلف نفسها عناء الاعتذار. وفيما استسلمنا نحن لأحكام المقادير، ظلت صباح مخطوفة فى الأيام الجميلة، مع كمال الشناوى ورشدى أباظة وعبدالحليم. .................. صباح: معركة الإنسان اليائسة مع قوى أعتى منه، قواعد المأساة الإغريقية مع العناصر الأزلية وأهمها الزمان. لم يطاوعنى قلبى أن أنظر إليها قط كمهرج فى سيرك بل وثبة روح مقاتلة من أجل الحياة. صحيح أنها وثبة بائسة، يائسة، محكوم عليها بالفشل، محاولة طفل أن يطير عكس قوانين الطبيعة بلا ريش ولا جناح. صحيح أن الهزيمة هى قدرها النهائى فى معركة محسومة سلفًا تثير كل لواعج الأشجان. أواه يا زمن، تبدؤنا بالأمل وتنهينا بالألم، تغرقنا بالشهد وتختمنا بالعلقم، تمنحنا نضارة الشباب وتدخر لنا تجاعيد الشيخوخة، تأخذ وجوهنا النضرة وعيوننا اللامعة وملامحنا البريئة، وتمنحنا بدلا منها وجوهًا حزينة، متعبة، مجهدة، لا تمتّ بصلة لوجوهنا القديمة. أواه يا زمن، تريدنا أن نستسلم لحكمك القاسى، نتظاهر أننا قد كبرنا، وامتلأنا حكمة، والحقيقة أننا نتوق للعب والحب والحياة. وفى كلنا جزء من صباح. صباح، يا من تحاربين الزمان بفستان ملون ومساحيق زينة وقلب مفعم بحب الحياة. انزعى فساتين البنات وارتدى شال الجدات، اغسلى وجهك من مساحيق الزينة وانعمى بشيخوخة تستحقينها. آن الأوان للمحاربة العجوز أن تضع سلاحها وتستريح، حينما يكون خصمك هو الزمان فإن الهزيمة يكون لها طعم النصر، ولا يبقى أمامنا غير الراية البيضاء والاستسلام المريح.