3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    الدولار ب50.56 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الاثنين 16-6-2025    خلال عودته من الديوان العام للاستراحة.. المحافظ يتجول بدراجة هوائية بشوارع قنا    ارتفاع عدد القتلى الإسرائيليين بعد انتشال جثتين من موقع سقوط صاروخ إيراني بمدينة بات يام    الأمن الإيراني يطارد سيارة تابعة للموساد الإسرائيلي وسط إطلاق نار| فيديو    الآن.. ارتفاع عدد القتلى في إسرائيل بعد الهجوم الإيراني الجديد    بعد نهاية الجولة الأولى| ترتيب مجموعة الأهلي بكأس العالم للأندية    مفاجآت في تشكيل السعودية ضد هايتي بكأس كونكاكاف الذهبية 2025    لحظة انتشال الضحايا من أسفل مدخنة مصنع طوب بالصف (فيديو)    ننشر حالة الطقس اليوم الاثنين ودرجات الحرارة المتوقعة بالمحافظات    مراجعة اللغة الفرنسية الصف الثالث الثانوي 2025 الجزء الثاني «PDF»    نجوى كرم تطلق ألبوم «حالة طوارئ» وسط تفاعل واسع وجمهور مترقب    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    مجموعة الأهلي - بورتو وبالميراس يتعادلان في مباراة رائعة    "بعد لقطة إنتر ميامي".. هل يلقى حسين الشحات نفس مصير محمد شريف مع الأهلي؟    كأس العالم للأندية.. الأهلي يحافظ على الصدارة بعد تعادل بورتو أمام بالميراس    أحمد سعد يشعل حفل الجامعة الأمريكية، ويحيي الأوائل    ترامب: سنواصل دعم إسرائيل للدفاع عن نفسها    زيادة جديدة ب 400 للجنيه.. أسعار الذهب اليوم الإثنين بالصاغة وعيار 21 الآن بالمصنعية    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأثنين 16 يونيو 2025    صرف الخبز البلدي المدعم للمصطافين في عدد من المحافظات    الأكل بايت من الفرح.. إصابة سيدة وأبنائها الثلاثة بتسمم غذائي في قنا    وفاة تلميذ متأثرًا بإصابته بلدغة ثعبان في قنا    إيران.. الدفاعات الجوية تسقط مسيرات إسرائيلية في مناطق مختلفة من البلاد    نشوة البداية وخيبة النهاية.. لواء إسرائيلي يكشف عن شلل ستعاني منه تل أبيب إذا نفذت إيران خطتها    إمام عاشور: أشكر الخطيب.. ما فعله ليس غريبا على الأهلي    شركة مياه الشرب بكفر الشيخ تُصلح كسرين في خط مياه الشرب    رجال الأعمال المصريين الأفارقة تطلق أكبر خريطة استثمارية شاملة لدعم التعاون الاقتصادي مع إفريقيا    ختام فعاليات اليوم الأول من برنامج "المرأة تقود" بكفر الشيخ    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل الدراسة في فارم دي صيدلة إكلينيكية حلوان    بى إس جى ضد أتلتيكو مدريد.. إنريكى: نسير على الطريق الصحيح    رابط نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 الترم الثاني محافظة القاهرة.. فور ظهورها    رصاص في قلب الليل.. أسرار مأمورية أمنية تحولت لمعركة في أطفيح    حريق داخل مدينة البعوث الإسلامية بالدراسة    ملخص وأهداف مباراة بى إس جى ضد أتلتيكو مدريد فى كأس العالم للأندية    مباريات كأس العالم للأندية اليوم الإثنين والقنوات الناقلة    وزير الثقافة يشيد ب"كارمن": معالجة جريئة ورؤية فنية راقية    ليلى عز العرب: كل عائلتى وأصحابهم واللى بعرفهم أشادوا بحلقات "نوستالجيا"    يسرا: «فراق أمي قاطع فيّا لحد النهارده».. وزوجها يبكي صالح سليم (فيديو)    علاقة مهمة ستنشئ قريبًا.. توقعات برج العقرب اليوم 16 يونيو    حدث بالفن | وفاة نجل صلاح الشرنوبي وموقف محرج ل باسكال مشعلاني والفنانين في مباراة الأهلي    رياضة ½ الليل| الأهلي يفسخ عقد لاعبه.. غرامة تريزيجيه.. عودة إمام عاشور.. والاستعانة بخبير أجنبي    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    عانى من أضرار صحية وتسبب في تغيير سياسة «جينيس».. قصة مراهق ظل 11 يوما دون نوم    سبب رئيسي في آلام الظهر والرقبة.. أبرز علامات الانزلاق الغضروفي    لدغة نحلة تُنهي حياة ملياردير هندي خلال مباراة "بولو"    صحة الفيوم تعلن إجراء 4،441 جلسة غسيل كلوي خلال أيام عيد الأضحى المبارك    الثلاثاء.. تشييع جثمان شقيق الفنانة لطيفة    عميدة إعلام عين شمس: النماذج العربية الداعمة لتطوير التعليم تجارب ملهمة    غرفة الصناعات المعدنية: من الوارد خفض إمدادات الغاز لمصانع الحديد (فيديو)    "نقل النواب" تناقش طلبات إحاطة بشأن تأخر مشروعات بالمحافظات    3 طرق شهيرة لإعداد صوص الشيكولاتة في المنزل    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.نوال السعداوى تكتب من أطلانطا: أنا أكتب إذن أنا أعيش

لم تظهر الشمس طوال اليوم فى مدينة أطلانطا، رغم التنبؤ بإشراقها فى عيد ميلاد المسيح، لم تكن أندرونيكا إلى جوارى لأجادلها وتجادلنى، رغم تعصبها للمسيحية.. تعشق أندرونيكا الجدل، خاصة معى، تعرف أندرونيكا أن الجامعة تدفع لى لأعلم الطلاب الجدل، فهى جامعة متقدمة فكرياً، تجذب الأساتذة من كل أنحاء العالم، من أجل إثارة الجدل، لا تحظى «إثارة الجدل» بسمعة سيئة كما هو الحال فى جامعات أخرى أمريكية أو عربية أو غيرهما.
كانت رئيسة الجامعة الدكتورة بيفيرلى تاتام قد استمعت إلى محاضرتى فى 23 أبريل 2007، الساعة الرابعة مساء.. فى السادسة مساء دعتنى للعشاء فى بيتها، أثناء العشاء قالت لى: كم أحب أن تكونى أستاذة هنا فى هذه الجامعة، أيمكن أن تأتى إلى أطلانطا؟ أيمكن أن تعيشى هنا فى الجنوب؟ ضحكت وقلت: أى جنوب هذا وأنا من أفريقيا من مصر؟
بعد دقائق قليلة، قبل أن تنهى الدكتورة تاتام عشاءها، غادرت غرفة الطعام، ثم عادت وفى يدها ورقة ناولتها لى وقالت: «هذا عقد لمدة عامين لتكونى أستاذة كرسى معنا هنا فى الجامعة! اندهشت، واندهش معى ضيوفها حول مائدة العشاء، كيف تركت عشاءها وكيف أمكنها أن تكتب العقد على الكمبيوتر بهذه السرعة؟ ترددت لحظة قبل أن أقرأ العقد، لكن بعد أن قرأته أمسكت القلم ووقعت باسمى، ورفع الجميع كؤوسهم ليشربوا نخب الأستاذة الجديدة التى تدرس الإبداع والتمرد!
سافرت أندرونيكا إلى نيويورك لتحتفل بالكريسماس مع الأسرة العزيزة، رغم أنها لا تشعر بأى انتماء إلى هذه الأسرة التى يترأسها أبوها، يقول أبوها إن الكون لم يخلق فى ستة أيام، إن الكتاب المقدس من تأليف البشر، إن المسيح لم يولد من الأم العذراء، ولم يخرج من قبره بعد أن مات أبوها مثل 65٪ من الشعب الأمريكى لا يذهب إلى الكنيسة، ولا يؤمن إلا بالعلم والعقل والبرهان، لكنه يشارك الأغلبية فى الاحتفال بالكريسماس، رغبة فى الاستمتاع بلقاء الأقارب والأصدقاء، والتهام الطعام اللذيذ مع النبيذ والخمر، وكل المحرمات الممنوعة فى الحياة الدنيا المباحة فى الجنة فقط، تقول أندرونيكا باشمئناط إن أباها لا يؤمن بحياة بعد الموت، ويقول لها ولأخوتها إنه لا يملك إلا حياة واحدة فقط فوق الأرض!
أفقت على رنين التليفون، جاءنى صوت ابنتى «منى» تقول: «كل سنة وإنتِ طيبة يا ماما»، صوتها يشبه صوت العصافير فى الصباح، تصحو ابنتى مبكراً مع العصافير، تقود سيارتها الحمراء الصغيرة إلى النادى، ترتدى المايوه وتسبح ساعة كاملة أو ساعة ونصف الساعة، ثم تعود إلى البيت لتتناول القهوة والفطور، تجلس إلى مكتبها وتكتب مقالها الأسبوعى، أو قصة قصيرة أو قصيدة شعر، أو السيناريو الجديد الذى تعده للتليفزيون أو السينما.
«فتحت الإيميل يا ماما؟ افتحيه واسمعى الموسيقى فى رسالتى».. فتحت الكمبيوتر واستمعت معها إلى قطعة موسيقية وأغنية بمناسبة السنة الجديدة 2009، غمرتنى السعادة كأنما أجلس مع ابنتى فى بيتها فى القاهرة، أو كأنما هى تجلس معى فى بيتى فى أطلانطا.
انكمش حجم الكون، انتصر العلم الحديث على المكان والزمان، فى أقل من غمضة عين يحدث الاتصال عبر البحار والمحيطات، الصوت والصورة والحركة وكل شىء، لم يبق إلا الجسد لينتقل أيضاً فى لمح البصر، ربما يتحقق هذا أيضاً فى المستقبل القريب، حين تصبح مركبات الفضاء ضمن وسائل المواصلات، سرعتها تحسب بحركة الضوء وليست بالدقيقة أو الساعة.
لم أعد أشعر بالبعد عن أى مكان وزمان وإن ابتعدت، لم أعد أشعر بالغربة أو الوحدة، فالشمس هى الشمس، والقمر هو القمر، وصوت العصافير هو صوت العصافير، وصوت ابنتى يأتينى رغم المسافات والبحار والمحيطات، وأهم من كل ذلك أن أكتب كتاباً جديداً، ذكريات حياتى وراء المحيط «أنا أكتب إذن أنا أعيش» أهو ديكارت الذى قال: «أنا أفكر إذن أنا موجود؟
لا يا سيدى لا يكفى أن تفكر لتعيش، لابد لأفكارك أن تخرج إلى الناس عن طريق الكتابة، وإلا فلماذا كتب الآلهة كتبهم وأرسلوها للناس مطبوعة على الورق؟ لولا كتاب الموتى ما عرفنا عن الإله أوزوريس، ولولا كتاب الأناشيد ما عرفنا شيئاً عن الإله إخناتون، ولولا كتاب التوراة ما عرف الناس إله موسى، ولولا كتاب الإنجيل ما عرفنا شيئاً عن إله المسيحية، ولولا كتاب القرآن ما عرف أحد عن إله الإسلام، لولا كتاب الجيتا ما عرف الهنود آلهتهم.
لأنى أكتب فأنا لا أعرف الغربة أو الغرابة أو الكآبة أو الفجيعة أو الفضيحة أو غيرها مما يحزن البشر، ومن ماذا يحزن البشر أكثر من هذا؟ امرأة يموت زوجها لماذا تحزن أو امرأة يخونها زوجها مع نساء آخريات لماذا تكتئب؟ أو رجل يدخل السجن أو يرحل إلى المنفى؟ لماذا يشعر بالغربة أو الحزن؟ لماذا لا يبتهج بالتجربة الجديدة، بالحياة المختلفة دون زوج أو أسرة أو وطن؟
الكتابة تجعل الوطن هو كل العالم، تجعل الإنسانية هى الأسرة والوطن، الكتابة هى حياتى وراء الشمس، وأمام الشمس، هى حروفى بقلمى المطبوعة على الورق، تربطنى بالناس وتربط الناس بى فى كل البلاد بكل اللغات، لهذا أستقبل الصبح الجديد بحب جديد، بأفكار جديدة تنتظر القلم والورق، أحب رائحة أوراقى أكثر من أى عطر.
قال لى زوجى الثانى ذات يوم: أنت تكرهين الجنس! أنت تكرهين الرجال!، قلت له: غير صحيح أنا مثل البشر بكل غرائزهم، ولكنى أحب الكتابة أكثر من الجنس والرجال، اندهش الزوج الذى لم يعرف لذة الكتابة وقال: يعنى إيه تحبى أكوام الورق ده أكتر من زوجك؟
تصور الرجل أن العيب فيه أو فى فحولته لكنى شرحت له الأمر دون جدوى، لم يكن خياله قادراً على إدراك حقيقة: أن المرأة لها عقل يفكر، وأن التفكير وحده لا يكفى ليكون الإنسان إنساناً، بل لابد من التعبير، لابد من توصيل الأفكار للناس، وأضفت قائلة: إن ديكارت قال نصف الحقيقة فقط، لا يكفى أن تفكر لتعيش، وانفجر الزوج غاضباً ولعن أبو ديكارت وأبو الشخص المجنون الذى أباح التعليم للنساء!
بعد الطلاق أقسم الرجل ألا يقترب من امرأة تقرأ، فما بال أن تقرأ وتكتب، ثم زوّجته أمة لفتاة من العائلة لا تفك الخط.
ربما تكون هذه مشكلة الكاتبات فى العالم أجمع، هنا فى أطلانطا لم أتعرف على كاتبة أمريكية سوداء أو بيضاء، إلا وعرفت أنها لم تتزوج أبداً، أو تزوجت عدة مرات وطلقت زوجها بعد فترة، أو أن زوجها ذهب إلى الحرب ولم يعد، أو عاد دون أن تعود إليه، أو أن زوجها مات فى حادث ما أو بإرادة إلهية، وأقسمت من بعده ألا تقرب الرجال، لا حباً فى زوجها الميت بل كراهية فى الأزواج الأحياء.
زميلتى شارلوت، أستاذة الأدب الإنجليزى، تخصصت فى أدب فرجينيا وولف، تربطها بها علاقة إعجاب كبيرة، أشبه بالحب، تقول عنها تناسخ الأرواح، أقدمت شارلوت على الانتحار مثل فرجينيا وولف، وفى يوم جاءنى زوجها يشكو، أنها لا تحبه وتريد الانفصال عنه، وسألته: هل تظن أنها تحب أحداً غيرك؟ فقال الرجل: يا ريت تحب رجلا آخر، إنها تكره كل الرجال، تكره الجنس كله!
صوته رن فى أذنى يشبه صوت زوجى السابق، رغم أنه يتكلم الإنجليزية، حاولت أن أشرح له الأمر دون جدوى، كان عاجزاً عن الفهم، كان يتصور مثل أغلب الرجال أن ليس فى حياة النساء من شاغل إلا الرجل والسرير، قالت لى شارلوت فيما بعد: مشكلة الرجال واحدة منذ نشوء النظام الأبوى العبودى، يتمركز فكر الرجل فى الفالاس، البينيس، إنه الفاليك كالتشر «يعنى الثقافة النابعة من الفالاس، العضو الذكورى الجنسى وليس العقل» يتصور الرجل أن المرأة لا تفكر إلا فى الفالاس، تضحى بكل شىء من أجل الفالاس.. يعجز الرجل عن إدارك الحقيقة التاريخية: أن المرأة سبقت الرجل فى التطور الإنسانى.
شعرت بالجوع ورأيت الساعة تشير إلى السادسة والنصف مساء، تذكرت أننى لم آكل منذ الصباح، جلست إلى الكمبيوتر أكتب دون أن أشعر بمرور تسع ساعات، الصبح والظهر والمغرب، مرت وجبات الطعام الثلاث دون أن أتحرك من مكانى، دون أن يقرصنى الجوع، إذا تغلبت الكتابة على غريزة الجوع أقوى الغرائز ألا تتغلب على غيرها الأقل إلحاحاً؟
ألهذا حرمت الكنيسة الكتابة على النساء كما قالت شارلوت؟ وقلت لها: أهى الكنيسة وحدها؟ قالت: الكنيسة بدأت وتبعها الآخرون وقلت: أهى الكتابة فقط التى تم تحريمها؟ وقالت شارلوت: حرمت الكنيسة الضحك على النساء، لأن الضحك يعنى السعادة، وإن عرفت المرأة السعادة مدت يدها وأكلت من شجرة المعرفة، تذوقت اللذة المحرمة، وبدأت الكتابة، فالمعرفة تقود إلى الكتابة والكتابة تقود إلى المعرفة، أى أن بدل الخطيئة الواحدة خطيئتان.
أعددت لنفسى وجبة خفيفة: شوربة دجاج مع الأرز البنى وجبن بنى، لم أعد آكل الجبن الأبيض أو الأرز الأبيض، أشترى الفاكهة والخضروات واللحوم والخبز من المحل الأورجانيك، يعنى العضوى، يعنى الذى يبيع المنتجات الطبيعية العضوية من الحقل وليس المنتجات المصنعة المخلوطة بالكيماويات الضارة، أدفع الثمن مضاعفاً فى المحال الأورجانيك لأكتشف بعد مرور الزمن أن الفرق ليس كبيراً بين ما يسمونه أورجانيك وبين غير الأورجانيك، وضحكت شارلوت وقالت: برافوا عليكى أنا اكتشفت الأمر أيضاً لكنى لم أتصور أن جشع الرأسمالية وخداعها يصل إلى هذا الحد وإذا كان كبار رجال السياسة يكذبون كل يوم فما بال تجار السوبر ماركت؟
تعودت أن أفتح التليفزيون بينما أتناول الطعام، أتابع الأخبار فى أمريكا والعالم، وأتناول وجبتى على مهل مستمتعة بالأكل الذى أعددته بنفسى، ومعه الشاى الإير جراى فى الصباح، أو البيرة المثلجة مع الغداء فى الصيف، أو كأس من النبيذ الأحمر المعتق مع العشاء فى الشتاء، تعلمت كيف أستمتع بالطعام والشراب وكنت لا أعرف لذتهما حين كان الزحام من حولى.. إنها بعض النعم التى تغدقها الوحدة على الإنسان، أن يأكل على مهل يستشعر اللذة، أن يتأمل أخبار العالم بعين لا تتعجل الحكم على الأشياء، ألهذا ارتبط الإبداع بالوحدة والصمت والتأمل العميق غير المتاح فى الزحام والضجيج؟
على شاشة التليفزيون، كانت مجموعة من الأطفال يجلسون على شكل الدائرة حول رجل له لحية بيضاء كبيرة يسمونه بابا نويل أوسانتا كلوس أو اسما آخر، وجهه سمين أبيض، عيناه ضيقتان تبربشان مليئتان بالمكر والخديعة والمراوغة، يرمقه الأطفال بقدسية تحجب القدسية عيونهم فلا يرون الكذب فى عينيه فى مثل عمرهم،
لم أكن أرى الكذب فى عيون الكبار المقدسين، وإن أحسسته بجسدى على شكل وجع فى الصدر وجع غامض فى المثلث الأعلى تحت الضلوع، يشبه الغثيان أو الرغبة فى البكاء، كأنما دموع متراكمة منذ ولدت فى صدرى، داخل الرئة أو فى القلب أو فى ثنايا المعدة كنت أبتلع الدموع قبل أن يراها أحد من الكبار، رغم الابتسامة على وجهى كنت أشعر بالحزن، دون أن أعرف السبب، أشعر بالخديعة دون أن أدركها بعقلى، لقد تم تغييب عقلى منذ الطفولة الأولى، لأومن باللامعقول، بأن الشيطان يهمس فى أذنى بالليل، الملائكة تحوطنى وأنا ساجدة فوق الأرض بين يدى الله، لم يكن هناك باب نويل أو سانتا كلوس، ولا هدايا ولا رقص أو غناء.
فوق الشاشة أرى الأطفال يرقصون ويغنون بنات وأولاد، تحظى البنت بهدايا مثل الولد ترقص وتحرك ذراعيها وساقيها فى الهواء، منذ التاسعة من عمرى بعد أن أصابنى الحيض تجمد جسدى مثل عقلى، أصبحت أمشى بساقين ملتصقتين خوفاً من عيون الرجال، وحماية لأعز ما أملك بين الفخذين، تصورت أن الله لم يخلق الرجال إلا لسبب واحد، أن يتلصصوا فى البصبصة إلى أعز ما أملك، رغبة منهم فى امتلاكه، ألهذا السبب كنت أضغط بكل قوتى على أعز ما أملك حتى لا يسرقه أحد، حتى وأنا غائبة فى النوم، تصورت أن عيون الرجال يمكن أن تنفذ من تحت عقب الباب.
تتوالى الصور فوق الشاشة، داخل الكنيسة يرتل الرجال والنساء من الكتاب المقدس، صبى صغير يرتدى ملابس القس يحمل مبخرة تتصاعد الأبخرة لتعمى العيون عما يحدث هناك..
دائماً أبخرة فى المعابد التى يسمونها بيوت الله، يتخفى الله دائماً وراء عمود من الدخان. فى عينى الصبى الصغير حزن عميق صامت عاجز عن التعبير، يرمقه القس العجوز ذو اللحية البيضاء الكثيفة بعينى الذئب، تتلصص العينان الغائرتان تبصبصان نحو الصبى تنتهزان الفرصة لاغتصاب أعز ما يملك لم أعرف فى طفولتى أن الولد مثل البنت يملك أعز ما يملك، بين ساقيه حتى كبرت قليلاً وعرفت أن الرجال الكبار يمكن أن ينتهكوا عذرية الولد الصغير مثل البنت الصغيرة، لا تكف الصحف هنا عن كشف أسرار القسسيين فى الكنائس، لا يتم الحجر على نشر الفضائح الجنسية بأنواعها المتعددة، المقدس والمدنس سواء بسواء، تربح أجهزة الإعلام من الفضائح أكثر من أى شىء فى السوق الحرة.
بدأت الأخبار تتوالى فى العالم وفى أمريكا، رجل تنكر فى ملابس بابا نويل وأطلق النار على أسرة كاملة كانت تحتفل بالكريسماس، نساء فى نيويورك يبعن بويضاتهن فى السوق الحرة، البيضة ثمنها عشرة آلاف دولار، عاملة فى مطعم فقدت عملها مع الأزمة الاقتصادية، أغلق المطعم أبوابه بسبب قلة الزبائن، لم يعد يذهب إلى المطاعم إلا الأثرياء، تضاعفت أعداد العاطلين والعاطلات لم تجد عاملة المطعم إلا أن تبيع بويضاتها فى السوق، يأخذها تجار بنوك أطفال الأنابيب، يبيع الفقراء من الرجال سائلهم المنوى كل شىء..
قابل للبيع فى السوق، من الدم إلى الكبد والقلب والكلية والحيوان المنوى، أيضاً يرتفع الثمن وينخفض حسب العرض والطلب، زادت أعداد الفقراء والعاطلين وزادت كميات الأعضاء البشرية والبويضات والحيوانات المنوية فى البنوك والمعامل الطبية وانخفض ثمنها، رغم التزايد فى ارتفاع كل الأسعار انخفض سعر الإنسان بكل أجزائه خاصة بويضات النساء، قد ينخفض سعر بويضات النساء فى المستقبل القريب عن بيض الدجاج.
رأيت على الشاشة صور حرائق وأشلاء بشر تتطاير والأطفال تجرى هنا وهناك والنساء تولول، يقول المذيع الأمريكى إن إسرائيل ترد على اعتداءات حماس، تضرب إسرائيل.. مواقع حماس العسكرية فى غزة، وحماس تضرب إسرائيل، يعنى أنها الحرب اشتعلت بين حماس وإسرائيل، لكنى لا أرى حربًا بين جيشين عسكريين، بل جيش عسكرى واحد يضرب الناس فى البيوت والشوارع، دبابات تسحق أطفالا ونساء، قنابل تسقط على البيوت فتشتعل النيران فى كل مكان، لا أرى جيش حماس، أين قوة حماس العسكرية؟
أين صواريخها النارية؟ لا أرى إلا الأشلاء والدم المراق، امرأة تصرخ: آه يا ولدى.. آه يا كبدى ثم تنطلق فى وجهها النيران. قال المذيع: الرئيس بوش يتابع ما يحدث فى غزة، والرئيس المنتخب أوباما يقول للصحافة: مادامت حماس قد اعتدت على إسرائيل فمن حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها!
أغلقت التليفزيون وفتحت الإنترنت، أبحث عن الأخبار فى الصحف والإعلام غير الأمريكى، ألم تصل أخبار المعركة فى غزة إلى بلادنا؟ المانشيتات تتكلم عن الأزمة الاقتصادية، عن تزايد الفقر والبطالة، عن زيارة أوباما خلال المائة يوم الأولى من حكمه لإحدى البلاد الإسلامية، تتبارى الحكومات العربية والإسلامية فى جذب أوباما إلى عاصمتها،
يتنافس أصحاب الأقلام فى تجميل بلدهم فى عين أوباما: تعالى إلى مكة المكرمة يا أوباما فهى أرض الإسلام المقدسة، يحج الملايين من المسلمين إليها كل عام، لا يا أوباما لا تذهب إلى بلد غير ديمقراطى يقهر النساء، تعال إلى القاهرة حيث الديمقراطية وتعدد الأحزاب وحيث الأزهر الشريف أقدم جامعة إسلامية، لا يا أوباما لا تذهب إلى أى بلد عربى، جميع الحكام العرب يتحكمون فى شعوبهم بالحديد والنار، بالديكتاتورية الشرسة تحت اسم الديمقراطية،
تعال إلى جاكرتا عاصمة أكبر دولة إسلامية تسودها الديمقراطية والتعددية والسوق الحرة وكل شىء تجده فى جاكرتا حتى آثار تسونامى التاريخية، تنشب المعركة بين حملة الأقلام فى البلاد الإسلامية والعربية، تسيل أنهر الحبر بدل الدم المراق فى المعارك الحقيقية، تجف الحناجر فى الفضائيات العربية، أصبحت زيارة أوباما شرفًا ما بعده شرف، يتحرر البلد من العبودية والفقر ما إن تطأه قدم أوباما، قدمه المقدسة بحذائه الجلدى الثمين ذى البوز المدبب فى عين الحاسدين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.