قبل سنتين تقريبا سألت قيادياً بارزاً فى «الإخوان المسلمين» عن أسباب قسوة النظام الحاكم على الجماعة، وعن إفراطه فى التنكيل بها، فقال وابتسامة عريضة تكسو ملامحه حتى انبسطت إلى أوسع مدى لها: «لأننا رفضنا أن نحمل على أكتافنا مشروع جمال مبارك». يومها أمعنت النظر فى عينيه مليا، وسألته بجدية ظاهرة: «هل ستتمسكون بموقفكم هذا إلى النهاية؟» فأجاب من دون تردد: بكل تأكيد، لأن مشروع التوريث مرفوض شعبيا، ولا يمكن للإخوان أن يتحملوا أوزاره، أو يتصدوا لتسويقه، فينالهم من أدرانه الكثير. ولأن النوايا لا يحيط بها خبرا إلا علام الغيوب، فقد أخذت كلامه على محمل الجد، وتناسيت تاريخا طويلا من تعاون الإخوان مع السلطة، أيام الملك وإسماعيل صدقى وعبدالناصر والسادات، وهو تعاون لم يورثهم إلا محنة تلو أختها، وعذاباً بعد أخيه. ومرت شهور تناثرت فيها تصريحات قيادات الجماعة، لكنها كانت تتجمع فى مجرى واحد، لا يصب أبدا فى مشروع التوريث، حتى اهتز كل شىء حين اعترف الأستاذ مهدى عاكف المرشد السابق ب«صفقة» بين الجماعة والأمن قبيل الانتخابات التشريعية التى جرت عام 2005. وما إن ترجل عاكف، بناء على طلبه، واختير الدكتور محمد بديع خلفا له، حتى تطلع الجميع إلى المرشد الجديد، ليسمعهم قوله فى قضية «مستقبل الحكم فى مصر». وكانت هذه التطلعات مغلفة بكل الاستنتاجات التى أوجدتها انتخابات الإخوان الأخيرة، والتى دفعت القطبيين إلى واجهة الجماعة، مما جعل أغلب التحليلات تنتهى إلى أن الجماعة انحازت إلى الحفاظ على تماسكها واستمرارها على قيد الحياة، وأعطت هذا أولوية عن أى مزيد من الانخراط فى الحياة السياسية، أو التقرب من القوى الوطنية المطالبة بالإصلاح السياسى. وتحدث بديع، فكشف عن خبايا مطمورة تحت المناورات والمداورات والتحايل والتمايل، ونطق بكلام أشبه بما يردده رجال الحزب الوطنى عن الانتخابات التى تنزع التوريث عن الإتيان بجمال مبارك، أو استنطقه إياه صديقنا الأستاذ عمرو عبدالحميد، مدير مكتب تليفزيون «بى. بى. سى» فى القاهرة، خلال حواره معه. ومهما حاول الإخوان أن يخففوا من الصدمة التى أوقعوها فى صدور كل من ظنوا أن الجماعة لن تكون فى يوم من الأيام نصيرا للتوريث، فإن محاولاتهم هذه قد لا تنجح فى بناء أى جسور للثقة بينهم وبين شعب يرفض هذا المشروع الذى سيودى بمصر إلى مزيد من التراجع، أو بينهم وبين القوى الوطنية وقطاع من المثقفين يتعاطف معهم من منظور حقوقى، لذا يرفض التمييز الواقع ضدهم فى الوظائف العامة، وتحويل المدنيين منهم إلى محاكم عسكرية، ويأبى حصارهم والتضييق عليهم ومطاردتهم وملاحقتهم، والزج بهم فى غياهب السجون، بلا هوادة. وما قاله الدكتور بديع إما أنه أحد خيارات الإخوان منذ البداية، لكنهم كانوا يدخرون الإعلان عنه إلى الوقت المناسب، أو هو توجه عارض صنعته الظروف القاسية التى تعيشها الجماعة، لاسيما بعد أن تيقنت من أن السلطة تسعى إلى تفكيك الإخوان أو إزاحتهم، ولو مؤقتا، من الحياة السياسية المصرية. وقد يكون هذا كله بالون اختبار يريد منه المرشد الجديد أن يقف على نية السلطة حيال الجماعة مستقبلا، أو أنه طُعم يرمى به أمام عيون أهل الحكم لعلهم يلتقطونه ويبلعونه، لاسيما أنهم جوعى إلى أى طرف لديه شعبية عريضة، يهديها لمشروع بلا جمهور. وبالطبع فلن يكون بوسع أحد أن يفسر رأى بديع فى «التوريث» على أنه ناجم عن لسان زل، أو خاطر شرد، أو أنه من قبيل الثرثرة الفارغة، التى تشغل الفراغ، أو تُسوّد بعض سطور الصحف، التى باتت تلهث وراء الإخوان وتتتبع أخبارهم. إن الإخوان فى موقفهم هذا أسرى آراء مرشدهم الأول ومؤسس جماعتهم، الشيخ حسن البنا، حيث كان الرجل لا يؤمن بأى تغيير جذرى، ولا يثق فى قدرة المصريين على التمرد، ولا يطمئن إلى أن الثورة بوسعها أن تصنع واقعا جديدا وجيدا، وهو أمر بالغ الغرابة من رجل عاصر ثورة 1919، وأطلق رجاله ليذهبوا إلى حرب فلسطين 1948. كما أن الإخوان أسرى تجاربهم المريرة التى جعلت «ثقافة المحنة» تسكن صدورهم، وتسرى تحت جلودهم، فتآلفوا مع طرق باب السلطان، ولم ييأسوا من أن يفتح لهم يوما، وهى مسألة عبر عنها أحد قيادييهم ذات يوم حين قال من دون مواربة: «ستظل أيادينا ممدودة إلى الرئيس مبارك». فى الوقت نفسه لا يمكن النظر إلى رأى بديع فى توريث الحكم بعيدا عن المرض الإخوانى العضال، الذى يجعل الجماعة، تفكر وتدبر، كفصيل سياسى واجتماعى يقدم مصلحته على المصلحة العامة، ويُسخّر كل الوسائل الممكنة لخدمة غرضه، ويبنى مجده على أى أكتاف بوسعه أن يعتليها، وأى أجساد بإمكانه أن يقف فوق أجذاعها. إن وقوف الإخوان إلى جانب مشروع التوريث قد يضمن لهم تجميدا مؤقتا لإعمال المادة الخامسة من الدستور، بما يمكّن الجماعة من أن تخوض الانتخابات المقبلة فى أجواء من الحرية النسبية، وقد يجعل السلطة تغض الطرف عن احتفاظهم بعدد مناسب من مقاعد البرلمان، وقد يوفر لهم قدرة على التحرك بحرية فى الشارع والجماعات والأندية والمنتديات والمؤسسات، ومن الممكن أن يدفع السلطة إلى تجميد قضايا مرفوعة ضدهم، وإخراج بعض قيادات الجماعة من السجن، والكف عن ملاحقتهم المستمرة، لكن كل هذا لن يجعل «الإخوان» قادرين على أن يقولوا ويفعلوا كرجال يثق الناس فيهم، بل سيضافون إلى ملحقات النظام الحاكم وذيوله، وستلقى بهم هذه النفعية، التى تعارض أشواق المصريين إلى الحرية والعدالة والكفاية والنظام الجمهورى، فى التهلكة، وسيجدون أنفسهم فى نهاية المطاف قابضين على الريح، وساعتها سيبكون بدلا من الدموع دما، يلطخ وجوههم، وسيلعنهم اللاعنون.