حين تحجز مقعداً فردياً فى قطار فليس بوسعك أن تختار جارك، هكذا جرى لى فوجدت نفسى جالساً بجوار أحد أعضاء أمانة السياسات بالحزب الحاكم. وما إن تصافح وجهانا حتى بادرنى بابتسامة وقال: أهلاً بالمعارضة. فقلت له: لى الشرف رغم أننى لست عضواً فى أى حزب معارض. فرد، من دون أن تفارقه الابتسامة: طبيعى، لأنك تعتبر أغلب أحزاب المعارضة جزءاً من الحكم. ووجدتها فرصة جديدة لأثبت ما ألفته كثيراً من أن الرجال المتحلقين حول السلطة يهجونها، سواء فى الغرف المغلقة أو حين ينفردون بناقديها ورافضيها. ولذا بادرته بالسؤال: هل بات المسرح مهيئاً لقدوم جمال مبارك؟ وما إن لسع السؤال رأسه، حتى اكتست ملامحه بغضب عارم، وقال متهكماً: شغلتم الناس بقضية فارغة. فعجبت لكلامه وقلت له متعجباً: توريث الحكم أمر فارغ. فقال: ليس هناك توريث على الإطلاق. فهززت رأسى وقلت له: تقصد أن الحكم سينتهى إلى جمال عبر إجراءات دستورية شكلية، تسمونها أنتم انتخابات رئاسية، ونسميها نحن، أياً كانت طريقة إخراجها «توريثاً». فأشاح بوجهه إلى الزروع التى تمرق إلى الخلف، ثم أعاده بعد أن فرض على قسماته جدية ظاهرة: جمال لن يأتى أبداً. فملأ السرور قلبى وفاض حتى اتسعت له مقلتاى وانبسطت أساريرى، فقلت له مستوثقاً: أبداً.. أبداً. فقال دون أن تفارقه صرامته: نعم. فسألته: على روعة ما تقول، فإنه لا يغنى عن معرفة السبب.. فما هو؟ فصمت برهة وأجاب: لأن جمال لا يصلح رئيساً لبلد مثل مصر. فقلت له على الفور: ربما يكون هذا رأيك الشخصى. لكنه أنكر كلامى، وقال: هذا رأى كثيرين. فسألته: هل هؤلاء من هوامش أمانة السياسات؟ فأجاب فى ثقة متناهية: بل رأى مجموعة كبيرة من الأساسيين، بمن فيهم أعضاء فى المكتب السياسى ذاته. وهنا دخل الشك قلبى ففرت الفرحة منه، لكنى واصلت الحديث، فالطريق لا يزال طويلاً، وقلت له مستدرجاً: هذا كلام غير مقنع، كل من يتابع المشهد بإمعان يدرك أنهم يحاولون أن يجعلوا الترتيب لجمال مبارك قدراً سياسياً لا فكاك منه. فقال بعد أن وضع عينيه فى عينى وأخفض صوته: مصر بلد كبير، وجمال ليست لديه خبرة كافية لإدارة دولة بهذا التعقيد، وذلك الميراث الاجتماعى، والظروف الاقتصادية الصعبة، ناهيك عن السياق الخارجى الذى التف حول عنقنا، ويسعى إلى خنقنا، فإسرائيل تضغط من الشرق والجنوب، وتحرض دول حوض النيل التى هى بطبيعتها مغبونة من حصتها فى المياه، والسودان على شفا التقسيم، وليبيا شقت طريقاً بعيداً عن السياسة المصرية، وإيران يتعاظم دورها الإقليمى، وقد تتوافق مع الولاياتالمتحدة على حسابنا، وحتى لو حدثت مواجهة عسكرية فالكثير من الشظايا سينهال على رأس مصر. كل هذه الأحوال السيئة لا يستطيع جمال أن يسيطر عليها. وهنا سألته: ألهذا ذكرت الصحف الإسرائيلية نقلاً عن الموساد أن جناحاً فى الأجهزة الأمنية غير موافق على سيناريو التوريث؟ فأجاب: نعم، حتى رجال السياسة، وليس رجال الأمن فقط، لديهم تحفظات، ويجب أن تتأكد من أن هناك فجوة كبيرة بين ما يضطر البعض منهم إلى قوله لأجهزة الإعلام وبين اقتناعه وإحساسه. فضحكت منه وقلت له: أتنكر يا رجل ما أقره رئيس الجمهورية؟ فرد على سؤالى بسؤال: أقر ماذا؟ فأجبت: تصريحاته وأحاديثه قبيل وأثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة أظهرت ميله إلى التوريث، أو على الأقل عدم القطع برفضه، كما كان كثيرون ينتظرون. فقال: لم يجب الرئيس إجابة شافية كافية، لأن هذه مسألة داخلية. فارتفع صوتى ضاحكاً، ثم قلت: إن كانت داخلية فلم الرهان على أمريكا؟ فمرق غضب عابر على جبينه وقال: هذا كلام مرسل. فقلت له: يتردد أن الرئيس مبارك فاتح بوش فى هذا الموضوع، لكن دعك من كلام قد يحتاج إلى من هم فوقنا ليصلوا إلى المعلومات الدقيقة بشأنه، فما يراه كلانا واضحا فى هذا المسار، وهو اصطحاب الرئيس لنجله فى زيارته لواشنطن. وهنا قال صاحبنا فى رد مفاجئ: طبيعى، ألم تكن هدى عبدالناصر تساعد والدها؟ فنظرت فى عينيه ملياً، وقلت له: يا رجل لا تذكر كلاماً أنت لا تقتنع به، هدى لم تكن تصطحب معها وزراء فى زيارات ميدانية، ولم تكن تتصرف على أنها فوق رئيس الوزراء نفسه، ولم تكن قيادة فى الحزب الحاكم، ولم تكن تقوم بزيارات ميدانية، يرتب لها سياسياً وأمنياً بطريقة متطابقة مع ما يتم تدبيره لزيارات الرئيس نفسه. وهنا سألته: ألا تعرف أن الوزراء يذهبون بملفاتهم إلى جمال؟ فسألنى: ما مصدر هذا الكلام؟ فأجبته: مستشار أحد الوزراء البارزين فى الحكومة الحالية. فقال هذا يصب فى عملية مساعدة جمال للرئيس. ثم أردف: الرئيس سيرشح نفسه فى الانتخابات المقبلة، وجمال سيظل على وضعه الحالى. فقلت له: هذا كلام لا دليل قاطعاً عليه، وحتى لو حدث فإن صلاحيات جمال فى الفترة المقبلة ستتوسع، ورجاله سيتقدمون، ويحكمون قبضتهم على كل شىء، وبالتالى قد تصبح عملية التوريث تحصيل حاصل. وسادت لحظة صمت قطعها هو قائلاً: حتى لو جاء جمال إلى الحكم فإن هناك هواجس من قدرته على الاستمرار. فسألته: هواجس لدى من؟ فأجاب: لدى قيادات فى الحزب والأمن وغيرهما ولدى واشنطن التى يهمها أن تبقى مصر مستقرة. ثم حك ذقنه بأظافره وقال: إذا كففتم عن الكتابة حول التوريث فقد يتراجع المشروع. فضحكت وقلت له: لم نختلق شيئاً من عدم. ولاحت المحطة فنظر إلى حقائبه، وسألته وإن أهمُّ منصرفاً: هل هذا الحوار للنشر؟ فضحك وقال: انشر ما تريد لكن لا تذكر اسمى.