كم شاب يعرف أن 23 يوليو هو العيد الوطنى المصرى، وأنه ليس مجرد احتفال فنى ساهر بذكرى ثورة يوليو؟ كم مصرى يهتم بمتابعة الاحتفال بذكرى الثورة، ويساوره أى إحساس بأن هذا اليوم يمثل قيمة وطنية له ولسائر المصريين وأنها تستحق احتفالاً رسمياً؟ أهم ما يميز العيد الوطنى لأى دولة، أن يكون الشعب كله متفقاً على أهمية واحترام وقيمة هذا اليوم تمام الاتفاق. فربما تجد دولة تحتفل بيوم استقلالها، أو خروج الاحتلال الأجنبى منها، أو بنصر عسكرى غير من مكانتها وأهميتها بين الدول.. المهم أن يجسد الاحتفال قصة كفاح كبيرة وعظيمة انتهت بتحسين أحوال الشعب وزيادة قدرات الدولة، ويكون باعثاً للفخر فى كل المواطنين على السواء. وثورة يوليو لم تكن محل خلاف وقت قيامها، واستطاعت أن تقنع الناس فى هذا الوقت بعدالتها.. ولكنها فقدت مصداقيتها بمرور الوقت، وأصبحت ثورة للذكريات، كما كتبت هنا منذ عامين.. وتحولت مبادئها الستة الشهيرة إلى حبر على ورق.. فقد قامت الثورة من أجل القضاء على الإقطاع، فأصبح الإقطاع الآن مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بفساد لا يخفى على أحد.. وقامت الثورة من أجل القضاء على الاستعمار، ونجحت وقتها، ولكن الاستعمار الآن لم يعد بقوات عسكرية كما كان، بل تعددت صوره وأشكاله، فنجد الآن مسؤولين كباراً يلتقون علناً وسراً مسؤولين يعتبرهم الشعب من أعداء الوطن، وربما تصدر قرارات لصالحهم دون أن يهتم أحد بتفسيرها لنا رغم الانتقادات اللاذعة.. وقامت الثورة من أجل القضاء على سيطرة رأس المال، فأصبح رأس المال مسيطراً على المواطنين ومتخذى القرار، بل إن بعضاً من أصحاب رؤوس الأموال أصبحوا وزراء، وأصبح من بين الوزراء من يسب الفقراء علنا، وأصبح أصحاب الأموال يوجهون سياسات الحكومة لمصالحهم.. وقامت الثورة من أجل إقامة عدالة اجتماعية، وما نشهده حالياً لا ينبئ بقدر ولو يسير من تلك العدالة.. وقامت الثورة أيضاً من أجل إقامة جيش وطنى قوى، فلم يحدث ذلك إلا بعد أن فجعنا بنكسة عسكرية مؤلمة، بعدها بدأ بناء الجيش الوطنى القوى، فكانت النكسة سببا ودافعاً لبنائه ودليلاً على أن الثورة تقاعست عن تنفيذ هذا المبدأ.. وقامت الثورة أيضاً من أجل إقامة حياة ديمقراطية سليمة وهو مالم يحدث لامع الثورة ولا حتى الآن بعد مرور 57 عاماً على قيامها.. فلا حياة ديمقراطية سليمة بدون نزاهة انتخابية وتعددية حزبية حقيقية وتداول للسلطة وسقف زمنى للرئاسة.. بل إن النظام الجمهورى الذى أفرزته ثورة يوليو ناقص ومعيب، ولا توجد ضمانات تمنع دون تحوله إلى نظام ملكى من جديد. فماذا تبقى لنا من ثورة يوليو حتى نتخذها عيداً وطنياً، أو حتى نحتفل بها رسمياً؟ الحقيقة التى يجب أن نتوقف عندها أن ثورة يوليو لم تعد محل اتفاق جميع أبناء الشعب المصرى.. ولم يعد من بين أبنائها المتبقين على قيد الحياة من يستطيع إقناع المصريين بأهميتها لهم وأثرها عليهم.. والأيام القادمة- كالعادة- ستشهد تكثيفاً إعلامياً للاحتفال بتلك الثورة، وسيعاد نفس الكلام الذى يكرره نفس المتحدثين كل عام، وسيذيع التليفزيون فيلم «رد قلبى»، ومجموعة أخرى من الأفلام التى حفظناها لتعكس القهر قبل الثورة وتظهر مدى العدالة التى حلت على المصريين بسببها.. ولكن الناس لن تقتنع.. فالناس مشغولون بمشاكل وهموم وصعوبات لاتنتهى تنغص حياتهم، ولايهمهم ثورة يوليو ولا حتى من قاموا بها طالما أنهم لا يشعرون بأى تحسن إيجابى.. والحقيقة أن لمصر تواريخ كثيرة مشرفة، ربما تكون أكثر قيمة عند الناس من ثورة يوليو.. فلدينا ثورة 9 مارس 1919، التى توحد فيها الشعب المصرى بكل فئاته وطوائفه خلف قيادة شعبية شعروا بصدقها، وهذة قيمة نفتقدها حالياً.. ولدينا أيضا 18 يونيو 1956 عيد جلاء آخر جندى بريطانى عن أرض مصر بعد احتلال دام 72 عاماً.. ولدينا 6 أكتوبر 1973 أحد أنصع صفحات التاريخ المصرى العسكرى التى لا خلاف عليها بين المصريين جميعاً، وهو يوم عيد القوات المسلحة. والعيد الوطنى للدولة ليس ترفاً.. ولكنه وسيلة من وسائل تذكير الشعب بقدراته وتاريخه ومنحه الشعور بالوطنية، وهو ماتعجز عنه ثورة يوليو حالياً.. واحتفال اليوم الوطنى فى أى دولة فى العالم له طقوس ترسخ هذة المفاهيم وتمنح الناس شعوراً بالفخر لانتمائهم لهذه الدولة.. فتشارك الطائرات الحربية بعروض جوية مبهرة فوق المدن، وتكون هناك مراسم عامة يشارك فيها الجميع، ويصطحب المواطنون أطفالهم ليشاركوا وليسعدوا فى هذة المناسبة، وتنطلق الوطنية فى شرايينهم من الصغر.. وقد رأيت هذة المظاهر فى عدة دول زرتها أثناء احتفالاتها بأيامها الوطنية.. أما فى مصر فالاحتفال مقصور على الرئيس والوزراء وكبار رجال الدولة ومجموعة محدودة من المدعوين.. بينما الناس لا تهتم، ولا تدرك أن فى مصر عيداً وطنياً أصلاً. والمصريون على كثرة أعيادهم، لا يوجد لديهم عيد واحد يجمعهم.. فمعظم الأعياد عندنا ذات صبغة دينية.. فلو احتفل المسلمون بعيدى الفطر والأضحى لا يحتفل المسيحيون.. ولو احتفل المسيحيون بعيدى الميلاد والقيامة لا يحتفل المسلمون.. وربما لا توجد مناسبة مصرية يشارك فيها المصريون بمظاهر الاحتفال العام إلا شم النسيم باعتباره عيداً ذا صبغة فرعونية، ويمارس فيه الشعب كله نفس العادات التى كان يمارسها المصريون القدماء.. وهو- كعيد شعبى- يمنحنا حالياً إحساساً وتفاعلاً أكبر من الاحتفال بذكرى ثورة يوليو.. ومن العار أن تكون دولة عريقة مثل مصر يكتظ تاريخها بأيام خالدة فى الوطنية ولاتختار من بينها يوماً وطنياً مقنعاً يحتفل المصريون جميعا به، وتصر على التمسك بذكرى ثورة يوليو التى تشهد انقساماً شعبياً حاداً وملموساً حول أهميتها، ولم يتبق لنا منها إلا الذكرى.. أعتقد أن يوم 6 أكتوبر يمكن أن يكون عيداً وطنياً لمصر، يحتفل فيه المصريون جميعاً.. جيشاً وشعباً.. مسلمين وأقباطاً.. أغنياء وفقراء.. فلا يمكن أن تحتفل مصر بيوم وطنى انتهت فترة صلاحيته منذ زمن بعيد. [email protected]