شهدت سبعينيات القرن المنصرم عاملين، تمثل أحدهما فى رغبة الدولة، آنذاك، فى أن تواجه معارضيها السياسيين بالدين، وترد على مقولاتهم السياسية بقال الله وقال الرسول (ص)، وتبع ذلك الإفراج عن قادة الإخوان المحكوم عليهم قبل انقضاء مددهم، والآخر تمثل فى انضمام نخبة من الشباب النشط فى الحركة الإسلامية لجماعة الإخوان المسلمين.. ما أعاد إحياءها بعد دخولها فى حالة موت سريرى نتيجة مصادماتها مع الثورة. ثم جاءت أحداث التحفظ فى سبتمبر واحد وثمانين واغتيال الرئيس السادات فى أكتوبر من العام نفسه، وتولى الرئيس مبارك السلطة فى مصر وألغى قرارات التحفظ، فعاد الشباب لمزاولة نشاطهم بحرية داخل الجماعة مع المرشد عمر التلمسانى، فى ظل غياب القبضة الحديدية من رجالات النظام الخاص المسافرين للخارج انتظارا لما ستؤول إليه الأمور فى مصر. وتواكبت عودتهم مع وفاة التلمسانى فى صيف عام ستة وثمانين وهو العام الذى يمكن أن يؤرخ به للتشكيل الجديد للجماعة، حيث وللمرة الأولى تتعادل كفتا الحركة بين تيارين، أحدهما محافظ يهتم بالتنظيم، والآخر إصلاحى يؤْثر الفعل العام، وأصبح من الصعب بمكان تجاهل تيار على حساب الآخر، خاصة مع الحضور الذى سجله ناشطو جيل السبعينات، ومبادراتهم فى النقابات وغيرها، ولذا كان التوازن والتعايش بينهما داخل الجماعة عنوان هذه المرحلة. وشهدت هذه الحقبة سيرا متوازيا للتيارين، فاختار رجال النظام الخاص التركيز على التنظيم وترتيب آلياته والإمساك بمحابسة التنظيمية، وانشغل جيل السبعينات بالانخراط فى العمل العام أكثر. ومع مرور الوقت وبينما كانت تزيد مساحة الإصلاحيين فى المحيط العام كانت تنكمش مساحتهم داخل التنظيم. بعدها جاءت فترة تقليم أظافر التيار الإصلاحى الذى دخل مرحلة النضج السياسى، وتشكلت رؤيته فى العمل المعلن متبلورة فى مشروع حزب يطلب المشروعية القانونية، فما كان من الجماعة إلا أن تخلت عن شبابها وقالت إنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، ما أدى إلى خروج مجموعة منهم عرفوا بعد ذلك بمجموعة الوسط، وهو ما يقول بجرأة هؤلاء الشباب وثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على الانسلاخ من تنظيم ضخم ليكملوا المسيرة بمعزل عن أى دعم مادى ومعنوى، وتحت ضغط التعرض للاغتيال المعنوى من قبل الجماعة الأم. ورغم ما تركه هذا الحدث من صدى عام إلا أنه خفف من الصداع الذى كان يعانيه المحافظون من الإصلاحيين، وخفتت الأصوات المخالفة داخل الجماعة بعد القضية العسكرية فى العام نفسه، لتبدأ المرحلة قبل الأخيرة وهى مرحلة إبعاد كل صوت مخالف عن مفاصل التنظيم، ومحاصرة الحركيين وعزلهم. وكان الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح بما يمتلكه من مقومات شخصية، ومقدرة على خلق الفعل الفردى المؤثر يتحرك فى كل اتجاه، داخل مكتب الإرشاد وخارجه، ضمن حدود الجماعة وفى محيطها العام، متحديا هذا الحصار والعزل للفكر الإصلاحى، مؤمنا بدعوته التى استثمر فيها جهده وما فات من عمره، فكان وحده يواجه ويتصدى لأفكار إقصائية استعلائية مستغلا قبوله وحضوره العام، وسار فى نبل يصرح بما يراه صحيح الإسلام، يُعلى من شأن المواطنة، يعترف بالمساواة بين البشر جميعا لا فرق بين مسلم وقبطى أو رجل وامرأة، يخط حدود الدين كمرجعية فى الدولة المدنية، لا وصاية على أحد، كلنا مسلمون أو منتمون للحضارة الإسلامية. لتكون الحلقة الأخيرة فى العلاقة الملتبسة بين جيلين فكريين، وهى مرحلة القضاء الكامل وتخليص رأس الجماعة من أى شخص قد تؤدى تصريحاته إلى بلبلة داخلية، فقادة الجماعة يتبنون القول بعدم جواز تولى الرئاسة من قبل المرأة أو القبطى الذى لم يتخط فى منظورهم وضع الذمى ، وبضرورة وجود هيئة دينية عليا تفرض وصايتها على الدولة ومؤسساتها، فكان لابد من توحيد الخطاب الداخلى للتنظيم، وهو أمر سهل والمحافظون يحتلون الأغلبية الكاسحة بنسبة تسعة وتسعين بالمائة داخل التشكيلات العليا، وجاء الإفراج عن الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح فى قضية التنظيم الدولى ليزيل عقبة ضرورة التجديد له، فتم إبعاده من مكتب الإرشاد باستخدام إجراءات ديمقراطية وليس بمفهوم ديمقراطى. أما من بقى داخل الجماعة من أفراد تحمل رؤى تغيرية فوصلتهم الرسالة واضحة، لا يوجد كبير أمام ما يراه قادة الجماعة صوابا، والجميع الآن يقف أمام الاختيار أو الاختبار الفصل، إما إعلان الولاء لرؤية التنظيم أو الانسحاب للمجهول. وبذا حسمت الجماعة خياراتها، وسيطر تيار المحافظين على أكبر تنظيم معارض فى الشارع المصرى، وبذا تكون الجماعة حلت أزمة داخلية تواجهها منذ منتصف الثمانينيات، وهى ما اصطلح على تسميتها بأزمة الجيل الوسيط أو الإصلاحيين فى مواجهة المحافظين، والحرس الجديد فى مقابل الحرس القديم، وها هى الجماعة تعلن أنها تجاوزت هذه الإشكالية وأجابت بوضوح على تساؤلات من عينة لمن ستكون الغلبة؟وإلى أى اتجاه فكرى وسياسى تسير الجماعة؟ أما ما يثار عن الثمن الذى لابد أن تدفعه الجماعة نتيجة هذا التوجه، ففيه مبالغة، فالإخوان كتنظيم عقدى لا يعنيه سوى المنتمين والمؤيدين والمتعاطفين. وعن نسبة الإخوان داخل البرلمان القادم فهى محسومة سلفا بغض النظر عن توجهات الجماعة وانفتاحها من عدمه، فلا يوجد إشراف قضائى على الانتخابات، وهناك حاجة ماسة لرسم البرلمان نوعا وشكلا ليتناسب والاستحقاق الرئاسى. الصورة الآن كالتالى.. تَقدَّم رجال النظام الخاص وتراجع رجال النظام العام، سيطرت آليات التنظيم وتوارى فكر الجماعة، سادت اعتقادات سيد قطب وتجمدت مقولات حسن البنا، انتصر الانعزال وانسحب الانفتاح، فازت الرؤية الاستعلائية وخرج مبدأ الشراكة. ليبقى الوطن مختطفا من قبل جماعات المصالح المحتكرة للسلطة من ناحية، وجماعة الإخوان المحتكرة للحقيقة المطلقة من ناحية أخرى، فى الأولى رجال أعمال ومسؤولون يدافعون عن وجود، وفى الثانية طبقة متوسطة تدافع عن حدود، وبينهما غالبية تَطحن نفسها دفاعا عن رغيف خبز.