فى آيات عديدة يدعو القرآن الكريم المسلمين للسير فى الأرض لينظروا «كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» (الروم : 42)، ولكى يعرفوا «قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (العنكبوت: 20) . فى الهدف الأول من هذا السير سيرى المسلمون آثار الشعوب والقبائل السابقة، وآثار الدول الغابرة وما تركوه من «جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ»، «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ». وهذا درس عملى وواقعى أكثر تأثيرًا ووقعًا من دراسات نظرية، وأشد دلالة على أن طموح بعض الدول تحقيق الخلود والبقاء أبد الدهر والسيطرة على العالم لا يمكن أن يتحقق، ليس فحسب لأن التطور يأبى هذا، ولكن أيضًا لأن أعمال قادة هذه الدول من الطغاة والمتجبرين لابد أن تحيق بهم نتائج طغيانهم ويقضى عليهم. والهدف الثانى من السير فى الأرض أن ينظروا كيف خلق الله تعالى هذا الكون وهذه الأرض، وكيف خلق فيها البحار والأنهار وأنبت فيها البذور والأشجار، وأوجد فيها السهول والجبال، وأجرى الرياح، وأسقط الأمطار. إن الذى خلق هذا أول مرة وقبل أن يكون شيئاً لا يعجزه أن يخلق عالمًا آخر وحياة أخرى أعظم من هذه الحياة. والهدفان يلتقيان فى أنهما يثيران الفكر ويُعْملان العقل، وهما ينمان عن الطبيعة المتفتحة للإسلام، الطبيعة «العالمية» سواء كان ذلك بالنسبة للكون كله، أو كان بالنسبة للمجتمع الإنسانى والقوانين التى تحكم بوجوده وتقضى بفنائه، وسواء كان فى نفس الإنسان أو فى قوى الطبيعة ازدهاره وتقدمه، ثم تحلله وتدهوره. يا لها من دعوة للانطلاق، ومن محاربة للانغلاق أو الانكفاء على النفس. إنها اعتراف بالتطور والحياة المتجددة، واستبعاد للفناء والعدم. إنها الحياة دنيا وآخرة. إن السير فى الأرض ليس إلا الصورة المثمرة للسياحة التى يتجهم لها بعض دعاة الانغلاق، إنها سبيل للتعرف على الحكمة التى قد تكون فى أقصى البلاد، إنها دعوة للتعايش، وصورة من صور «العولمة» الرشيدة، وهى تتلاقى وتتفق مع دعوة القرآن «اسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ»، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
