لا شك أن قول الحقيقة شيء رائع يتسم بها الصادقون ومن يمتلكون صفات القوة والشجاعة في مواجهة واقع بعينه، ولكنها في بعض الحالات تُفقدك الكثير من ثباتك بل وتدخلك في معارك عديدة، ويرجع ذلك إلى كونك لم تدرك الزمان والمكان المناسبين لقول ما تريد، لذلك طريقة التحدث يتوقف عليها كل شيء أياً كان أسلوبك في التعبير واختيار كلماتك، فالحقيقة تعرى الآخرين، فهي قبيحة وبغيضة بالنسبة لكثير من الناس، لكونها تكشف الحقائق، فهي كالشمس ساطعة لذلك يخشى الكثير منا النظر إليها مباشرة، لذلك ففي اعتقاد البعض قول الحقيقة في حينها ضروري، وعدم البوح بها كارثة، بل العكس لم تزد الحقيقة إلا سوءاً، وتعقد الكثير من الأمور, فالمجتمع بطبعة ليس نسيجاً واحداً بل مجزءاً ومليئاً بالمعارك والصراعات التي لا تنتهي، فقول الحقيقة على ما هي عليه يجعلك تصطدم بواقع أشد قسوة، وقد لا تستطيع تغييره بسهولة، بل تجد الظروف قد جعلت البعض في عداد الموتى لسوء حالهم من الداخل لماضيهم الذي يصعب عليك تغييره، وكأنك تحاول إعادة الموتى إلى الحياة. يقول إتيان جلسوت: "ليس من الصعب أن تعثر على الحقيقة، ولكن المشكلة الكبرى هي ألا تحاول الهروب منها إذا وجدتها". قول الحقيقة يجعلك في مواجهة صريحة ويتطلب منك ذلك إبقاء مسافة بينك وبين من تواجهه، تلك المسافة تُتيح لك فرصة للتعايش معها قبل قولها، لعلك تدرك مدى ما وصل إليه الطرف الآخر من ردة نفسية واجتماعية وحياتية من اصطدامه بواقع سيئ، فاستيعاب الحقيقة ليس مريحاً بالدرجة التي تتخيلها، وقولك الحقيقة بدون وعى قد يجعلك أنت أكثر الناس حقارة لأنك مُصر على فضح وكشف المستور بجهل منك، لذلك قول الحقيقة يحتاج منك إلى براعة قوية وعظيمة وذكاءً ماكراً. فأنت مضطر في التحرك فيما هو متاح لك ضمن الدوائر المعروفة لديك من معرفة وقراءة لواقع من حولك والتي قد تساعدك في توصيل ما ترى وقول ما تريد. ففي اعتقاد البعض أن من يقول الحقيقة إنه سوف يأتي بتغيير كلي، وكأنك تريد تحويل إنسان فقير إلى رجل غنى مرة واحدة أو تحوله من تعاسته إلى سعادة، بل العكس، الحقيقة كالتغيير البطيء تحتاج إلى تدرج في قولها وهذا يتطلب منك أن تكون على دراية وكفاءة ومهارة بل والتضحية والصبر في قول الحقيقة، ومن أخطر ما يواجهنا أن نبوح بالحقيقة قبل أوانها. قال أرسطو لأحد تلامذته: "لا تبحث عن الحقيقة، لأنك لن تجدها، وإن وجدتها، فلن تستطيع إخراجها للناس وإن أخرجتها للناس، فهل تجد من يصدقك؟ وإن وجدت من يصدقك، فهل تعلم مدى صدقه لك؟"، لذلك تذكر دائماً أن الحقيقة لا تفرض بالقهر بل ضع في اعتبارك أن الناس سجناء ما ينامون ويصبحون عليه، ويفكرون فيه، بل هم سجناء ما بداخلهم. لذلك لكي تحفر وتحاول أن تستخرج ما بداخلهم من حقائق لابد أن تزودهم بالمفاتيح حتى يفتحوا الأبواب المغلقة بأنفسهم لاكتشافها. المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية