رصدنا في الحلقة "15" من رواية "زمكان" للمفكر ثروت الخرباوي، القيادي السابق بجماعة الإخوان المسلمين؛ انتقاله للعيش مع جده من أجل إكمال دراسته بعد وفاة والده، وانتقال اسرته للعيش بالقاهرة، وبداية تعرفه على عدد من الأصدقاء الجدد. "الإغماء هو عادتي المفضلة عندما يشق الأمر عليَّ، هكذا كنت منذ الطفولة الباكرة، وكأنني أحتمي به من الأشياء التي فوق تصورى وفوق احتمال قلبي أو عقلي، أفقت من الإغماء فوجدت جدي ممسكا بقطعة قماش في حجم المنديل قام بتدليك وجهي بها، شممت رائحتها فوجدتها معطره بعطر لم أشم مثله من قبل، عطر لا أستطيع أن أصفه فهو فوق الخيال وفوق النُهى، لا يكفي أن أقول إنه رائع، بل إن أدق وصف له أنه ليس من دنيانا أبدا. قلت لجدي بصوت باهت : هل الذي قلته لي يا جدي حقيقي. وهل جربت عليَّ كذبا قط ؟. لا. ولكن العقل لا يستوعب أن هذا الأمر حدث فعلا. العقل لا يستوعب أشياء كثيرة، ولكنها موجودة أو حدثت، عقولنا ضعيفة، والدنيا ممتدة، والكون يتسع، والعلم عند الله يعطي منه مايشاء لمن شاء، في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يشاء، لا راد لمشيئته. ليس كل العلم يصدقه الناس يا جدي، معظم العلوم لم يصدقها الناس وأنكروها قبل أن تفرض نفسها. يا بُني إن الناس أبناء ما تعودوا عليه وأعداء ما يجهلونه، لا تقبل عقولهم ما لا يفهمونه، لذلك فأنا أوصيك أن تكتم ما قلته لك عن الدنيا كلها، لا تحكيه لأحد، ولو خرجت على الناس بالسر الذي قلتُه لك لاتهموك في دينك وعقلك، وإن أحسنوا الظن بك سيقولون إن هذه مجرد "تهاويم" خطرت على قلب أحد الصوفيين ما بين اليقظة والمنام، أنا أشفق عليك وعلى دنياك : قالها لي جدي برفق وأناة. إذن سأحتفظ بالسر يا جدي، ولكن إذا وجدت أن العالم يحتاج إلى أن يعرف ما أخبرتني به فسأحكيه ساعتئذ، لابد وأن أكتب للناس وقتها سرك، هذا علم والعلم يجب أن أبوح به. ليس عليك هذا، فهناك علم يجب أن تُعَلِّمه للناس، وهناك علم لا يطيقه الناس لا تثريب علينا إن كتمناه عنهم. ولا تثريب علينا كذلك إن قلناه لهم عندما نجدهم على شفا حفرة من الهلاك. وهل تريد من العقول يا ولدي أن تقبل وتفهم ما يتجاوزها ؟! أخشى أن يظنها الناس حدوتة من نبت الخيال. العلم كله يا جدي في الحكاية، فإذا مجَّت عقول أجيالنا حكايتك، وسخرت من سرك، ستأتي أجيال في قادم الأزمان ترحب بها، بل لعلها قد تكون وقتئذ من الثوابت التي لا شك فيها، من يدري ؟ !... "ويخلق ما لا تعلمون" ألم يقل الله ذلك. إذن أنت تعرف الحكاية وتحفظها كما تحفظ اسمك، لك أن تخبر الناس بها ولكنني ناصحك أن تُحسن اختيار الزمان، هذه هي الأمانة التي سأتركها لك، ولك حرية التبليغ و الكتمان. أذَّن الفجر، فقمنا للصلاة، وبينما جدي يؤم العائلة كلها للصلاة غاب في السجدة الثانية في الركعة الثانية، فتململ أحدنا، ونحنح آخر، ولم يصدر صوت من جدي ! فقام خالي سعيد وهز جدي الذي كان ساجدا، ولكنه كان قد مات. كان عزاء جدي فريدا في الشرقية كلها فلم يحدث أن تجمعت قرى بأكملها لتوديع ميت، حتى أن الناس من كل القرى والمدن القريبة والمراكز والعزب والكفور كانوا يتوافدون على الجنازة بشكل أكبر من قدرة القرية على استيعابهم، وكانت الغنيمة التي احتفظت بها لنفسي هي صورة جدي الملونة مع الشيخ أحمد والشيخ مصطفى، ومعها قطعة القماش ذات الرائحة الذكية التي تترك بهجة في النفس وجلاءً في الروح. كنت وقتها على مشارف الشباب، أتلمس خطواتي في الحياة،ومن بعدها أخذتني الدنيا بأريجها وريحها وضجيجها، انفعلت مع الحياة وانفعلت معي، حنكتني الأحداث وتجاريب الحياة، تزوجت وأنجبت، نجحت كثيرا وفشلت كثيرا، ومع رحلة الحياة لم ينقطع السر عني ولم يغادرني، بل تستطيع القول إنه كان يرسم الكثير من خطوات حياتي ويحدد بعض اختياراتي، يزورني في الأحلام دوما فأعيش معه وأنفصل عن الدنيا كلها، ولكن مع إلحاح السر على ذاتي وكينونتي كلها إلا أنني لم أفصح عنه لأحد ولا حتى لأقرب المقربين مني، غريبة تلك النفس التي تظل عمرها محدودبة على سر كوني أقرب للخيال هو من الحقيقة! هناك حقيقة تدركها الحواس وحقائق أخرى تُعْجِزها، ومن الحقائق ما تذهل بسببها العقول والأفئدة، فإذا عجزت وذهلت استشرفتها الأرواح. شيئا فشيئا ومع مرور الزمن أصبحت حكاية جدي سر أسرار حياتي، وكأن هذه الحكاية ابني الصغير الذي أتعهده بالرعاية والمتابعة، أقارن هذا السر دائما بالواقع الذي نمر عليه ويمر علينا،أتأمل آيات الكون، أسرع الخطى ناحية من سمعت عنهم الصلاح والعلم والحكمة فأجالسهم، ألتقط المعرفة من أي طريق، تعرفت على شيوخ كنت أحسبهم على شيئ فإذا بهم كالوعاء الفارغ، وصاحبت نفرا من الرجال تزدريهم الأعين وهم في حقيقتهم نور آدمي يسري بين البشر، لو علم الناس والملوك فضلهم لتقاتلوا على الجلوس معهم والأخذ منهم وهم مع ذلك نكرات بين الناس، وفي كل رحلتي في الحياة كان "سر جدي" وحكايته هي شغلي الشاغل وحلمي الأعظم. ولأن الأمانة التي حملتها على كاهلي والسر الذي ضمخ فؤادي يتعلق بالزمن فقد أصبحت "قصة جدي" حياة كاملة أعيشها وأحلم بها، هي حياة تحولت إلى حلم سرمدي، أذهب في أحلامي إلى طفولتي، أراني في صباي الأول عاكفا على كتاب أو متجولا في حديقة أو جالسا وحدي على ترعة الإسماعيلية، وأراني في حلم آخر وأنا أصل إلى قمة الدهشة عندما يخرج جدي من " محفظته الكبيرة " قطعة القماش البيضاء الغريبة النسج ذات الرائحة الذكية، والتي تقرأ فيها عبارة مطرزة على النسيج " من أبي عبد الله أحمد بن محمد الشيباني لعبد الله غريب بن يوسف السعيدي الثقفي باركك الله ورفع قدرك في الدنيا والآخرة ". والآن إذا وصلت رسالتي إليكم، فترحموا على أحمد بن محمد الشيباني، والحاج غريب بن يوسف السعيدي الثقفي، والعبد الفقير إلى الله ناقل هذا العلم عبد الله أبو يحي الجوسقي.