عاشوا أمواتا؛ فقرروا أن يموتوا ليبقوا أحياء ، أحدهم تسلق بهمة عالية أعلى لوحة إعلانية في القاهرة صعد مقتربا من السماء يبثها حزنه ، يتلمس نجاة من حضن وطن أعجف ، شنق نفسه وترك لنا جسدا متدليا حيا في ذاكرتنا يرسل رسالة قاسية تدمي القلوب تتساءل عن ضياع إنسانيته وامتهان كرامته ، وثان يتصل بوسائل الإعلام المرئية لتسلط عليه الضوء وهو يسكب بنزينا على جسده البائس اليائس ويشعل نفسه في مشهد يظل عالقا طويلا في الأذهان ليصبح هذا الانتحار" الاستعراضي " الوسيلة الأخيرة والوحيدة لجذب الانتباه لآدمية مهدرة وغربة معاشة ، ليصبح حيا بعد موته بعد أن فشل في أن يحيا قبل مواته . شباب يعاني اليأس والإحباط والبطالة وضيق ذات اليد؛ فطبقا للاحصاءات الرسمية وصلت نسبة البطالة إلى أكثر من 13 بالمئة من عدد السكان أي نحو 10 مليون عاطل عن العمل؛ 95 بالمئة منهم من الشباب المؤهل جامعيا تتراوح أعمارهم مابين 22 إلى 35 عاما؛ أي أفضل وأهم مرحلة سنية قادرة على العمل والعطاء وتحمل مشاق النهوض بالوطن ، البديل المتاح لهذه الطاقة المعطلة تبدأ من القعود على الأرصفة والمقاهي مرورا باللهو الرخيص وتعاطي المخدرات للهرب من واقع يرفضونه ، وصولا لانحرافات وجرائم وهجرة غير شرعية لمن كفر بوطن أصبح الموت غرقا أهون الحلول ، وانتهاء بالانضمام لجماعات متطرفة أو إرهابية تمارس انتقاما من مجتمع غير قادر على احتوائها . دهشتي لاتنقطع وأنا أرى شبابا جامعيا يعمل في دول الخليج كفرد أمن أو حارس عقار أو سائق أجرة أونادل في مطعم ، والعيب ليس فيه بل في مناهج تعليمية عجزت عن تأهيله لمواكبة متطلبات سوق العمل بعد دراسة أمضى فيها 12 عاما من حياته أويزيد ، أتساءل هل أخطأ جمال عبد الناصر حين جعل مجانية التعليم حتى المرحلة الجامعية دون دراسة الاحتياج الفعلي لسوق العمل وجاء من بعده خلف قالوا هكذا فعل أباؤنا ؟! أم الخطأ في مناهج تعليمية احتاجت للتطوير ولم ينصت أحد لندائها ؟ أم عدم الاستفادة من تجارب بعض دول أقامت ورش العمل التدريبية عقب نهاية المرحلة الجامعية لمدة 6 أشهر تهيئ فيها الخريج بشكل عملي تجعله قادرا على الانخراط في سوق العمل مباشرة ؟ أتساءل عن مسئولية رجال الأعمال المقصرين في رد جميل الوطن وتوفير فرص عمل بدلا من استيراد عمالة أسيوية رخيصة، وإن كان العيب يقع على كاهل المشرع لقوانين سمحت، أم نلومهم على عدم تدريب الشباب في مصانعهم وشركاتهم ومزارعهم ولو دون حافز مادي ، يخرج بعدها قادرا على إدارة مشروع خاص صغير يكفل له الحد الأدنى من معيشة كريمة دون إراقة ماء وجهه ، ولعل الإعلان الأخير لوزارة التعليم عن حاجتها لخريجي جامعات في وظيفة " مساعد معلم " شريطة إتقان اللغة الإنجليزية ومهارات الحاسب الآلي وفنون القيادة استفزاز جديد يمارسه أولوا الأمر وهم يعلمون تماما حال الخريج وحال جامعاتنا وإمكاناتها . يا سادة ..الفراغ مفسدة والشباب طاقة لن تهدأ حتى تجد لها متنفسا ووسيلة لإفراغها ، وليس بغريب أن تكون البطالة أخطر ما يواجهه المجتمع سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا وأمنيا ، فليحتضن الوطن أبناءه وأحلامه ليتمكنوا من العزف على أوتاره ، مهِدوا لهم السبيل فشبابنا لم يعد يتقن إلا الرحيل . المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية