خضرة أبوليلة.. جِنيّة.. ألقت بها أمواج الأبيض المتوسط لتكون عروسًا للبحر فى اليابسة.. فاستقر بها المقام هناك على الشاطئ.. على بعد أمتار قلائل من "بوغاز البرلس" الذى شهد أول إرهاصات معركة التحرير.. ولتتغنى بأشعارها كما غنّت الرشاشات والبنادق فى أيدى أبطال موقعة البرلس البحرية. هناك وعلى مقربة من ضريح شيخ الإمامين البخارى وأبى داود.. جلست الشاعرة - خضرة أبوليلة - تحاكى البحر تارة وتناجيه تارات. وما إن اتخذت موقعها -جلوسًا- فوق الرمال الناصعة التى انعكست عليها الشمس فأكسبتها لونًا ذهبيًا براقًا حتى سبحت بأفكارها فى عُباب البحر، تتساءل: إلى أين يذهب ومن أين يجيء.. تأملت مدنًا كبيرة، وموانئ، ومرافئ، صنوفًا من البشر، وألوانًا من الناس، ثقافات عدة، ولغات متباينة تطل على البحر ويطل عليها.. وبينما هى غارقة فى تأملاتها فاجأتها ساعة أصيل صيفية.. وكلما مال قرص الشمس نحو الاحمرار تأججت بداخل الشاعرة رغبة.. لم تعرف ماهيتها فى البداية .. فراحت تهرب إلى التأمل أكثر وأكثر فى صوت تلاطم الأمواج.. الموجة تلطم الموجة وتسلمها لغيرها حتى تصل للشاطئ هادئة.. أصاخت السمع فإذ بصوت ارتطام الأمواج الهائل.. وقد استحال إلى همس يشبه همس الشفاه.. أصاخت السمع أكثر وأكثر فإذا بتلاطم الأمواج ما هو إلاّ قبلات رقيقة تطبعها كل موجة فوق وجنة أختها.. وهكذا دواليك حتى أحسّت الشاعرة أنها -نفسها- المقصودة بالقبلة الرقيقة. فإذا بالرغبة المجهولة قد اتضحت ماهيتها واستبانت معالمها.. فكانت شرارة البدء نحو الانطلاق لتخطَّ الشاعرة باكورة إنتاجها -الأدبى- على الإطلاق فراحت تناجى الموجة قائلة: "فارده منديلك يا غالية فوق تلال الرمل عالى ..................................." إلى آخر قصيدتها"إمسكى إيدك بإيدى". وما إن أقلع النهار مرتحلاً، وحط الليل بسكونه وهدوئه.. حتى عادت الفتاة خضرة إلى بيتها حاملة لقبًا جديدًا، لقب "شاعرة". ويبدو أنها أدمنت الكتابة برائحة اليود.. فعاودت الذهاب إلى الشاطئ لتستأنف مناجاتها التى اتخذت منحىً جديدًا هذه المرة وكأنها ترجو الموجة ألاّ تتخلى عنها فراحت تقول: "حياتى فى همسك وروحى فى صورتك وباعشق سكاتك .......................... ........................... وألوِّن فى بُكره بريشه فى إيدك" ودأبت على الاستمتاع بالبحر، وأدمنت حواسّها رائحة اليود وكأنما الشاعرة والموجة صارتا صديقين، فراحت تهدهدها قائلة: "نامى فوق كتفى اللى حضنك واستغطِّى برمش عينى" فى تناص غير مباشر مع المثل الشعبى "كتف زاد.. وكتف ميه" وتطلب إليها أن تشاركها أحلامها ورسمها وخوفها بل وأحضانها أيضًا، فتستطرد فى نفس القصيدة: " واحلمى حلمى اللى عشته ارسمى لوحه جميلة فيها غنوة عن حبيب ............................ إلى آخر قصيدة "نامى" ويبلغ هيامُ الشاعرة بالموجة أيّما مبلغ فتؤكد: "أنا بابك وشِبّاكِك وأنا سمكك وأنا شِباكِك وأنا صياد لأعدائِك وبصطادك.. .... ......................... الى آخر قصيدة "غربة" فلما آنست الموجة واستأنست بها لم يقتصر حديثها على الأحلام والأمنيات فحسب، بل راحت تقص عليها: "مشاكل شعب بدون إحساس وبيتجرّح وانا قلبى حزين راح اشكى لمين كل آهاتنا وحكاية ناس بتعيش وخلاص وبدون إحساس مش لاقيه رغيف مش لاقيه أمان" وحدث أن ارتفعت حِدّة المقاومة فى غزة بقدر ما اشتدت ضراوة الصهاينة هناك، وكانت علاقة الشاعرة قد توطّدت بالموجة التى لا تنفك عن تقبيلها كلّما لاحت شمسُ السماء معلنة قدوم نهار جديد فراحت تشكو بثها وحزنها على إخوة لها ولنا فى فلسيطن تهرق دماؤهم فقالت تحادث الموجة: "ملعون أبو كل اليهود والأمريكان ملعون أبو كل اللى خان كلمة وطن ما اعرفش .................." إلى قولها: "والناس خلاص اتجمدت" وكانت الشاعرة قد نسيت تمامًا فى غمرة عِشقها الأمواج تعاليم الكبار ونصائحهم و"روشتة" نواهيهم عندما كانوا يُحَذّرون الناشئة "غدر البحر"............. حتى راحت السكرة وجاءت الفكرة عندما طارت الأنباء..على جناحى غراب الشؤم مخبرة بإعلان البحر تمرده ورفْضَه إلاّ أن يودى بحياة بضعة عشر صيادًا من أبناء قريتها.. وهنا أُسقِط فى يدى الشاعرة.. أتصدّق أخبارًا فى حكم المؤكدة وتكذّب إحساسها أم .......؟؟؟؟ ودخلت فى نوبة من الحيرة فذهبت إلى الشاطئ علها تجد قادمًا يحمل خبر تكذيب الأنباء.. فلما لم يأتِ البشير ولم يحضر النذير أقنعت نفسها بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأنها لن تدين "البحر/ الصديق" حتى يثبت باليقين القاطع والدليل الدّامغِ ضلوعه فى الحادث.. وفيما هى مستغرقة فى التفكير لمحت على مد بصرها مركبًا يرفع علمًا أجنبيًا.. فلم تتمالك نفسَها وانهمر العتاب الرقيق المشوب بالشفقة المغلَّف بالحسرة فقالت: " هتجرح هتخدع هتجرح ولادك وتعشق أجانب برضه بحبك بحبك بحبك وبعشق سكوتى فى عز انهيارى وبعشق ملامحك" .. وتزداد إصرارًا: "ولو حتى ترفض هاضمك فى حضنى واشيلك فى عينى هترفض وجودى هاغنى ف قصيدة بحبك يوماتى".. وكأنها خشيت أن يفارقها "الحبيب / الموج" فأعدّت كل ما تمتلكه من أسلحة لاستعادته.. فتسلحت بالريشة: "وهارسم ملامحك فى صورة ولادى" وبالقرطاس والقلم: " وأكتب فى شمسك قصيده لبلادى" بل وتجرب الهجران كسلاح أخير تختبر من خلاله مقدرتها على الغِناء عنه: "هسافر فى صمتى" ولكن ما هى إلاّ ثوان حتى تجدها وقد دخلت تيهًا مظلمًا: "أسافر فى صمتى ثوانى فى بعدك تاخدنى متاهه فاتوه وسط صمتى" وبدوره "البحر/ الحبيب" يتوه فيها فتختفى ملامحه، وقد عبّرت الشاعرة هنا عن اختفاء ملامح "الحبيب /البحر" بالسفر، والسفر يُرجَى العودة منه، فضلاً عن الاختفاء الذى قد لا يسفر عن الرؤية مرة أخرى. وكالإعرابى الذى قال: "اللهم أنتَ عبدى وأنا ربك"... عندما عثر على بعير له ضل.. نجدها وقد نسيت -تمامًا - شهداء البحر ومن خلفوه وراءهم من أيامى وأيتام وثكالى ولا تتذكر فقط سوى "الحبيب / البحر" الذى عادت من أجله: " أعود لجل الملم آهاتى فى حبك أضمك فى حضنى أشيلك فى ننّى". وما إن اطمأنت إليه بين ذراعيها واستشعرت دفئه، حتى تغلبت عليها طبيعتها الأنثوية فتبدأ من جديد فى وصلة عتاب: " ويؤلمنى إنك تحب الأجانب وتنسى دموعى ومجراها قاعك وتنسى آهاتى وصمتى ليلاتى" و... وتعود مجددًا فى نفس القصيدة، لتستأنف مسيرتها فى الغناء، مدويةً فى الآفاق الرحيبة "أغنّى بحبك" فيأتيها رجع الصوت على ألسنة البلابل: " ترد البلابل تغنى معايا وتسهر ليلاتى لأنى بحبك وباعشق حروفك".