بعيداً عن أزمة برنامج الإعلامي فحسب إسلام بحيري مع رجالات وشيوخ وعلماء الأزهر الشريف حول بعض القضايا والظواهر والفتاوى والآراء الدينية لأن كلا الطرفين يحتاجان إلى مراجعات طويلة وبعيدة ، وبات اليوم من الصعب أن نضع شرائط وضوابط للاجتهاد الفكري بصبغة دينية في ظل فضاءات ثقافية عريضة يصعب معها تبيان الرأي الصائب من خطئه ، لكن تظل القضية الأبرز بزوغا ووضوحا هي قضية التنوير . والتنوير أصبح مثل مصطلحات كثيرة تثير الإحباط والاكتئاب وتعادي كل مؤسسي حركة التفكير الإيجابي ، ومن هذه المصطلحات تجديد الخطاب الديني ، والمواطنة ، وحقوق الإنسان ، والمدنية ، وغيرها من مصطلحات لا تزال بعيدة الصلة عن واقع عقل عربي يفتش في عقار يسكنه ، وسيارة يمتطيها ، ووجبة غداء شهية تزيد من سمنته وتقلل من حيوية تفكيره. وكم من سطور سابقة تم تسطيرها بشأن هذه الكلمة الممنوعة والمحرومة والمحرمة والمظلومة أشرنا من خلالها إلى أن سقوط نظام مبارك السياسي وما أعقبه من تداعيات تتصل بمناحي التعليم والفكر والثقافة عموماً كشف لنا عن عورة أزمتنا الراهنة ، ألا وهي هوية التعليم التي ظلت غائبة عن المشهدين السياسي والثقافي ، لذا وجدنا كثيراً من الشباب يفتقد بوصلة التوجه إلى الشواطئ الفكرية الآمنة . فبين فصيل هرب بمشكلاته بعيداً صوب أفكار وتيارات دينية المظهر وسياسية الجوهر ظن بعضهم أن مجرد فكرة الانتماء إلى تلك التيارات بديل ناجع لتعويض الإخفاق في حل مشكلاتهم ، وفصيل آخر فقد الرمز الذي ينبغي أن يلتفوا حوله فتمرمغوا بين ألف وجه ووجه سياسي ورياضي واجتماعي وفني علهم يجدون ضالتهم ، وهؤلاء وهؤلاء كان معهم الحق في الاختيار حينما كان التعليم قاصراً عن التوجيه والإرشاد. وأزمة الفكر الراهنة تشبه اختلال التوازن الذي حدث في عهدين من عهود مصر السابقة ، العهد الأول حينما اهتم محمد علي باشا بفنون الصنائع وإحياء الدولة المصرية عسكرياً وتكنولوجياً وبإرسال البعثات لتعلم الطب والهندسة ، والعهد الثاني كان من حظ الخديو إسماعيل الذي اهتم بالجانب المعنوي من الحضارة كالعلوم الإنسانية والموسيقى وما يتعلق بتربية الوجدان وصياغة العقول ، وكانت النتيجة طغيان جانب على آخر الأمر الذي أدى إلى انهيار العهدين ، وكانت الضحية الرئيسة وقتها المواطن الذي فقد مصريته وأصبح اختياراً قومياً لحاكمه فقط . ومنذ تلك الحقبتين تحديداً والتيارات الفكرية لاسيما الدينية واللادينية صارت تفتش عن ذاك المواطن المهيأ لإعادة تصنيعه ومن ثم تعبئته بفكر وأيديولوجية جديدة. وحقيقي أن مصر بقدرها الفكري والحضاري والثقافي الاستثنائي يعاني بشدة من غياب التنوير الذي ظل لفترة ما في تاريخ مصر غواية وفتنة إما أن يعاقب المرء بشأنها أو لابد التنصل من براثنها الضالة ، وهو أن معظم الطروحات التي دعت إلى التجديد الثقافي سواء من زاوية دينية أو مدنية أو من خلال نظام سياسي حاكم أنشئت وبزغت فجأة دون موعد سابق بالإضافة إلى أنها جاءت لعصرها ولتبني رسالة معينة لفترة قصدية دون الاهتمام بالاستمرارية أو استهداف المستقبل . وكلما حاول التنويريون والنهضويون إحداث هزة فكرية مفاجئة للعقول التي شاخت وشابت وانهارت عن مواكبة الرصد المعرفي القائم كلما انحاز كثيرون إلى الرجعية والتزام الصمت واللحاق بقطار العودة إلى الوراء. والمشكلة ليست في إسلام بحيري الذي سرعان ما سيكفره قطيع كبير لأنهم لا يقرون بل اعتادوا الاستماع بغير فطنة ، وليست في بعض مشايخ الأزهر الذين عملت معهم خمس سنوات والحقيقة أنني ما وجدت فيهم خيرا معرفيا أو ثقافة تتعلق بالتراث أو بالمعاصرة ، ولو أراد إسلام بحيري أن يكسب قضيته ومعركته الفكرية مع هؤلاء فلربما لا يجد شاهدا دالا على الفقر المعرفي لبعض رجالات الأزهر الشريف غيري ، باستثناء واضح لغيرهم وأخص منهم فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب ، والدكتور علي جمعة وغيرهما من علماء أجلاء يمتعون العقل ويجددون الذهن. لكن المشكلة الحقيقية هي اكتفاء المواطن العربي وقناعته بالحصول على مقعد المشاهد للفرجة وولعه المستدام بمراقبة تفوق الآخر ، فكلنا وسط هذا الغل والحسد والاستقطاب السياسي السخيف والممل والدعم المكرور لإعادة إنتاج سياسات بائدة تحت ستار الدين وخلطه بالسياسة بغير علم كافٍ بكليهما لم نفطن عن شعوب تخطت حد الجهل والسخف الذهني والمساجلات الفكرية التي أصبح روادها ينهلون ثراء من وراء ظهورهم الإعلامي البليد بحثاً عن ترقية أو رضا وظيفي أو دعاية خائبة أن فكرة التنمية لم تقف عن تخوم إنشاء الكباري وإقامة المتاحف والمصانع ، بل حث المواطن على الابتكار والاكتشاف ، وهي فكرة لم تعد من أفكار الترف والرفاهية ، بل هي ضرورة حتمية لمواجهة تحديات وتطورات هذا العصر . وأنه ثمة مصطلحات أصبحت أساسية في قاموس تقدم الأمم وتميزها الحضاري مثل مرافئ المعرفة ، والطبقة المبدعة ، وشركات المعرفة ، ومحركات الابتكار ، ومواطن المعرفة ، واكتساب المهارة . وفكرة التنمية القائمة على المعرفة تخطت الحيز التصميمي والتنظيمي والتخطيطي لتكون واقعاً مرئياً ملموساً ، بدليل تشييد مدن تم إنشاؤها لتضم المئات من الخبراء والمتخصصين في العلوم التكنولوجية هدفها جعل الإنسان هو رأس المال المستقبلي ، وتصب مجمل اهتمامها في جعل القرن الحادي والعشرين هو قرن المعرفة ، في الوقت الذي تبذل فيه دول أخرى لاسيما في أفريقيا جهوداً مضنية للحد من تفشي ظاهرة أمية القراءة والكتابة ، بالإضافة إلى محاربة مظاهر التلوث البيئي والانتشار المحموم للأوبئة والأمراض. وبالتأكيد لو أن المنحازين لكلا الفريقين المتعاركين اليوم فريق إسلام بحيري وفريق الأزهر الشريف توقفوا قليلا لرصد حالهم ومكانهم الفكري الحقيقي لاكتشفوا الكارثة ، وبالأحرى بعض مشايخه الذين توقفوا بالفعل عن تجديد خطابهم الديني وكادوا أحد صناع التطرف الديني بسبب تقاعسهم في أداء مهمتهم التوعوية وراحوا يخاطبون الناس بلغة مغايرة وبفقه يتصل بالعصر الأيوبي أكثر مما يتصل بثقافة عوالم افتراضية أصبحت أداتها الرسمية مفاتيح الكيبورد ( لوحة مفاتيح الحاسوب ) . ولهما أشير إلى أن هناك دولاً بدأت بالفعل منذ بداية العقد التاسع من القرن العشرين في إقامة مدن للمعرفة تحتضن الكوادر المبدعة من أجل استثمار المعرفة بمشاركة رجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني ، مثل مدينة راجوزا ، ومدينة معمل العقل بالدنمارك ، ومعمل أفكار مومينتم في شمال زيلاند ، ومدينة المعرفة في برشلونة ، ومدينة المعرفة في بلباو ، وبالتأكيد كان لدولة إسرائيل نصيب من تشييد هذه المدن المعرفية فحولت مدينة حولون من مدينة راكدة مهمشة إلى مدينة مبتكرة ومبدعة وصانعة للمعرفة. وحتى اليوم ونحن نشاهد ونقرأ للذين يحسبون افتراضاً على تيار التنوير يلتزمون برفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده وطه حسين ، وكأنهم يصرون على اجترار ماضٍ سحيق ، يرفضون المعاصرة ، ويشيرون إلى ابن رشد أكثر مما يقرأون راهنهم الكارثي في ظل مجتمعات عربية تؤطر للثقافة ولا تنتجها ، وتنظر للحضارة ولا تشيدها. الاجتهاد ليس قرينة للكفر أو الخروج عن الملة إلا في أوساطنا العربية الفقيرة معرفياً ، وليس الاجتهاد في تقويض فكر ابن تيمية ومحاكمة المتصوفة لمقاماتهم ، والالتزام ليس مفاده إقامة المشانق لطه حسين ونصر حامد أبو زيد وغيرهما ، بل الاجتهاد هو حسن إنتاج العقل وتجديد المجتمعات بفكرة أو نظرية قابلة للتطبيق والتنفيذ. وحقاً ، إن هذه العقول تحتاج إلى هزات فكرية تحركها من سباتها التاريخي الذي فرض عليها ثقافة أدبية اقتصرت على الأدب شعره ونثره ، وأحكمت قبضتها على الأذهان لتظل حبيسة ابن خلدون والفارابي وابن الهيثم حتى بات من الطبيعي جدا إقامة سرادقات عزاء للعقل العربي الراكد والمستمرئ لسباته العميق. واليوم بات من الواضح السيادة الثقافية المطلقة لبعض مشايخ ودراويش الفضائيات ، يظهر الواحد منهم (وهو غير خريج لأية مؤسسة دينية ) وكأنه شيخ زاوية من الزوايا التي كانت منتشرة أيام المماليك، وما أدراك ما شيوخ الزوايا بعصر المماليك؛ قهر وقمع واستبداد بالرأي وحجر على الآخر وتسفيه لعمل الآخرين، وهذا ما يصنعه بعض نجوم الحكايات الفضائية الذين امتدت سطوتهم فوق المنابر الأكاديمية، فتراهم يمجدون ويعظمون فكراً قد يبدوا تقليدياً واستهلاكيا ، وكأنهم يتشبهون بمنتجي أفلام الثمانينيات حينما كانوا يحجرون على فكر ورأي الآخرين بمقولة " الجمهور عايز كدة" . فتجدهم يسهبون في حكاياتهم المعادة والمكرورة والمسموعة منذ اختراع الراديو ، واستهلاكهم لموضوعات عذاب القبر ونعيمه ، والآخرة، وأخيراً النقاب. والنتيجة لكل ما سبق من استهلاك هو شيوع قيم التواكل والصبر ، وهذا ما حدث بالضبط أيام الحملة الفرنسية على مصر. يعني أن ما يحدث الآن كما ذكرت هو ميراث لإخفاق تاريخي قديم. إن الدرب ولا ريب وعر، والمدرك لمنطق الأحداث سرعان ما يكتشف أنها سريعة ومرهقة ومتواترة، حكومات تؤكد كل ثانية أنها تبني وتشيد وتعمر وتعين وتوظف وتسكن وتعلم وتعالج، وشعوب تشتكي وتتألم وتتضجر وتضرب وتتظاهر، وفصائل متطرفة تندد وتشجب وتحرم وتحلل . وهذا العقل الراهن لا يدرك أزمته لأنه يعاني من صراع وتجاذب لعقله بين تيارين الماضي السلفي والمعاصر الحديث وكليهما من الممكن إحداث ثمة تصالح بينهما إن صلحت النوايا وتوحدت الأهداف في إنتاج عقل عربي رائع وماتع ، إننا لن نفطن حاضرنا حقاً إلا باستيعاب ما تركه لنا السابقون المجتهدون في مجالات التوحيد، والفقه، والحديث،والتاريخ الإسلامي، لكنني أصبحت أمقت مصطلح إعادة قراءة الماضي، وتحليل الموروث الثقافي، بل إنني أحلم بالانطلاق إلى واقعنا الحالي وما يحمله من تحديات ومعوقات تثقل كاهلنا، ولقد عجبت من قول أحد أصحاب الخطاب الديني السلفي حينما قال إن ثقافتنا الإسلامية لهي جديرة بأن تصارع ثقافة الآخرين، وأن تصرعها وتخلصها من شوائب المدنية الزائفة وأن تحولها إلى دماء صالحة. إن فكرة الصراع والمشاحنة قائمة بهذا الخطاب ، ووجود معركة مستدامة بين خطاب ديني موجه وبين الحياة الاجتماعية بمتغيراتها وتحولاتها المحمومة لهي كفيلة بالقضاء على وطن جميل يستشرف مستقبله ، فلا يجد سوى صيحات بالتكفير والمنع والحظر والعزل . إن هؤلاء وهؤلاء استحقوا أبيات الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته عابرون في كلام عابر حينما قال : " أيها المارون بين الكلمات العابرة احملوا أسماءكم وانصرفوا واسحبوا ساعاتكم من وقتنا ، وانصرفوا وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا انكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء" . المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية