لماذا كلما يتصاعد المد الديني هذه الأيام أتذكر على الفور الإمام المجتهد محمد عبده أحد رواد التنوير في الوطن العربي ، فكلما قرأت فتوى جديدة يصدرها بعض المنتمين إلى التيارات الدينية الجديدة التي تسيدت المشهد السياسي كلما تساءلت بصوت مرتفع : أهم على صواب والشيخ مخطئ ؟ أم أن فتاويهم وأصحابها في غفلة من هذا الزمان المحموم الذي نحياه؟ .
فكيف يكون هذا الشيخ أكثر تنويراً وصاحب فكراً إشراقياً شديد المعاصرة لواقع مجتمعه والمجتمعات التي أعقبته ، وبعض الدعاة الجدد لا يزالوا يعتقدون أنهم أسرى عصور الوثنية والإظلام الديني والثقافي ، وشتان بين تنوير الشيخ الإمام وخطابه وبين ظلام الخطاب السلفي المعاصر.
فبدلاً من أن تفكر ببعض التيارات الموسومة بالدينية في كيفية إعمار هذا الوطن الذي بدا يواجه تحديات خطيرة وأزمات تكاد تعصف بمستقبله الراهن ، راحت تؤجج مشاعر الحيرة والاضطراب لدى مستقطبيهم من المستمعين والمشاهدين الذي أعلنوا رفضهم المطلق لشعار القراءة للجميع ، ولكافة محاولات الدولة والقطاع الخاص في نشر المعرفة المكتوبة والتي بالطبع تحتاج لوقت وجهد في التحليل والتأويل وتفسير المادة المطبوعة .
وربما إنتهيت مؤخراً من صياغة المواضعات التي تعد محظورة في الخطاب الديني المعاصر ، ويمكن إختزالها في شبهة التأويل ، وشبهة التحليل ، وفتنة التنوير والإستنارة، وجميع المشتقات اللغوية من مادة نهض ، كالنهضة ، والنهضوي وإستنهاض الدول ، والإجتهاد ،بالإضافة إلى مواضعة الدولة المدنية التي تشكل صداعاً مزمناً في عقل الخطاب الديني السلفي ، بإعتبار أن هذا النموذج السلطوي خارج عن سياق العقيدة ، وأن مروجيه ودعاته من العلمانيين المارقين عن الهوية الإسلامية الرشيدة .
وبسياسة المنع والرفض تلك تجاه الفكر والثقافة المجتمعية السائدة والموسيقى ، وجد الخطاب السلفي نفسه أمام تحديات وتطورات وتحولات سياسية ودينية وفكرية لم يستعد لها على المستوى الثقافي أو النفسي والفكري.
والغريب أن تلك المواضعات لم تجد مناخاً طيباً من الحوار والمناظرة لدى أنصار الخطاب الديني ، وهم بذلك السكوت غير المبرر يجعلون مريدين بعض التيارات الدينية المتشددة أكثر عرضة لقبول فكرة سلطة الخلافة ، بإعتبار أن عدم حديثهم في مثل هذه المصطلحات هو حكم شرعي بالمنع والتحريم ، ناهيك عن حالة الغياب المجتمعي لدعاة المواضعات سالفة الذكر.
ورغم أن بعض أساطين الخطاب الديني السلفي يمارسون قمعاً وسطوة قاسية ضد فكرة الإجتهاد حيث قبول النص الديني وأقصد به كتابات السلف من فقهاء الدولة الإسلامية ، إلا أنهم لا يجدون غضاضة في إجتهادهم ببعض الفتاوى لاسيما المتعلقة بالحياة السياسية التي قد تعيق من تحقيق أهدافهم .
مثل الفتاوى التي صدرت بشأن تحريم إنتخاب فلول الحزب الوطني وأن التصويت لهم في الإنتخابات لهو حرام شرعاً ، بالإضافة إلى جواز التصويت فقط للمنتمين للتيارات الدينية،أما فكرة التصويت للأقباط فهي مرفوضة تماما مناقشتها من الأساس. وإذا طبقنا هذه الفتوى على بعض الخلفاء المنتمين للمعتزلة أو الخوارج لوجدنا خلافتهم باطلة لأن أفكار المذاهب التي إعتنقوها عانت بعد إنتهاء ولايتهم من العزل السياسي والفكري ومنع أنصارهم من ممارسة حقوقهم السياسية والمجتمعية.
ولكن لابد وأن أصحاب الخطاب الديني المعاصر نسوا أو تناسوا أن الدولة الإسلامية تحديداً في فترة سلطة الخلافة العباسية وما تلتها من خلافات سياسية أرست بعض القيم التي جاء بها الإسلام وهو يتحدى مع إعجازه اللغوي إنفراده المطلق بإعلاء مبادئ سياسية مجتمعية ، لعل أبرزها التعددية ، فإذا كان الإسلام الحنيف منذ فجره مع حرية الإعتقاد ، وداعياً إلى حرية المرء في إختيار عقيدته حيث يقول الله تعالى في ذلك : ( لا إكراه في الدين ) ، وقوله تعالى : ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ، وهو بذلك أقر حقيقة عظيمة للإنسانية وهي عدم إرغام المرء على ترك دينه ودخول دين جديد بالإكراه والقمع ، فمن باب أولى تعميم النص الديني على حرية الإختيار السياسية عند التصويت .
حتى الخوارج وهي فرقة إسلامية شهيرة ظهرت إبان الخلاف الذي قام بين الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان كانت لها آراء سياسية خاصة بالخلافة والسلطة رغم مغالاتها في بعض مبادئها ، فلقد أقروا أن الخلافة تكون لأصلح الناس سواء كان عربياً أم أعجمياً ولا يجوز حصرها في أسرة أو فرقة بعينها أو شعب بعينه ، ورسموا الطريق لشغل منصب الخلافة وهو الإختيار من جانب الأمة ، أي الإنتخاب وليس التوجيه المباشر ، ومن ثم فهم سبقوا التنويريين المعاصرين في إنكار مبدأ توارث السلطة والحكم ، وحصر السلطة في فريق بعينه.
وللذين إرتفعت أصواتهم بسرادقات موجهة لتحذير المواطنين بعدم الإدلاء بأصواتهم إلى من يخالف التيارات الدينية والأيديولوجيات ذات الصبغة الدينية ، نذكرهم بأن الدين الإسلامي كان الدين السماوي الوحيد الذي أقر بمبدأ التعددية ، بل واعترف بها أيضاً ، ومن منطلق هذا اعترف الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم ) باليهود ككيان واقعي بالمدينة المنورة .
وتؤكد كافة الكتابات التاريخية الإسلامية أن الإسلام كفل حرية النقاش الديني والسياسي معتمدا في ذلك على مباديء أصيلة مثل الحوار الجيد الخصب ، وإحترام الآخر ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) .حتى مذاهب الفقهاء الأربعة الأماجد ، فهي تمثل وجهات نظر متعددة ، ومع ذلك فليس هناك إلتزام ديني للمسلم بأن يلتزم بمذهب واحد فقط ويترك بقية المذاهب الأخرى.
حتى فكرة التعددية تلك التي هي جوهر أصيل في الدين الإسلامي أغفل عنه الخطاب الديني المعاصر ، تؤكد على أن التنوع والتعدد دليل واضح وجلي للقدرة الإلهية ، يقول تعالى : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ) .
وجدير ونحن نستعد لبناء مصر جديدة أن نرحب بكافة التيارات السياسية المخلصة في دعوتها ، أما أن تدعو بعض القوى السياسية لبرامجها عبر قنوات دينية فهذا يجعلنا نؤكد على ماأشار إليه الشيخ الجليل محمد الغزالي من حيث ضرورة التفرقة بين الدين والمتكلمين فيه والمتحدثين من خلاله ، فالدين نفسه متين وأصيل ويتسم بالمعاصرة ، أما المتكلمين من خلاله فبعضهم أصحاب ثقافات تقليدية جمدت منذ سنوات بعيدة ، بعضها ما يتصل بقضية الشيخ علي يوسف حينما أقر القضاء وقتها إعتماداً على فقه أبي حنيفه بفسخ عقد زواجه من إحدى فتيات مكة بدعوى أنها قرشية وهو مصري ، فليس لها بكفء.
والقصة السابقة لا تتعلق بفقه لأن هذا من باب العبث ولما ارتضى به الأمام أبو حنيفة نفسه بذلك ، ولكن الحكم مفاده أن الشيخ علي يوسف كان من دعاة الإصلاح والتنوير في عهد كان يكرس لثقافة السمع والطاعة وترسيخ الجمود وعدم الإجتهاد الفقهي والديني .
إن الخطاب الديني الراهن الذي بدأ الدعوة إلى مشاركة المصريين في فعاليات شعبية ضد بعض الممارسات التي ترسي دعائم الدولة المدنية ظهر مؤخراً عبر دعاته إلى إستخدام كلمة ديموقراطية لاسيما في المنشورات التي توزع هذه الأحايين ،وهم بذلك يدعون التجديد ، ولكن تجديداً سلبياً حيث إن فكرة الديمواقرطية تلك الموجودة بالكتابات المعاصرة لا تنجو من شرك النقد والإعتراض والمقارنة المستدامة بين مستقبل البلاد في ظل سلطة الخلافة المطلقة ، وبين شتات الدولة المدنية ذات المصطلح سئ السمعة من وجهة نظرهم.
إننا لن نفطن حاضرنا حقاً إلا بإستيعاب ما تركه لنا السابقون المجتهدون في مجالات التوحيد، والفقه، والحديث،والتاريخ الإسلامي، لكنني أصبحت أمقت مصطلح إعادة قراءة الماضي، وتحليل الموروث الثقافي، بل إنني أحلم بالانطلاق إلى واقعنا الحالي وما يحمله من تحديات ومعوقات تثقل كاهلنا، ولقد عجبت من قول أحد أصحاب الخطاب الديني السلفي حينما قال إن ثقافتنا الإسلامية لهي جديرة بأن تصارع ثقافة الآخرين، وأن تصرعها وتخلصها من شوائب المدنية الزائفة وأن تحولها إلى دماء صالحة.
إن فكرة الصراع والمشاحنة قائمة بهذا الخطاب ، ووجود معركة مستدامة بين خطاب ديني موجه وبين الحياة الإجتماعية بمتغيراتها وتحولاتها المحمومة لهي كفيلة بالقضاء على وطن جميل يستشرف مستقبله ، فلا يجد سوى صيحات بالتكفير والمنع والحظر والعزل .