هو واحد من أقرب الشعراء إلى نفسى، وأكثرهم إثارة لتأملى، لا بشعره فقط، بل بحياته التى كانت هى ذاتها أروع قصائده على الإطلاق. إنه الشاعر العاشق الفارس الأمير الأسير القتيل أبو فراس الحمدانى. ولد أبو فراس وعاش فى فترة فتوة الحكم الحمدانى فى حلب وما حولها، هذه الفتوة التى كان فى المركز منها، ابن عمه وزوج أخته "سيف الدولة الحمدانى" ، وفى فترة الفتوة الشعرية التى كان فى المركز منها عملاق الشعر العربى الجبار "أبو الطيب المتنبى". فتح عينيه على الحياة ليجد أن أباه قد قتل على يدى أبناء عمومته، وليجد أن فارس أبناء عمومته هؤلاء "سيف الدولة الحمدانى" قد استوى أميراً على حلب، وزوجاً لأخته، وأن هذا الأمير ذاته هو الذى يتعهده بالرعاية والتنشئة كإنسان وكفارس أيضا. كان كيان أبى فراس مزيجاً مواراً من المشاعر المتناقضة، فهو شديد الإعجاب بابن عمه، شديد الامتنان لتعهده إياه، وهو فى الوقت ذاته مسكون بهواجس أمه ومخاوفها وأحزانها التى خلفها مقتل أبيه فى صراع البيت الحمدانى على الحكم. لكن ثورة أبى فراس الداخلية لم تنتقص أبداً من ولائه لابن عمه وأميره، ولا من إخلاصه لقضية العروبة التى خاض من أجلها حروباً مريرة مع الروم المتربصين بحدود الإمارة، وكان عليه أن يدفع من بين أربع سنوات وسبع سنوات فى الأسر فى سجون الروم، هذا الأسر الذى رآه أحلى المُرَّين، حين أحيط به فى إحدى المعارك، وكان عليه إما الفرار أو مواجهة الموتى وقال أصيحابى الفرار أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مر على أننى أمضى لما لا يعيبنى وحسبك من أمرين خيرهما الأسر فى الأسر يتأمل أبو فراس حياته التى مضت، وحاله التى آل إليها، وتباطوء ابن عمه وأميره فى افتدائه، فتزداد الثورة فى نفسه، ويعرف أن ظلم أولى القربى أمر من الأسر، وفى الأسر أيضاً يكتب "رومياته" التى هى من أروع قصائد الشعر العربى وأكثرها امتلاءَ بالشجن النبيل الكريم ، نفس معذبة ملأى بالكبرياء، عصية على الدمع رغم طوفان الحزن والأسى، هذه "الروميات" التى يلتقط منها الغناء العربى أعذب أبياتها، وإن لم تكن أنبلها ولا أعمقها، ليصوغ لنا الرائعة الفريدة "أراك عصى الدمع". وفى الأسر أيضا يخايله طيف أمه المعذبة بأسره، بعد أن عذبت بمقتل أبيه، ليزداد عمق الجرح فى نفسه، ليصل الجرح قمته حين يصله نبأ وفاتها وهو فى الأسر. وفى الأسر أيضاً، يلوذ بشاعريته التى لم تنل حقها من التقدير، لأن شمس المتنبى البازغة كانت قد حالت دون أن يلتفت أىٌّ إلى ضوء سواها، ولأن "سيف الدولة" قد أوسع للمتنبى فى قلبه وفى بلاط ملكه ما ضمن لموهبته الجبارة أن تتقدم على العالمين. كانت سنوات الأسر إذن ساحة الألم النبيل الكريم الذى منحنا إبداعا بالغ الرقى والإنسانية، لكنه لم يكن نهاية آلام أبى فراس... فلنكمل رحلة الألم النبيل فى مقال قادم