كانت أم كلثوم تعرف أن الشاعر الكبير أحمد رامي يحبها ولكنها كانت تتعمد تعذيبه حتى تحرك في داخله أجمل المعاني التي كان يحس بها وينقلها على الورق. فرامي هو الذي قال في «سهران لوحدي»: ياللي رضاك أوهام.. والسهد فيك أحلام / ياللي وصالك هناني.. والهجر منك بكاني، يا طول عذابي وحرماني. وفي أغنية «عودت عيني»: زرعت في ظل ودادي، غصن الأمل وانت رويته / وكل شيء في الدنيا دي، وافق هواك أنا حبيته / ومهما شفت جمال، وزار خيالي خيال / إنت اللي شاغل البال، وإنت اللي قلبي وروحي معاك / وإن مر يوم من غير رؤياك، ما ينحسبش من عمري. وفي «ياظالمني» يقول: أطاوع في هواك قلبي وأنسى الكل علشانك، وأدوق المر في حبك بكاس صدك وهجرانك، ويزداد الجوى بي يبان الدمع في عينيه، ويكتر في هواك اللوم / وأبات أبكي على حالي وتفرح فيّ عزالي، ولما أشكي تخاصمني وتغضب لما أقولك يوم يا ظالمني. وأجمل الشعر بصورة عامة هو الذي قاله المعذبون، ومن الكتب التي وقعت في يدي أخيرا كتاب «ادباء السجون» لعبد العزيز الحلفي طبعة عام 1950 مطبعة الزهراء في النجف، ويضم ما قاله نحو 90 من شعراء العصر الجاهلي ومدخل العصر الإسلامي والعصر الأموي والعصر العباسي، وهم بين جدران السجون. وربما كان أشهرهم عنترة بن شداد العبسي وكانت أمه حبشية، وقيل إنها كانت سوداء، وأن أباه أسرها في بعض غزواته وسرى إليه السواد من جهة أمه. وقد اشتهر عنترة بالشجاعة والفروسية وأحب ابنة عمه عبلة، ولكن أباه منعه من زواجها فازداد هيامه بها وذاق من اجلها مرارة السجن ثم تزوجها بعد امتناع طويل وعاش 90 سنة. وكان من بين ما كتبه عنها في سجنه: يا دهر لا تبق علي فقد دنا ما كنت أطلب ذا وأريد، فالقتل لي من بعد عبلة راحة والعيش بعد فراقها منكود، يا عبل قد دنت المنايا فاندبي إن كان جفنك بالدموع يجود، يا عبل إن تبكي علي فقد بكى صرف الزمان علي وهو حسود، لهفي عليك إذا بقيت سبية تدعين عنتر وهو عنك بعيد. والكتاب يضم الكثير من الشعراء الذين سجنوا فى مختلف العصور ومنهم الاصبغ بن ضرار الازدي من شعراء الشام، وعبدالله بن هاشم المرقال من شعراء العراق والفرزدق وهو همام بن غالب التميمي ولقبه الفرزدق وموطنه البصرة وفيها ولد ونشأ وأقام مع أبيه ويعد من فحول الشعراء في الدولة الأموية، وتظهر خصائصه في أهاجيه العديدة لجرير وغيره، وقد جرت عليه أهاجيه متاعب كثيرة من غضب الولاة فطارده زياد بن أبيه ونفاه عمر بن عبد العزيز وسجنه خالد بن عبدالله الفشري. وهناك أبو الطيب المتنبي (توفي 354 هجرية) ولد بالكوفة من أبوين فقيرين وقد طاف الأقطار ابتغاء الرزق والمجد، ووصل به كبر نفسه أن دعا لبيعته بالخلافة واستطاع ضم بعض الأتباع فخرج إليه أمير حمص وأسره وحبسه طويلا في سجن حمص في الشام. وقد ظل طويلا حتى استتابه الأمير وكان قد كتب إليه من سجنه: دعوتك عند انقطاع الرجاء، والموت مني كحبل الوريد / دعوتك لما براني البلاء، وأوهن جسمي ثقل الحديد / وقد كان مشيهما في النعال، فقد صار مشيهما في القيود / وكنت من الناس في محفل، فها أنا في محفل من القرود. أما أبو فراس الحمداني (توفي 357 ه) وكان ابن عم سيف الدولة الذي كان معجبا به ويصحبه في حروبه وقد خانه الفوز مع الروم فوقع أسيرا بأيدي الروم بعد ان أصابه سهم في فخذه وتم سجنه في القسطنطينية ولبث في السجن أربع سنوات نظم خلالها رومياته الروائع. ومن رومياته أن سمع قرب سجنه حمامة تنوح على شجرة عالية فكتب يقول: أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا، تعالي أقاسمك الهموم تعالي. تعالي ترى روحا لدي ضعيفة، تردد في جسم يعذب بال. أيضحك مأسور وتبكي طليقة، ويسكت محزون ويندب سال. لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة، ولكن دمعي في الحوادث غال. وكل هذه الروائع ثمار العذاب والسجن! نقلاً عن صحيفة القبس الكويتية