بمحاكمة قاتل المرحومة بإذن ربها"مروة الشربيني" بألمانيا حالياً تمت إعادة طرح أهمية دور الإعلام في أوروبا عموماً، وفي ألمانيا خصوصاً علي صناعة الرأي العام حول الإسلام والمسلمين، والي اي مدي تكون جدوي مؤتمرات حوار الأديان، أو التقريب بين المذاهب، طالما أن المحصلة النهائية ما زالت بعيدة عن صناعة الرأي العام الغربي تجاه الإسلام، وعليه فقد تمت إعادة طرح دور الاستشراق في صناعة الرأي العام الجمعي للغرب تجاه الاسلام والمسلمين للمناقشة، وذلك من خلال إعادة تقييم دور المستشرقين المعاصرين عموماً، وموقف علماء الإسلام منهم. القاتل لا يزال هارباً!! لاشك أن صناعة الرأي العام اللاهوتي في الغرب تختلف عنها في الشرق، حيث يتوقف الأمر علي مدي الحرية المتاحة، وحجم الأبحاث المعتمدة علي أساليب البحث العلمي من ناحية، والقدرة علي اختراق المقدس من ناحية أخري، ووجود وفرة من المؤسسات المعنية بدراسة أنماط الثقافات، والحضارات التي تمثل الآخر لديه، فيما يعرف بالمؤسسات الاستشراقية، والتي هي نتاج ثراء الحياة العلمية في المؤسسات التعليمية، فواقعة الاعتداء علي امرأة مسلمة في قلب أوروبا حتي الموت تترجم نتاج صناعة الإعلام الغربي تجاه الإسلام، والمسلمين، أو بالأحري فإن"مروة" دفعت ثمن نشاط حركة الاستشراق المعاصرة في الغرب، وكسل، وصمت الشرق السلبي تجاهها، علي اي نحو من الأنحاء، فليس"اليكس" الذي حكم عليه بالسجن مدي الحياة هو الذي قتلها، بل قاتلها مشتبه فيه بين الشرق، والغرب !! الاستشراق المعاصر عبر متابعة حركة الاستشراق المعاصر وليس بمتابعة تاريخية لها نجد أنها تقف علي أعتاب الاطروحات الآتية، أولاً: إعادة قراءة القرآن الكريم خارج إطار قداسته المعتادة في الشرق، وبعيداً عن مرجعية اللغة العربية، ولكن عبر اللغات الشرقية القديمة مثل السريانية. ثانياً: طرح مدخلات ثقافية من خارج الجزيرة العربية كالتأثير المسيحي، والاثيوبي في ثقافة المسلمين الأوائل. ثالثاً: إعادة إنتاج تاريخ القرآن الكريم عبر نتائج الدراسات الأنثربولوجية، واللسانية الحديثة. رابعاً: وجود عمليات تغذية عكسية بنقد ما سبق طرحه استشراقياً حول قضايا تتعلق بالقرآن الكريم، بين المستشرقين وبعضهم البعض، هذه الحركة الاستشراقية المعاصرة هي التي تمد أوعية الإعلام الغربي بمفردات خطابه الموجه تجاه الإسلام، والمسلمين، متجسدة في موقف الغرب من رمزية حجاب المرأة المسلمة في مجتمعه. مصدر القراءة السريانية للقرآن الكريم كشف مؤتمر اللاهوت المنعقد في جامعة نوتردام بألمانيا خلال شهر يناير من العام 2005م عن مصدر تداعيات طرح القراءة السريانية للقرآن الكريم، وذلك عندما قدم المستشرق"جوزيف آمار" ورقة بحثه مؤصلاً فيها مصدر الترجمة السريانية الأول لآيات القرآن الكريم، والتي قام بها الراهب"ديوتيسيوس يعقوب"(ت1171م) والتي تعد أطول وثيقة سريانية تتضمن نصوصاً قرآنية، وفي نفس المؤتمر نفي المستشرق"أندريه ربن"، كون" كريستوفر لوكسنبورج" هو أول من تحدث عن احتواء القرآن علي وجود سرياني، بل التفاسير القرآنية لأئمة المفسرين المسلمين سبقته للإشارة إلي ذلك، علي سبيل حل إشكاليات المعاني المجهولة لكلمات القرآن لديهم في قاموسهم اللغوي المعاصر لتفاسيرهم، بل أشار المستشرق"كيفن فان بليدل" في دراساته إلي اعتماد المفسرين المسلمين الأوائل علي القصص السريانية في تفسير القصص القرآني، وضرب مثالاً بقصة"ذي القرنين"، وأنهم اسقطوا عليها تفسيرهم المعتمد علي قصة" الاسكندر الأكبر" السريانية، ودلل علي ذلك من حيث المضمون، والمفردات. المسلمون وثقافة الحبشة قام المستشرق"مانفرد كروب" بإعادة قراءة نتائج قرن كامل من الدراسات المتعلقة بالتأثير الأثيوبي في ثقافة المسلمين الأوائل، بدءًا من نتائج دراسة"نولدكه"معتمداً علي نتائج الدراسات لحضارة سبأ التي أثبتت مدي تأثير الثقافة اليمنية القديمة في جنوب الجزيرة العربية علي المجتمعات الشمالية فيها، شأنها شأن تأثير الثقافة السورية المسيحية، واليهودية في العرب، والتي أرخ لها القرآن الكريم برحلتي الشتاء، والصيف،{لِإِيلافِ قُرَيشٍ(1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيفِ}(2) سورة قريش، مما فتح الباب أمام البحث في نتائج تأثير الثقافة الأثيوبية بسبب التاريخ المشترك بين اليمن القديمة"أقسوم"، وأثيوبيا منذ احتلال سبأ لسواحل البحر الأحمر، واليمن، ونتائج التبادل الثقافي، والتجاري، والحضاري، والديني بين الحبشة المسيحية منذ منتصف القرن الرابع الميلادي، وأقاليم شمال الجزيرة العربية، حيث كان يوجد بمكة الكثير من العبيد، والحرفيين الأحباش، ويشير إلي مبررات اختيار الحبشة لتكون مكان هجرة المسلمين الأوائل. الاستشراق ضد الاستشراق! منذ تسع سنوات ولا تزال أطروحة"لوكسنبورج" تثير جدلاً في دوائر الاستشراق الداخلية، فمنهم من أيدها مثل"جنتر لولنج" والذي يراه الباحث"سامر رشواني" هو عينه صاحب الاسم المزيف"لوكسنبورج"، ومنهم من نقدها نقداً حاداً مثل المستشرق"جيرها در بورنج" حيث يري أن "لوكسنبورج" قد تجاهل التراكمية المعرفية الطويلة لدراسة القرآن عبر البيئة الثقافية العربية، ولم يستطع أن يضع قاعدة تاريخية لنظريته حول الأصول السريانية للقرآن في القرن السابع الميلادي، كما أن مستشرقًا موضوعيا آخر هو" فرد دونر" نظر إلي عمل"لوكسنبورج" ضمن سياق البحوث الشفاهية والكتابية للثقافات، فاثبت أن اللغة العربية كانت مختلطة باللغة الآرامية في جذورها الشفاهية الأولي، والتي أحكمت فيما بعد بفضل تدوين القرآن كأول نص عربي عرفته الثقافة العربية الكتابية. إعادة كتابة تاريخ القرآن!! عبر مصادر التاريخ التي كتبها المؤرخون المسلمون الأوائل أعاد المستشرق"كلود جليو" صياغة تاريخ القرآن برؤية مختلفة عن الرؤية الإسلامية المعتمدة لدي التاريخ الاسلامي، وذلك عبر إعادة قراءة علاقة"ورقة بن نوفل" بالنبي صلي الله عليه وسلم، ومبررات تعلم"زيد بن ثابت" للغة الآرامية السريانية، والعبرية قبل هجرته للمدينة، ثم تقييم تاريخ القرآن عبر الآيات المنسوخة، وغرائب كلمات القرآن، ومراحل الجمع، ومن المستشرقين مثل"روبرت هويلاند" من أعاد قراءة تاريخ القرآن عبر قراءته لتاريخ اللغة العربية التي ترجع إلي ما قبل ظهور الإسلام، حيث رأي انه علي الرغم من أن اللغة العربية ظهرت قبل نقوش النمارة بكثير إلا أنها كانت تكتب بحروف لغات أخري مثل الآرامية، والسبئية، وشأنه شأن المتخصصين العرب في اللغة العربية لم يتمكن من تحديد زمن نشأة الخط العربي الخاص! السيوطي هو السبب! كل هذا يتم بينما الشرق الاسلامي مجرد مشاهد لم يرتق إلي درجة المتابع لرصد حركة الاستشراق المعاصرة، اللهم سوي محاولات علي المستوي الفردي قام بها د." أحمد محمد علي الجمل"(1963م) أستاذ اللغات الشرقية بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر، علي سبيل تفنيد قراءة المستشرق الالماني"كريستوفر لوكسنبورج"،"القراءة السريانية للقرآن Die Syro-Aram?ische Lesart des Koran""، منذ صدور الكتاب في العام 2001م، قام بنشرها في مجلة"كلية اللغات والترجمة" بعددها رقم 42 في العام 2007م، وبعد عرضنا لكتاب"لوكسنبورج" بجريدتنا القاهرة بثلاث سنوات، حيث يري أن" جلال الدين السيوطي"(14451506م) هو السبب في فتح موضوع القراءة السريانية للقرآن الكريم فقد اعتمد عليه المستشرقون، وعلي تابعيه من المفسرين عندما أشار في تفسيره إلي وجود ألفاظ معجمة في القرآن الكريم، والتي ذكرها حصراً في كتابه"الإتقان"، وجعلوها مصدراً أساسياً لتأكيد وجود الكلمات السريانية في القرآن الكريم، وأشار د. "الجمل" إلي نتائج أبحاث د."محمد جلاء إدريس" والمنشورة بمجلة الدراسات الشرقية، والتي ارجع فيها السبب لهذه القراءة السريانية أيضاً لرؤية "السيوطي"، ويرجع ذلك إلي عدم إلمام"السيوطي" باللغات السامية، ومن ثم كان يحيل إلي لغة لا يعرفها ما لم يكن معروفاً لديه في اللغة العربية، كما أن كثيراً مما حذوا حذوه قد ناقضوا أنفسهم بنسبتهم الكلمة الواحدة مرة لأصل سرياني، ومرة لأصل رومي، أو عبري، حتي أن د."إدريس" يري أن "السيوطي" هو صاحب أخطر الآراء التي جعلت المستشرقين يعتمدون عليها للطعن في عربية لغة القرآن. رد الشرق علي الاستشراق قام د."الجمل" مباشرة بنقد آراء"لوكسنبورج" والتي أوردها في كتابه، وخاصة التي أعاد بها قراءة بعض كلمات القرآن الكريم باللغة السريانية، فوقف عند كلمة"تحت" والواردة في الآية: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيا} (24) سورة مريم، والتي ادعي "لوكسنبورج" أن كلمة "تحت" لم تعرفها اللغة العربية كظرف مكان، وإنما عرفتها كظرف زمان، وان النحت هنا من نحت التمثال اي الخلق، والميلاد الجديد، اي أن السيد المسيح كلم أمه أثناء ولادته، بينما استطاع د."الجمل" أن يثبت عكس ذلك ودلل علي كون اللغة العربية الأولي عرفت كلمة "تحت" كظرف مكان فقد عثر عليها في مئة وعشرين بيتاً لستة وأربعين شاعراً مخضرماً استعملوا"تحت" بدلالة المكان منهم"عنترة" حين قال: فَعَيشُكَ تَحتَ ظِلِّ العِزِّ يوماً/ وَلا تَحتَ المَذَلَّةِ أَلفَ عامِ، لَها مِن تَحتِ بُرقُعِها عُيونٌ/ صِحاحٌ حَشوُ جَفنَيها سَقامُ، وبمقارنة "تحت" في اللغات السريانية، والعبرية، والعربية، اكتشف اتفاق المعني واللفظ بينهما، فاستنتج أنها كلمة من المشترك السامي تحمل معني المكان، لم تختص بها اللغة السريانية كما ادعي"لوكسنبورج". سريا!! يري "لوكسنبورج" أن ما اعتمده المفسرون المسلمون الأوائل من معني "سريا" الوارد في الآية المشار إليها علي انه النهر الصغير لا يتناسب مع موضوع الحوار الدائر بين سيدنا المسيح ووالدته التي يتهمها قومها في حملها، حتي تقول: (يا لَيتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيا مَّنسِيا) (23) سورة مريم، حيث لم يكن سبب خوفها هو الموت من العطش، أو الجوع، ولكن اتهام قومها لها الحمل الحرام، وتوصل"لوكسنبورج" إلي أن "سريا" أصلها سرياني بمعني"شريا" اي حلالاً شرعياً، إلا أن د."الجمل" وان كان لم ينف عن"سريا" أصلها السرياني إلا انه توصل إلي معني أخر، حيث يري أن كلمة"شريا" صفة فعلية مشتقة من الفعل السرياني "شرا" أي "حل"، غير مربوط، واستدل بذلك علي آيات توراتية سريانية، وعليه ف"شريا" بمعني "حرر"، واستنتج أن"لوكسنبورج" لم يستند لقاعدة لغوية لكي ينطلق منها لإثبات معني "شريا" بأنها "حلال"، فهي كلمة صفة فعلية لا يستقيم معناها كصفة"حلال"، اي اسم مفعول"محرر"، ويفجر د.الجمل" مفاجأة حين يدلل علي صدق استنتاجه بالآية:«إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (35) سورة آل عمران، حيث يري أنها وردت بها ترجمة كلمة "سريا" ف"امرأة عمران" هي أم "السيدة مريم"، وقد نذرت ما في بطنها محرراً لا يشوبه أمر من أمور الدنيا، ولان النذر لا يكون إلا في الغلمان، فقد انتقل النذر منها إلي ابنتها "مريم"، وكان المحرر هو سيدنا"عيسي"، ويري د. "الجمل" أن المستشرق"لوكسنبورج" ليس عالماً باللغة السريانية، بل معرفته بها علي قدر استخدام القواميس، مع فهم سطحي لطبيعة اللغة، ومنهج البحث اللغوي المقارن. لا شك أن هناك نتائج ايجابية لبحوث الاستشراق، ليبقي السؤال حول كيفية تناولها في الشرق ايجابياً، فما الفائدة التي تعود علي المؤمنين بالقرآن الكريم بمجرد الكشف عن معان يعتبرها الاستشراق هي المعاني الحقيقية لآيات القرآن الكريم، والغائبة عن المسلمين، فهل هذا سيؤدي إلي تغيير طبيعة الإسلام؟ أم أنها ستسهم في تغيير رؤية الغرب للمسلمين؟ وما ينتج عن تلك الرؤية من اعتداءات يدفع ثمنها المسلمون المقيمون في الغرب كما دفعت ثمنها"مروة الشربيني" من حياتها!