أسرتني رسومات " حسن حاكم " الكاريكاتورية، ودفعتني دفعاً إلي متابعته زمناً، في بعض الدوريات التي كان - رحمه الله - ينشر بها إنتاجه الفني. ووجدت، في معظم تلك الرسومات، أنها لا تكتفي بمصافحة العين، أو رسم ابتسامة هادئة، فقط، بل إنها تدعوك لأن تتوقف، متأملاً ومحاوراً؛ فهي تحمل (فكراً)، علي العكس من إنتاج رسامين مناظرين ومعاصرين لحسن حاكم، يتوقفون عند اللحظة العابرة، التي قد تولد قهقهة، وينتهي أثرها بمجرد اختفاء صوت تلك القهقهة !. الأكثر من ذلك، أن رسومات حسن حاكم المتميزة تكاد تقفز من إطار الخطوط البسيطة والألوان القليلة، وتحاول أن تتلبَّس ثوباً مغايراً، فتحكي قصة. من هنا، جاء زعمي بأن حسن حاكم كان كاتب قصة قصيرة، ضلَّ طريقه إلي الكاريكاتير؛ أو لعلَّه لجأ إلي لغة بديلة لكتابة قصصه ! لقد قضي حسن حاكم سنوات طويلة مرتبطاً بمجلة (العربي)، يرسم هوامش معظم المقالات الافتتاحية لرئيس التحرير (في عهد الدكتور محمد الرميحي)، بالإضافة إلي رسومات ذات طابع خاص، مصاحبة لبعض الموضوعات الثقافية المتنوعة. ويجب أن أعترف بأن اكتشافي لكاتب القصة حسن حاكم جاء من تجربة مشتركة، فقد رسم - رحمه الله - صوراً لموضوعات نُشرت لي بالمجلة، منها موضوع في باب (كتاب الشهر) - بالعدد الصادر في أكتوبر 1993 من العربي - وكان عرضاً لكتاب ألفته وزيرة البيئة في (حكومة الظل) البريطانية، حول الرؤية السياسية لحزب العمال تجاه بعض المشاكل البيئية وحلولها. وجاء في عرضي للكتاب، علي لسان المؤلفة : " ... إن أطفالنا يجب أن يكونوا الدافع الرئيسي لنا في معالجتنا لقضايا البيئة؛ فالرضيع الراقد في مركبة تدفعها أمه أمامها في الشارع، هو الأقرب منَّا جميعاً إلي مستوي مواسير العادم بالسيارات المارقة بجانبه .. إنه - هكذا - يكون أشد التصاقاً بمشكلة تلوث هواء المدن ...". حاسة فنية والتقطت حاسة حسن حاكم الفنية هذه اللفتة .. استلَّتها من الموضوع؛ فجاء الرسم لأب وأم يدفعان عربة وليدهما بالطريق، بينما غرق مستوي العربة في سحابة كثيفة من الغازات؛ فتجسدت المأساة في (قصة) هذه الأسرة : جاءها وليد (ربما حلمت به وانتظرته طويلاً) .. والوليد هو الأمل - الفرحة - المستقبل؛ وأعدت له الأسرة عربة جميلة، ليستمتع الأبوان بالتنزه وهو معهما، يفتح عينيه علي أضواء الدنيا، ويسمع أصوات الخارج، وهما لا يدريان أنهما يسلمانه - بأيديهما - إلي الخطر يتهدده، متمثَّلاً في أكاسيد الرصاص والكربون، التي تملأ الهواء في أنفه ورئتيه، وتغتال استواءه وصحته !. ولا أعتقد أن أي كاتب قصة - يري العالم جيداً - لا يطمع في اصطياد مثل هذا الحدث البسيط، ليعالجه، ويجعلنا نلتفت إلي ما وراءه من حقيقة مرَّة. ثم إنني أحببت أن أراجع مدي صحة اكتشافي، فلجأت إلي مصدر رئيس لرسومات حسن حاكم، هو مجلة (كاريكاتير)، واخترت منها ما أحاول أن أثبت به أنني لم أكن متجاوزاً حين رأيت في رسومات حاكم قصصاً قصيرة جيدة الصنع؛ بل إنني - ككاتب قصة - وجدت أنه يشاركني بعض الرؤي القصصية التي كتبتها فعلاً، أو أتمني أن أكتبها. ولو كنَّا في مجال الدراسة المقارنة، لأحلنا بعض ملامح تجربة حسن حاكم إلي العالم القصصي لدي بعض الكتَّاب العالميين، مثل فرانز كافكا، ودينو بوتزاتي. ولنبدأ برسم لرجل تحت مصباح مقطوع السلك. موقف عبثي تام .. فهذا رجل يحمل كتاباً مفتوحاً، ويجلس تحت مصباح يغرق المكان في ضوئه. ينظر الرجل، وتنظر معه، لتري سلك المصباح مقطوعاً، وقد تم ربط طرفي القطع كما لو كنت تربط حبلاً .. أي أن وسيلة توصيل الكهرباء (النور) منعدمة. فهل ما نراه ضوء حقيقي ؟؛ أم أننا جميعاً لا نري، وإنما يراد لنا أن نصدق بأن الكهرباء تسري وتتحول إلي ضوء باهر ؟؛ ومن الذي قطع السلك ؟؛ ومن قام بالتزوير، وجاء بالرجل، وأحاطه بكل هذا الوهم ودعاه ليقرأ ؟؛ وهل ثمة شك في أن يكون الرجل ذاته ضالعاً في الخداع - خداعنا ؟ .. وهل ثمة صلة بين محتوي الكتاب، وهذه الخدعة القائمة ؟ ... أسئلة لا تنتهي، ولكنها تضفر موقفاً قصصياً رائعاً . وفي رسم آخر، يقدم لنا حاكم موقفاً غارقاً في العبثية؛ فثمة صياد يتبادل مكانه مع طائر، فيترك مجاله الطبيعي، وهو سطح الأرض، ويعتلي الشجرة، مصوِّباً سلاحه إلي الهدف موضع فعل (الصيد)، بينما أخذ الهدف (طائر صغير)، موقع الصياد، سائراً علي الأرض. وهي لقطة نادرة، علي مستوي التعامل الفني، بالإضافة إلي قدرتها علي تفجير العديد من التساؤلات وإثارة الأفكار .. فالشجرة ملساء، لا سبيل إلي ارتقائها اختياراً؛ والطائر ثابت في مشيته علي الأرض، وكأنه ضمن الأمان .. فمن الصائد ومن الصيد ؟ . وأين أحكام قانون الجاذبية ؟. إن الجاذبية موجودة، والأوزان مستقرة؛ ولكن .. من الذي (سيسقط)، حالاً ؟! . ثم، ألا يمكن أن يتسلل إلي قلوبنا شك بأن ثمة تواطؤاً بين الطائر وصياده ؟! . الصفحة الكاملة ومن نماذج رسومات الصفحة الكاملة، كاريكاتير يحكي قصة عروس حديثة، تزور بيت أمها لأول مرة بعد الزواج؛ وهذا لقاء تقليدي بين (البنت) وأمها، ويكون - في العادة - محملاً بالأسرار النسائية الصغيرة - وربما الكبيرة ! - التي تتبادلها (المرأة المبتدئة) مع (المرأة الخبيرة). غير أن حسن حاكم يخرج بنا من الحيز الاعتيادي الخاص، والمحدود، لمثل هذا اللقاء الحميم، إلي قضية عامة، يفجِّرها في رسمه المركَّز، محكم البنيان. ويتخلَّي حسن حاكم، في هذه اللوحة، عن بساطة خطوطه، ليملأ الصورة بالخطوط والتفاصيل، مهتماً بتضاريس الأجسام، وساكباً الألوان في كل مكان، إضفاءً لروح الفرح والمرح علي الموقف. إن كاتب القصة يفعل الشيء ذاته، عند معالجة نفس الموقف. كما أننا مقبلون علي موضوع فيه قدر من (التوابل)، فلا ينسي الفنان المتمكن ذلك، فيعد له العدة، ويصور جسم كل من العروس وأمها بخطوط تبرز المفاتن الأنثوية. وترتمي البنت في حضن أمها، حال دخولها من الباب؛ بينما زوج الابنة لا يكاد يبرح العتبة، وقد ترك الباب مفتوحاً خلفه، كأنما يتيح لنفسه منفذاً للفرار، إذا اقتضت الأمور !. إن عواطف الابنة تجيش في حضن أمها، ذات الخبرة، التي تسألها عن (الأحوال). إننا لا نسمع هذا السؤال، ولكننا نقرأ إجابة العروس عليه، في خليط من الخجل والاحتجاج، وقد حجبت عنَّا ملامح وجهها في صدر أمها، تقول : " عشوائي يا ماما .... " !. وتستوعب الأم ما ترمي إليه ابنتها، وكذلك نفعل نحن. وبرغم ذلك، فإن الأم - التي لا يبدر عنها أي مظهر للاحتجاج، بل تتسع ابتسامتها - تعود لتسأل، كأنما لإشباع رغبة لديها في أن تتأكد، تسأل : " في كل حاجة ؟!". ومن غير حاجة إلي ابتسامة الأم الموجزة، يصل إلينا معني العشوائية؛ ثم لا نلبث أن نخرج من الباب الضيق للمعني، والمحصور في السلوكيات الفراشية، التي وشت بها العروس لأمها - ولنا - لنكتشف أن العشوائية ليست - فقط - أن جانباً من البشر، مضغوطين تحت وطأة حاجتهم الشديدة إلي المأوي - أقاموا أكواخهم الفقيرة دون التزام بقانون أو نظام؛ فهذه ليست إلا صورة في الطرف النهائي للعشوائية، أو هي نتيجة متأخِّرة لها؛ وأن الوجود الحقيقي للعشوائية يكمن في كهوف مظلمة بالأدمغة؛ فذلك (العريس) مارس العشوائية في بعض خصوصياته، والزوجة الصغيرة، والأم، تبدوان راضيتين - ضمناً - فهما عشوائيتان أيضاً؛ ثم نخرج إلي الطريق، والمواصلات، والدواوين، وإلي مراكز اتخاذ القرارات، لنري أن العشوائية سلوك سائد .. إنها عشوائية " في كل حاجة "، كما ألمحت أم العروس !. ونشر حسن حاكم في مجلة كاريكاتير (رواية) مسلسلة، بعنوان " نفيسة ومرسي"؛ والاسمان للبطلين الرئيسين، وربما الوحيدين، في الرواية. إنهما زوجان في نهاية خريف العمر، وإن كانت نفيسة تأبي الاعتراف بالزمن، وتعيش وهماً دائماً بأنها لا تزال تحتفظ بأشياء مما يبحث عنه الذكر في الأنثي؛ لذلك، نراها في مطاردة مستمرة لمرسي، لأن إثبات وهمها لن يتحقق - في تصورها - إلا به ومعه. هي رواية مطاردة، بين صياد يحمل بندقية خالية من الطلقات، وفريسة لا أمل فيها ولا رجاء؛ فالرجل منهك، يتفنن في إيجاد وسائل الهرب، ويكتفي بالكلمات القليلة، ينهر بها شريكة العمر الذي طال : " عيب يا نفيسة !"؛ وهو - أحياناً، ومثل معظم الرجال - يغلب علي أمره، ويظهر بعض ردود الفعل الإيجابية، فيما يشبه الاستسلام لنفيسة، وإن كان - لا بد - يدرك أن الطبيعة، في النهاية، هي الفيصل، ولا أقسي من حكم الطبيعة !. أزواج قدماء ويعتمد حسن حاكم، في روايته هذه، علي طبيعة العلاقة بين العجوزين. والمعروف، أن الأزواج القدماء يصبح الارتباط بينهما شديداً، ولا يطيق الواحد منهما فراق الآخر طويلاً. وتقل الكلمات في الحوار بينهما، فالخبرة الطويلة ببعضهما لا تجعلهما بحاجة إلي حوار. ومن جهة أخري، فإن طول العشرة يترك آثاره من الملل، وربما من النفور، ويظهر ذلك بين وقت وآخر. كما أن عالم كبار السن يصبح محدوداً، لا أقصد الحيز المكاني - فقط - بل يمتد الأمر إلي التطلعات والاهتمامات، وتضيق شرايين المخ، وتتصلب؛ ويضيق الأفق - غالباً - ويضيق (الآخرون) بكثير من تصرفات هؤلاء الكبار؛ وتصبح الحياة جحيماً إذا كان العجوز وحيداً، فقد - أو فقدت - الزوج. من هنا، كانت الخصوصية الشديدة لعالم زوجين عجوزين، انتقاهما حسن حاكم ليعبر من خلالهما عن أحوال وملابسات هذا العالم المحدود؛ فجعلهما يعيشان في حجرة ضيقة، لا يكادان يبرحانها؛ فهي عالمهما الخارجي، الموازي لعالمهما الداخلي. والحس الغالب في هذه الرواية المسلسلة، هو السخرية من تصرفات نفيسة ومرسي؛ ولكننا نري أنها سخرية لا تهدف إلي النيل من كرامة كبار السن، بقدر ما تحاول أن تجتذبك لتتعاطف مع (النموذج)، من خلال ابتسامة تطول أو تقصر؛ ونجدنا - مع متابعتنا للمسلسل الروائي - لا نهزأ من نفيسة ومرسي، ولكن نبتسم في إشفاق وحب، بل ونتمني أن تنتهي شيخوختنا كشيخوختهما، مليئة بالشد والإرخاء، لا تخلو من تراحم وتعاطف، وأيضاً، من حب لا يعترف بانطفاء الجذوة !. ولا نعتقد أن قضية كبار السن كانت غائبة عن وعي حسن حاكم وهو يخطط لمسلسله الروائي عن نفيسة ومرسي؛ فثمة دلائل تشير إلي أن قيم الأسرة العربية، المرتبطة بكبار السن، بدأت في التبدل، وأن المتأخرين في العمر بدأوا يفقدون مكانتهم، بعد انفصال الأبناء وابتعاد الحفدة، وأن الوحدة باتت المصير الذي ينتظر الأب العجوز، أو الأم العجوز، سواء أكان مقيماً في بيت خلا من الأبناء والأحفاد، أو (ضيفاً)، بدار للمسنين. وعلي أي حال، فما زالت أحوال المسنين عندنا أفضل من أحوال عجائز أوربا وأمريكا، الذين يمثلون نسبة كبيرة من ظاهرة (التشرد) في تلك المجتمعات (المتقدمة)؛ فلعل حسن حاكم كان يحاول أن يلفت أنظارنا إلي ضرورة مراجعة أحوال المسنين في بلادنا؛ وجعل ذلك يتم من خلال عرضه لصفحات من دفتر أحوال الحياة اليومية لنفيسة ومرسي .