ما زالت مفاهيمنا الإسلامية في حاجة للاستجلاء، وقيمنا الأخلاقية والاجتماعية في حاجة للتفعيل. في شهر رمضان امتدت موائد الطعام، والأيدي لمساعدة أصحاب الحاجات، البعض يتباهي بذلك والبعض يتواضع لله، وفريق يهنئ الناس برمضان ويضع صورته وتحتها كلمات واضحات تماماً: ابن الدائرة...! في تجوالي بين المساجد لصلاة العشاء والقيام بحثاً عن مكان يشعرني بالخشوع اتضحت لي معان لمفهوم الاحسان الذي ظلمته الثقافة الشعبية فحصرته في الزكاة والصدقة، رغم أن الإحسان من أعمق المفاهيم الإسلامية التي تقترن بتقوي الله من ناحية بأن يحسن المرء في كل الأعمال مراقبة لله وابتغاء مرضاته، ومن ناحية أخري يقترن باستكمال أبعاد الجمال في عمارة الأرض. في مسجد حراء في المقطم الكائن تحت منزل الدكتور عبد الله شحاتة رحمه الله أستاذ الدراسات الإسلامية والداعية الذي كان يأسرني أسلوبه الهادئ ودماثته النادرة ووجهه الباش الذي لا تفارقه السماحة وتزينه ابتسامة تعكس صفاء روحياً فريداً صليت ليلتين، فوجدت أن أسرته لم تكتف بتوفير مساحة للنساء، بل وفرت التكييف للمكان لراحة المصلين في هذا الجو الحار. وأنا ساجدة لم أشم رائحة تراب في السجاجيد، وفي وقوفي وأنا أسمع ترتيل الإمام تسللت لأنفي رائحة بخور لطيف. قضيت وقتاً هادئاً وحمدت لهم إحسانهم، وسألت الله الرحمة لصاحب المنزل. في ليلة أخري صليت في مسجد الرواس بجوار مستشفي الأطفال للسرطان، في الطابق الأرضي مكان النساء يفتقر للإحسان، ضوضاء الأطفال وصوت ثرثرة النساء دفعاني للصعود للطابق الأعلي الذي وجدته هادئاً رغم الازدحام، وأزعجني مرور الفتيات بين أيدينا ونحن نصلي عبوراً من جهة لأخري دون انتظار نهاية الركعتين، النافذة التي وقفت أمامها كانت تحمل للزاوية التي صليت بها نسمات رقيقة، لكن افتقدت رائحة البخور. نصحني البعض بمسجد السلطان حسن، وهو أحد المساجد التي يتعلق بها قلبي لأن علي منبره كان يخطب أستاذنا الدكتور علي جمعة، وكذا شيخنا أسامة السيد الأزهري، وبه إمام قارئ عالم الآن، وقفت في الصفوف الخلفية بجوار إحدي النوافذ الضخمة، وصليت في هدوء. في فترة الراحة والدرس طافت علي المصليات بعض الشابات تحملن ماء بارداً، ووجدت ذلك لمسة إحسان جميلة، زادها جمالاً تلك الابتسامة الرقيقة للفتاة التي انتظرتني حتي أنتهي من كوب الماء الذي وجدته مخلوطاً برائحة الزهر فدعوت لها ولمن مزج الماء بالزهر بأن يشرب من الحوض من يد رسول الله. بعد خروجي من المسجد وقفت أتأمله من الخارج، ما أجمل هذه العمارة الإسلامية وفلسفتها في التعامل مع الفراغ والمكان، وتلك الروح الجميلة التي أبدعت النقوش وزينت بجماليات الخط العربي ونقوش هندسية ونباتية تلك الجدران والأسقف. كان يكفي المعماري المسلم أن يبني مسجداً جامعاً، لكن الإيمان والإحسان دفعاه للجمال فبقيت لنا تلك الصروح الحضارية. ألحت عليّ آية «إن رحمة الله قريب من المحسنين» فعدت للمعجم المفهرس لألفاظ القرآن أطالع مادة (ح س ن)، فوجدت معاني عديدة وفريدة، من الحسنات، للإحسان، لحسن الثواب، للأسماء الحسني. واللافت أن الإحسان أداء لكنه أيضاً منزلة، فإن وضع المرء نفسه في تلك المنزلة أصبح ما هو فضل وزيادة عند غيره في حالته هو واجب، كما في قوله تعالي «متاعاً بالمعروف حقاً علي المحسنين»، فإن أنزل المرء نفسه تلك المنزلة وقام بحقها كان له الجزاء : الحسني. وهي منزلة عند الله، وفوقها زيادة. كانت أمهات المؤمنين تعطر دراهم الصدقة لأنها لا تقع في يد المسكين بل في يد الله تعالي وتنزه، وفي تاريخ الأوقاف وما حبس المسلمون مالهم من أجله آيات في الإحسان، من أعلي المصالح الاجتماعية مثل مؤسسات الصحة والتعليم إلي أبسط المقاصد التي تدور مع الرحمة، مثل توفير اللبن للقطط الضالة والقمح للحمام في ساحات المساجد. في رمضان جدير بنا أن نستحضر تلك المعاني ونتذكر تلك المقامات ونتأمل في آيات الله ونحن نسارع لختم كتابه،وأن نستبطن في نفوسنا معاني الجمال في القول والعمل.