سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مدير الرقابة علي الصحف : سلطاتنا لا تقتصر علي الشئون الحربية بل تشمل الحض علي كراهية الحكومة أو ازدرائها وبث روح العداء بين الطبقات .. والحفاظ علي الأخلاق العامة!
مدير الرقابة علي الصحف : سلطاتنا لا تقتصر علي الشئون الحربية بل تشمل الحض علي كراهية الحكومة أو ازدرائها وبث روح العداء بين الطبقات .. والحفاظ علي الأخلاق العامة! حضرة الشيخ المحترم أنطون الجميل بك (رئيس تحرير جريدة الأهرام) (1) : حضرات الشيوخ المحترمين: لا يسعني إلا تقديم خالص الشكر باسم الصحافة، إلي الزميلين المحترمين والأستاذين الكبيرين «محمود بسيوني» و«يوسف الجندي» علي ما أبدياه من الاهتمام بشئون الصحافة والغيرة علي حريتها في وضع استجوابهما وشرحه شرحا مسهبا في جلستين متواليتين، أما المجلس فقد أعرب علي شكره لهما بالتصفيق للدفاع عن حرية الصحافة. ولا عجب أن تهبوا جميعا للذود عن حرية الصحافة، وحرية الرأي وحرية الفكر، فجميع هذه الحريات مكفولة في الدستور صريحا في مادتيه الرابعة عشرة والخامسة عشرة، وأنتم حماة الدستور. حضرات الشيوخ المحترمين: لاشك في أن الرقابة علي الصحف من مستلزمات الأحكام العرفية، وقد وافق البرلمان علي إعلان الأحكام العرفية، فلابد لنا من أن نرضي بالرقابة، ونحن بالرقابة راضون، ولكننا راضون بالرقابة الحكيمة الرشيدة، لا بالرقابة المتعنتة المتحكمة.. إننا رضينا بالرقابة التي تعمل في داخل النطاق المرسوم لها ولتحقيق الأغراض المطلوبة منها، وهي منع الكتابة المثيرة للخواطر المقلقة للأمن العام، وحذف الأخبار التي تلحق ضررا بسلامة الدولة وشئون الدفاع عن الوطن بمثل هذه الرقابة نحن راضون، بل إننا لنفرضها علي أنفسنا إن لم تفرضها الأحكام العسكرية، لأننا نقدر حرج الظروف الحاضرة ..(تصفيق). ولكن الرقابة التي لا يرضاها صحفي، هي الرقابة التي تتخطي دائرة اختصاصها، وتتجاوز الأغراض المقصودة منها، لتتحكم في كل ما يكتب، فتصل أحيانا إلي حد السخافة، كما صارت إليه الحال في أول القرن الحاضر في إحدي الدول القريبة، حيث وصل التعنت ، بل وصل الخوف والهلع إلي حظر طائفة من الألفاظ، مثل كلمة «الجمهور» لأن الكلمة تمت إلي الجمهورية والحكم الجمهوري، أو كلمة «مراد» لأنه كان للسلطان يومئذ أخ مخلوع يحمل هذا الاسم.. فلم يكن يجوز للكاتب، وهو يصف مثلا إحدي الحفلات، أن يقول «وكانت الجماهير مزدحمة» بل يقول «كانت الجموع» ولم يكن يجوز أن يكتب «نلت المراد» بل «نلت المرام» وما إلي ذلك من الأمثلة التي تضحك، وشر البلية ما يضحك (2). لما جاءنا الرقيب لأول مرة بعد فرض الرقابة، وكان موظفا صغيرا، رحبت به ثم قلت له:« يا حضرة الفاضل، إن كل كلمة تشطبها أو تعدلها أعدها إهانة لي» فقال :«استغفر الله» قلت : «لا تستغفر، لأن معني ذلك أنك تفهم مصلحة البلد أحسن مني، وهذا ما لا أسلم لك به ولا يسلم لك به أحد من زملائي رؤساء التحرير في الصحف الأخري، فإذا كان لديك تعليمات بلغنا إياها، ونحن كفيلون بتنفيذها». يا حضرات الشيوخ المحترمين: إني بعد أن شكرت الأستاذين الكبيرين صاحبي الاستجواب علي دفاعهما عن حرية الصحافة، ألاحظ أنهما كادا يقصران كلامهما علي الاستشهاد بمقتبسات من زميلات معينة (3) مما قد يتسرب معه إلي أذهانكم وأذهان الجمهور أن سائر الزميلات ترتع في بحبوحة من الحرية، والواقع أن الجميع في «الهوا سوا»، فما يصيب اليوم إحدي الصحف يصيب غيرها غدا. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: لقد تكلمنا عما وصل إلي علمنا. حضرة الشيخ المحترم أنطون الجميل بك: إني استطيع كما يستطيع كل من زملائي الصحفيين، الأعضاء منهم في هذا المجلس وغير الأعضاء، أن يسردوا سلسلة طويلة مما عندهم من هذا القبيل، ولو سقت لكم الأمثلة علي ذلك لطال بنا المقام، ولا أحب حصر المناقشة في دائرة خصوصياتنا الضيقة، بل أحاول أن أرتفع بها إلي مستوي أعلي كما قال حضرة الأستاذ «يوسف أحمد الجندي» فأتناول الموضوع من وجهته العامة المتصلة بمصلحة البلاد، ولعل الأمثلة تجيء مؤيدة لما سأبسطه من الملاحظات العامة. وأولي هذه الملاحظات أن الغلوّ في رقابة الأخبار يساعد علي ترويج الإشاعات الغريبة الكاذبة.. مثل ذلك: وقع في 6 فبراير الماضي (1940) في ميناء الإسكندرية حادث اصطدام بين زورقين كانا يقلان بعض كبار الموظفين فأصيب الركاب بجروح ورضوض بسيطة. فمنعت صحف العاصمة من رواية هذا الحادث، بل إن أحد المصابين وجه كلمة شكر في الصحف إلي من استفسر عنه علي أثر الحادث الذي أصيب به، فحذفت من كلمة الشكر عبارة «علي إثر الحادث...» فماذا كانت النتيجة. في اليوم الأول: تليفون وثان وثالث، والمتكلمون يسألون : أصحيح أن أحد الألغام المغناطيسية قذفته الأمواج إلي ميناء الإسكندرية فأصاب زورقين. وفي اليوم الثاني: تليفون وثان وثالث والمتكلمون يسألون: أصحيح أن غواصة ألمانية دخلت خلسة إلي ميناء الإسكندرية فنسفت زورقين وعادت سالمة من حيث أتت...؟ ألا ترون أيها السادة أن نشر الخبر علي حقيقته البسيطة كان يغني عن كل هذه الإشاعات الغريبة المقلقة؟ وهكذا يقال عن السيارة العسكرية التي وقعت في حفرة في الصحراء، فمنع نشر الخبر. ملاحظة ثانية: كثيرا ما يختلف تقدير الرقباء لما يجوز نشره باختلاف تفسيرهم ما يتلقونه من التعليمات ، فيجيز رقيب في صحيفة ما يمنعه رقيب آخر في صحيفة أخري. مثال ذلك: إن إحدي الصحف تلقت منذ أسبوعين مقالا من أحد أعضاء البرلمان يتضمن اقتراحا لحل مشكلة القطن، فمنعه الرقيب، وفي ثاني يوم نشر المقال نفسه في صحيفة أخري. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي : في صحيفة «المقطم». حضرة الشيخ المحترم أنطون الجميل بك: وتلقت جمعية الشبان المسلمين من «الجنرال فيجان»(4) ردا علي رسالة وجهتها إليه بخصوص بعض زعماء العرب المعتقلين، وأرسلت الجمعية ملخص الرد إلي الصحف فأبيح للبعض أن تنشر منه ما لم يبح لغيرها. وهذا ما يوقع الصحف في حرج تجاه بعض الناس أو بعض الهيئات. الملاحظة الثالثة: إذاعات الراديو من محطة مصر وغيرها من المحطات الأجنبية كثيرا ما تجعل الرقابة علي الصحف عديمة الأثر، لأن عدد الذين يسمعون أكثر من عدد الذين يقرأون، أو كما قالت إحدي الزميلات مداعبة: إن عدد الصم عندنا أقل بكثير من عدد الأميين. أذكر من هذا القبيل أنه صدر منشور عن سبب إطفاء الأنوار ليلا في الإسكندرية، فحذف الرقيب هذا المنشور من الصحف، وحسنا فعل. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: ولم ذلك؟ حضرة الشيخ المحترم أنطون الجميل بك : لأن المنشور كان حقيقة مما لا يحسن نشره، ولكنه أذيع في المساء نفسه من محطة الإذاعة فكان عدد الذين سمعوه أكثر بكثير من عدد الذين كانوا قرأوه فيما لو نشر. ومادمت في مقام سرد الأمثلة فلأوردن مثلا أخيرا يرجع إلي ثلاثة أو أربعة أيام. طلبت إلي إحدي المجلات أن أكتب لها كلمة عن «حادث الأسبوع» وأردت أن أظل بعيدا عن دائرة السياسة، فجعلت مدار كلمتي علي «الميزانية» لمناسبة شروع البرلمان، في بحث ميزانية الدولة، وتطرقت إلي ميزانية المنزل فقلت:«قلّ منا من يضع لنفسه أو لبيته ميزانية يوازن بها بين إيراده ومصروفه، وهذا هو علة خراب البيوت، الرجل يعمل ويكسب، والمرأة تدبر فتحفظ ومتي تكافأت هاتان القوتان في المنزل توفرت فيه أسباب اليسار والرخاء، وإذا كان الرجل في ميزانية البيت يمثل الإيرادات والمرأة تمثل المصروفات فدور المرأة أهم وأخطر، فإن علماء الاقتصاد يؤكدون أنه يجب لإنفاق الدراهم عقل أوسع من العقل اللازم لكسبها، فالمرأة إذن وزير المالية الحقيقي في المنزل، فهي التي تفتح الاعتمادات وتحدد مقدارها...» ثم ختمت بقولي:«فلنعقد في هذا الشهر برلمان البيت لدرس ميزانيته أسوة ببرلمان الأمة الذي بدأ في هذا الأسبوع بحث ميزانية الدولة». وقد جعلت لهذه الكلمة البريئة، البعيدة كما ترون عن السياسة والأنباء العسكرية وعن تهديد سلامة الدولة والأمن العام، جعلت لها عنوانين : الأول «ميزانية البيت وميزانية الدولة» والثاني، وهو من قبيل الفكاهة لأن المجلة فكاهية:«سرّي باشا (5) وزير مالية الدولة، والزوجة وزير مالية المنزل».. فماذا فعل الرقيب؟ شطب العنوان الثاني ولو كان حضرة صاحب المعالي وزير المالية حاضرا في هذه الجلسة لسألته، هل يري معاليه أن هذا العنوان مما يلحق ضررا بسمعة البلاد المالية، فيؤثر في السوق ويخفض الإيرادات أو يزيد المصروفات؟ حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: فيه تكدير خاطر. حضرة الشيخ المحترم أنطون الجميل بك: حضرات الشيوخ المحترمين: يخلص من هذه الأمثلة - مادمنا نريد رفع المناقشة إلي مستوي أعلي من الخصوصيات - أن هذه الحالة تولد جوا ضارا، لأن القراء يفقدون شيئا فشيئا ثقتهم بجرائدهم، فيفلت الرأي العام من أيدي قادته وهداته، وهذه حالة تنطوي علي خطر أهم وأعظم من نشر خبر عن اصطدام زورقين أو وقوع سيارة في حفرة.. ( تصفيق).. علي أن الإنصاف يقضي علينا بألا نغمط حضرة مدير مراقبة النشر وفريق من الرقباء حقهم، فهم في الغالب يبذلون جهدهم للتعاون معنا. الرئيس ( محمد محمود خليل بك): لا محل للتعرض للأشخاص بالمدح أو بالقدح. حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا (رئيس مجلس الوزراء): يحسن أن يوجه الكلام إلي الرقابة. حضرة الشيخ المحترم أنطون الجميل بك: وكثيرا ما يرجع إلينا الرقيب مستشيرا أو مستفهما، كما أننا من جانبنا نرحب دائما بهذه المعاونة ونسهل علي الرقيب مهمته، وقد جمعتنا في الأسبوع الماضي مائدة أحد الزملاء الكرام من صحافة المعارضة، وكنا لفيفا من الرقباء والصحفيين المختلفي الألوان، فقضينا ساعة لذيذة نتفكه بنوادر عن تعنت بعض الرقباء مع الصحفيين، وحيل بعض الصحفيين علي الرقباء- كل ذلك في أتم صفاء وأكمل مودة، فالمشكلة قائمة إذن بين الصحافة والرقابة لا بين الصحفيين والرقباء، ولعل أصدق وصف لهذه الحالة ما كان قدماء الرومان يقولون عن مجلس شيوخهم: «Senatores boni viri, Senatus mala bestia» وترجمة ذلك في بعض تصرف:«الشيوخ جماعة طيبين، ولكن مجلس الشيوخ حاجة بطالة» ونحن نقول مثلهم «الرقباء جماعة طيبين ولكن الرقابة حاجة بطالة». هذه هي الحالة، بسطتها كشيخ مستقل، وكصحفي مستقل بلا تحامل ولا ملاينة ولكن بكامل الإخلاص والإنصاف. وإني لأرجو في الختام - وقد يكون هذا اقتراحا - أن يزود رفعة الحاكم العسكري العام مراقبة النشر بالتعليمات الصريحة، وأن تبلغ الرقابة هذه التعليمات إلي رؤساء التحرير، فهم أحسن رقباء علي ما يكتب في صحفهم، وأن يقتصر منع النشر علي ما له علاقة بالأنباء العسكرية والشئون الماسة بالدفاع عن البلاد وسلامة الدولة (تصفيق). حضرة الشيخ المحترم الدكتور محمد حسين هيكل باشا: المفهوم أن للحكومة ردا علي الاستجواب، والذي أفهمه من اللائحة الداخلية ومن التقاليد البرلمانية أنه بعد أن يشرح الاستجواب مقدمة يجمل أن نسمع كلمة الحكومة، فقد يكون عندي كلام كثير فإذا سمعت كلمة الحكومة عدلته، وقد تكون عندي وقائع خاطئة فإذا سمعت كلام الحكومة صححتها- لهذا أرجو أن نسمع أولا كلمة الحكومة طبقا لأحكام اللائحة الداخلية ولما جرت عليه التقاليد. الرئيس محمد محمود خليل بك: حضرة الزميل المحترم يطلب تطبيق المادة 51 من اللائحة الداخلية وعلي ذلك فالكلمة لحضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء. حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا (رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية): أرجو أن يأذن المجلس بأن أُنيب عني حضرة الأستاذ الدكتور «محمود عزمي» في إلقاء بيان الحكومة عن هذا الاستجواب. الرئيس (محمد محمود خليل بك): هل يتلو حضرة الأستاذ الدكتور «محمود عزمي» بيانا عن الحكومة أو يريد أن يلقي كلمة للرد علي الاستجواب؟ حضرة الأستاذ الدكتور محمود عزمي (مدير مراقبة النشر): نعم سأتلو بيان الحكومة بالنيابة عن حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: نريد أن نتحقق من مسألة دستورية مهمة لكي نعرف الخطة التي يجري عليها المجلس فيها، هل يجوز لموظف كبير أن ينوب عن رفعة رئيس مجلس الوزراء في تلاوة بيان مكتوب؟ الرئيس (محمد محمود خليل بك): لا شك في أن رئيس الحكومة له الحق في أن ينيب عنه من يري من كبار الموظفين. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: الذي أريد أن أقف عليه من معالي الرئيس هو هل يجوز إلقاء بيان مكتوب؟ الرئيس (محمد محمود خليل بك): يجوز ذلك ، ولحضرة الشيخ المحترم أن يسمع البيان ثم يناقشه. حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا ( رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية): لقد أنبت عني حضرة الأستاذ الدكتور «محمود عزمي» في تلاوة بيان الحكومة عن هذا الاستجواب، وسأقول كلمة في النهاية. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: أعتقد أن المجلس لا يمانع في إلقاء هذا البيان في هذه المرة، علي ألا تعتبر التلاوة سابقة، وستكون إباحة التلاوة أو عدم إباحتها محل بحثنا، فإذا ما تبين عدم جوازها أثرنا الموضوع فيما بعد. الرئيس: (محمد محمود خليل بك): لا مانع من ذلك. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: يخيل إلي أن بيان الحكومة معد قبل أن تسمع علي الأقل بيان حضرة الشيخ المحترم الأستاذ «محمود بسيوني» عن الوقائع التي أدلي بها في هذه الجلسة، وقبل أن تسمع الحكومة أقوالي التي أدليت بها الآن. وأعتقد أن الأوفق أن نسمع من الحكومة ردا علي الوقائع التي عرضنا لها الليلة، فإذا كان البيان الذي سيتلي الآن قد أعد قبل هذه الجلسة فلا مانع لدينا من أن ترجع الحكومة إلي الضابط لتطلع عليها ثم ترد علي وقائع الاستجواب بعد ذلك، لأنه ليس من المصلحة أن تغفل الحكومة الوقائع التي ذكرت في هذه الجلسة. حضرة الأستاذ الدكتور محمود عزمي (6) (مدير مراقبة النشر): لقد أعدت الحكومة الرد علي الوقائع التي قيلت في الجلسة الماضية والتي قيلت في هذه الجلسة. ينطوي الاستجواب في أصله المكتوب وفيما أضيف إليه عند عرضه لتحديد موعد لمناقشته ثم فيما أدلي به صاحباه المحترمان وهما يفصلانه علي خمس مؤاخذات موجهة للرقابة، يمكن ترتيبها ترتيبا منطقيا علي النحو التالي: أولا: حظر نشر الآيات القرآنية الكريمة والحكم القديمة والجديدة، والإمعان في الحظر إلي حد عدم إجازة النشر في صفحة خاصة بالأدب رغم سبق السماح بذلك. ثانيا: منع كل نقد لأعمال الوزارة، سواء أكان متعلقا بالمسائل السياسية والدستورية أم بالمسائل الاقتصادية، رغم أنها جميعا أبعد ما تكون عن الحرب وشئونها. ثالثا: عدم المساواة في المعاملة، إذ سمح للصحف الحكومية بالمهاترة ضد خصومها السياسيين، علي حين أنه لم يسمح لصحف المعارضة بالرد عليها. رابعا: منع نشر الأسئلة والاستجوابات البرلمانية في الصحف. خامسا: فرض الرقابة الصحفية في مصر من تدابير الضغط علي حرية الرأي ما لا نظير له في البلاد الديمقراطية. 2- ويلوح من المؤاخذات في عمومها، ومن القالب الذي صيغت فيه عباراتها، أن هناك شيئا من سوء التفاهم علي طبيعة الرقابة واختصاصاتها، يحسن الإسراع إلي تبديده مبادأة قبل التعرض لتفصيل أمر كل واحدة من تلك المؤاخذات، ذلك بأنها تنم عن افتراض أن طبيعة الرقابة طبيعة حربية خالصة وأن اختصاصاتها، من أجل ذلك، يجب ألا تتجاوز الشئون العسكرية البحتة بحال. ولكن الواقع هو أن الرقابة وإن فرضت لمناسبة إعلان الأحكام العرفية بسبب حربي فإنما هي تشمل شئون الدفاع القومي وشئون الأمن العام، كما تشمل الشئون السياسية والدبلوماتية والاقتصادية والخلقية كذلك، ومرجعها في هذا الاختصاص الشامل، الأمر العسكري (رقم 1) الصادر من السلطة القائمة علي إجراء الأحكام العرفية في الثالث من شهر سبتمبر لسنة 1939، وتصريحات حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء في الجلسة الأولي من جلسات دور الانعقاد البرلماني غير العادي أمام مجلسكم الموقر في اليوم الثاني من شهر أكتوبر لسنة 1939، ثم تعليمات حضرة صاحب السعادة الرقيب العام المنظمة لفروع الرقابة جميعا. وقد نصت المادة الأولي من الأمر العسكري المذكور علي أن الرقابة العامة مفروضة «من أجل سلامة البلاد» كما نصت المادة الثالثة منه علي أن الرقيب العام ومن ينتدبهم من الموظفين التابعين له يتولون عملهم «في سبيل الدفاع القومي والأمن العام» وجاء في تصريحات رفعة رئيس مجلس الوزراء تفصيلا لهذا الإجمال أن واجبات الرقابة موجهة نحو الدفاع القومي، والأمن العام، وتوحيد جهود الأمة، وتدعيم الحكم الصالح، كما جاء في التعليمات الرئيسية التي أصدرها سعادة الرقيب العام تخصيصا لذلك التعميم أن علي الرقابة منع أي حدث ينافي مصالح مصر أو حليفاتها كالأحداث التالي بيانها: (أ) الإضرار بعلاقات مصر مع حلفائها أو مع الدولة الأجنبية. (ب) إيجاد أسباب التنافر بين صفوف القوات المصرية أو قوات الحلفاء أو التدخل في نظامهم أو في شئون الصحة والتدريب الخاصة بهم أو التعرض لتأدية واجباتهم، كذلك إيجاد هذه الأسباب بين صفوف القائمين بالخدمة العامة أو عرقلتهم عن أداء واجباتهم أو تحريضهم علي التمرد علي القيام بواجباتهم. (ج) الحض علي كراهة الحكومة القائمة والهيئات العامة في مصر أو ازدرائها أو إثارة الخواطر عليها. (د) بث روح الكراهية والعداء بين مختلف الطبقات في مصر أو بين مصر وحلفائها. (ه) إثارة مخاوف ورعب الجمهور أو طائفة معينة منه. (و) تقويض دعائم الثقة العامة في السمعة القومية والمالية لمصر وحلفائها، وكذلك منع انتشار معلومات عن حركات العمال أو عدم كفاية المؤن أو أي معلومات أخري يكون من شأنها إنماء الروح المعنوية في العدو. وفي تلك النصوص مجتمعة ما يفيد في صراحة أن اختصاصات الرقابة تشمل إلي جانب شئون الدفاع القومي والأمن العام، الشئون الدبلوماتية والسياسية والاقتصادية، أما الشئون الخلقية فتستند الرقابة في الاختصاص بها إلي الإجماع الذي صدر عن هذا المجلس الموقر تأييدا للتصريحات التي أدلي بها فيه حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي حملة منه علي الأساليب المبتذلة والتعرض لكرامات الأسر والأفراد. وليست الرقابة المصرية مبتدعة في هذا الاختصاص شيئا. وإن الرجوع إلي أي نظام من أنظمة الرقابات في العالم ليدل علي شمول أقلها اختصاصا كل تلك الشئون التي عددنا. ولقد تقدم بعض النواب الفرنسيين باستجوابات عن الرقابة كان موعد مناقشتها خلال شهر فبراير الماضي، وكان حامل لواء الهجوم «مسيو بلوم» رئيس الوزارة السابقة وزعيم الحزب الاشتراكي، فلم يتردد عند بدء حملته في أن يصارح مجلس النواب الفرنسي بقوله: « إني لا أعارض مطلقا في ضرورة مراقبة الصحافة وقت الحرب مهما تكن اشكال هذه المراقبة، وهي ضرورة بدهية من الوجهة العسكرية، وإني لأقبل كذلك ضرورة من نوع دبلوماتي إذ يجب علي الصحافة ألا تقيم العراقيل أمام عمل الحكومة قبل الدول الأخري سواء أكانت دولا متحالفة أم دولا صديقة أم دولا محايدة أم دولا عدوة ، بل يجب عليها للحكومة نشاط في هذا السبيل. واني لأذهب إلي أبعد من ذلك وأصرح بأني لا أتردد في قبول ضرورة ثالثة من طبيعة سياسية تجعل الصحافة في خدمة الأغراض القومية، إذ إن الجرائد ومحرريها يجب أن يعتبروا مقترعين للخدمة المدنية في الأمة المجندة (أقول ذلك وأنا من أعضاء المعارضة لأن المعارضة في أوقات الشدة يجب أن تكون معارضة معاونة). كمال لم يتردد مسيو «كزافييه فالا» ثاني المستجوبين في أن يضيف: « إنه لا يدُخل أعمال البورصة فيما يخرج عن نطاق الرقابة، لأن الصحافة يجب ألا تلهو بالتعليق علي تقلباتها»، فقرر إلي جانب تلك الوجهات الثلاث وجهة رابعة للرقابة هي الوجهة الاقتصادية. وهذان القولان واردان في المضبطة المنشور نصها في الجريدة الرسمية الفرنسية بتاريخ 17 فبراير سنة 1940 بالصفحة 186 فيما يختص بالتصريح الأول، وبالصفحة 194 فيما يختص بالتصريح الثاني. 3- أما الآيات القرآنية الكريمة والحكم القديمة والجديدة ، فتفصيل أمرها أن بعض الصحف أخذ ينشر مفاجأة ، في الصفحات الرئيسية المخصصة للمقالات والأخبار السياسية وفي أماكن بارزة من هذه الصفحات ، آيات من القرآن الكريم وأبياتا من الشعر وقطعا من الأدب القديم لفت نظر الرقباء منها أنها تنشر منفردة لا في سياق مقال ولا علي سبيل الاستدلال، كما لفت نظرهم أن كل واحدة منها يجوز تأويلها لغير ما نزلت له، أو قيلت لمناسبته، ولا سيما إذا ربطت بحادثة معروفة أو أرجعت إلي تصرفات معينة. وكان الكلام في بعض تلك المقطوعات الأدبية واردا علي لسان خصوم لبعض ملوك العرب وأمرائهم السابقين، فناجي الرقباء مديري تلك الصحف بما ساورهم، ورجوهم أن يقلعوا عن خطتهم غير المألوفة ، وأن يخصصوا في جرائدهم صفحة للأدب ينشرون فيها ما يشاؤون من الآيات والفقه والحِكَم والشعر فلا يكون له من الصبغة السياسية مثل ما يكون حين ينشر في الصفحات الرئيسية... لكنهم لم يفوزوا بمشاركة المديرين آراءهم. وحدث أن تقدم للرقابة بعض أهل الذكر وأهل الفقه بمثل ملاحظات الرقباء لمديري الصحف المذكورة ، وأظهروا عدم استساغتهم جعل الصحف المصرية ميدانا لتحريف كلام الله عن مواضعه، فرأت مراقبة النشر أن تبعث إلي حضرة مدير جريدة «المصري» كتابا أطلعت علي صورة منه حضرة مدير جريدة «الوفد المصري» وهذا نصه: حضرة المحترم مدير جريدة «المصري» بعد التحية الصادقة، أتشرف بأن ألفت نظر حضرتكم إلي أن دأب جريدتكم علي نشر آيات من القرآن الكريم وأبيات من الشعر وقطع من الأدب العربي القديم في أمكنة بارزة من الصفحات المخصصة لمعالجة الشئون السياسية، قد دعا البعض إلي ملاحظة عدم استساغة إقحام كلام الله في الخلافات الحزبية ولا ترك القارئ يحسب أن الجريدة تعرص لمقامات مصرية معاصرة عن طريق التورية بالإرجاع إلي حوادث ماضية. فأرجو أن تعملوا علي محو ذلك الأثر الذي دعا إلي ملاحظات من أشرت إليهم بالامتناع عن نشر الآيات القرآنية الشريفة والأبيات الشعرية والمقطوعات الأدبية والتاريخية في صفحات السياسة والأخبار، والاكتفاء بنشرها في صفحة خاصة بالأدب كما هو مألوف في سائر الصحف السياسية اليومية. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام مدير مراقبة النشر محمود عزمي وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من ديسمبر لسنة 1939، وقد حاولت «جريدة المصري» مع ذلك أن تعود إلي نشر آيات من القرآن الكريم منفردة وفي صفحاتها السياسية الرئيسية، بل خصصت آيات من سورة «مريم» لتكون مقالها الافتتاحي في اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر المذكور، فكان الرقيب يحول دون ذلك بالإرجاع إلي كتاب مراقبة النشر في هذا الصدد، ولكن هذا لم يحل دون إصرار الجريدة علي استمرار المحاولة حتي انتهت بها يقظة الرقيب إلي النزول علي رأي الرقابة، فخصصت لنفسها صفحة أدبية وعلمية جمعت فيها كل ما كان الرقيب يمنع نشره في الصفحات السياسية، فلم يتردد الرقيب في إجازتها، وظهرت الصفحة فعلا في العدد الصادر بتاريخ 19 يناير سنة 1940 . ولعل في ضرب مثل واحد مما كان ينشر، ومثل واحد آخر مما كان يمنع، ما يكفي لإعطاء فكرة عن مدي ما كانت تجر إليه قطع الأدب وأبيات الشعر بل آيات القرآن الكريم. استقال أحد الشيوخ المحترمين من «الوفد المصري» وأعلن استقلاله عن الأحزاب، فتناولته الصحف الوفدية بألوان النقد والتقريع والتجريح، وقامت صحف أخري تدافع عنه، وقام هو يشرح موقفه، ولم تر الرقابة أن تتدخل حتي طلب إليها ذلك وأُبلغت أن حضرة الشيخ المحترم الأستاذ «يوسف الجندي» يلح في طلب التدخل لمنع ذلك الحوار الذي كاد يتاخم المهاترة من الجانبين. فتدخلت الرقابة وحالت دون نشر ما يتصل بذلك الموضوع عند هؤلاء وعند هؤلاء. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: الحقيقة في هذه الواقعة أنني انتقدت الرقابة لأنها في الوقت الذي سمحت فيه ل«جريدة الدستور» بمهاجمة المعارضة دفاعا عن حضرة الشيخ المحترم الأستاذ «حسن عبدالقادر» منعت الجرائد الوفدية من نشر ردها علي هذه الجريدة وطلبت التدخل لإباحة نشر ما منع، وأظن أن سعادة الرئيس يذكر هذه الواقعة. (حضر حضرتا صاحبي المعالي سابا حبشي بك وزير التجارة والصناعة ومحمود توفيق حفناوي بك وزير الزراعة). حضرة الدكتور محمود عزمي (مدير مراقبة النشر): عندئذ لجأت جريدة «المصري» إلي علوم البلاغة والنحو والنفس، وإلي حكمة الشعر بل إلي آيات القرآن لتقول عن طريقها ما هي ممنوعة من قوله عن طريق الذكر الصريح. جاءت جريدة «المصري» في العدد الصادر في تاريخ 15 ديسمبر سنة 1939 ونشرت في أبرز مكان بصفحة أخبارها الرئيسية عن «السكوت والرضاء بين علوم البلاغة والنحو والنفس» ما يأتي: يقول علماء البلاغة إن السكوت قد يكون معناه الرضا، وجري هذا مجري المثل فأصبح كلما سمع الناس كلاما وسكتوا عنه عد هذا السكوت رضاء منهم ، فإذا تحاج اثنان بعد هدوء وذكر أحدهما أن أحدا لم يقبل هذا ولم يرض عنه، قيل له قد سمعته وسكت، والسكوت معناه الرضاء كما قرر علماء البلاغة. وقد رد كثير من علماء النحو علي هذه النظرية واحتجوا بأن «قد» في قولهم «قد يكون» إنما هي للتقليل، كقولهم: قد يصدق الكذوب! ومرادهم بهذا أن يوفقوا بين علم النفس وعلم البلاغة، فعلم النفس يقرر صراحة أن السكوت في كثير من الأحيان معناه الرضاء ولكن عدم الجهر به إنما هو طارئ يزول وتظهر الحقيقة واضحة علي ألسنة أولئك الذين سمعوها وسكتوا. وكما يقول فيكتور هوجو «الحقيقة عرجاء ولكن لابد لها في النهاية أن تصل». ثم أردفته من حكمة الشعر بهذا البيت: «تعالي الله، ياسلم بن عمرو / أذل الحرص أعناق الرجال» وتبعت «المصري» ذلك بعد أسبوع بأن نشرت من «عظة القرآن» هذه الآية الكريمة: «ومن الناس من يعبد الله علي حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب علي وجهه .. خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين». ولمناسبة أخري حاولت أن تنشر القطعة الأدبية التاريخية التالية بعنوان:«من عبر الأيام - كلكم طالب صيد»: دخل عمرو بن عبيد الزاهد المعروف علي المنصور، وعنده ابنه المهدي، فقال له المنصور: هذا ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين، ورجائي أن تدعو له فقال: يا أمير المؤمنين ، قد رضيت له أمورا يصير إليها وأنت عنه مشغول ( يريد: وأنت مشغول عنه بعد وفاتك بحساب الآخرة) فاستعاذ أبو جعفر وقال له: عظني يا أبا عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها، هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يد من كان قبلك لم يصل إليك، قال: يا أبا عثمان، أعني بأصحابك قال: ارفع علم الحق يتبعك أهله، ثم خرج فأتبعه المنصور ببصره وجعل يقول: «كلكم طالب صيد، كلم صاحب كيد، غير عمرو بن عبيد». كما حاولت جريدة «الوفد المصري» للمناسبة ذاتها، أن تنشر الحكمة القائلة: «أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر». ذلك هو تفصيل أمر المؤاخذة الأولي، ومنه يتضح في جلاء أن السبب في حظر نشر الآيات القرآنية علي تلك الصورة الانفرادية البارزة في صفحات السياسة إنما كان هو الحرص علي ألا يحرف كلام الله عن مواضعه، فينزل به إلي درك المهاترات الشخصية، وأن السبب في حظر نشر قطع الأدب القديم علي تلك الصورة ذاتها إنما كان هو الحرص علي أن تبقي ذوات المقامات المصرية مصونة عن طريق التورية والتلميح كما هي مصونة عن طريق الإبانة والتصريح. ويتضح في جلاء كذلك أن ماورد في الاستجواب من أن الرقيب أمعن في منع النشر حتي في صفحة خاصة بالأدب غير مطابق للواقع.